لا شك أن كل أحد منا معرّض للفتن، وكل أحد- تبعاً لذلك- قابل للسقوط أو الصمود. لكن وقوع العلماء، من بين كل فئات المجتمع، وقت الفتن والمحن، أشد ضررا على الأمة، وخاصة أننا في زمن الاتصالات وسرعة انتشار الخبر والمعلومة، وبالتالي الخطأ الذي يقع من شخصيات يثق العامة بها، لاسيما علماء الدين، ضرره كبير، مهما تكن محاولات التصحيح والترقيع بعده.
إن كثرة الظهور الإعلامي وسيطرة شهوة نيل الشهرة والبقاء تحت الأضواء، أمر في غاية الخطورة لمن لا يحسن التعامل مع كل تلك الأمور بحكمة واعتدال، وأتحدث ها هنا عن كل النوعيات من البشر، سياسيين وفنانين ومفكرين ومعهم علماء دين أو دنيا كذلك. فإن تلك الأمور مثلما ترفع الشخص إلى مستويات ومراتب عليا، قادرة أن توقعه أسفل سافلين، فيفقد أكثر مما كسب وجمع.
لقد ساعدت التقنية في الاتصالات والمعلومات اليوم على كشف الكثيرين، وساعدت على رصد كل ما كان منهم وما هو كائن الآن، وصار بالإمكان تسجيل وحصر ما كان عليه أحدهم قبل وبعد. وحديثي هاهنا تحديداً عن علماء أو مشتغلين بالدين، لأن سقوطهم كما أسلفنا، ضرره كبير، ليس عليهم فحسب، بل على الآلاف المؤلفة من العامة الذين وثقوا بهم وعلمهم في سالف الأيام، واحتمالية أن يكون هؤلاء العلماء أو المشتغلون بالدين، عامل تشكيك عند البعض في الدين نفسه، وهو الضرر الأكبر.
ليس مطلوباً ولا واجباً ممن استهوتهم الشهرة الإعلامية، والظهور المستمر في المنصات الإعلامية المختلفة، التحدث في كل مجال، أو خوض بحار لا يجيدون السباحة فيها، وخصوصاً علماء الدين باعتبارهم ورثة الأنبياء، كما في حديث طويل «إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، إنَّما ورَّثوا العلم، فمن أخذَه أخذ بحظ وافر».
وبالتالي يُفترض أنهم على منهج وسبيل الأنبياء يسيرون، أي الحرص كل الحرص على عدم فتح أي ثغرة يمكن أن يتسلل الشك منها إلى نفوس العامة بعدم خوض ما لا يجيدون فيه، وخاصة أننا نعيش عصر التخصص، بما في ذلك الدين. هذه نقطة أولى.
النقطة الثانية أن من يقبل الظهور الإعلامي من علماء الدين والبقاء في الأضواء، رغبة في نشر العلم الشرعي وتثقيف الناس وتوعيتهم بأساسيات وفروع دينهم، ألا ينزلق في متاهات ودروب مجالات أخرى تتطلب علماً وفهماً ودراية ووعياً ومتابعة، وألا يتم استدراجه إلى مناطق يتم استنطاقه بطريقة وأخرى لأجل منفعة فئة معينة، ولو على حساب سمعته وشهرته ومستقبله.
إن من يقبل الظهور الإعلامي المستمر من علماء دين أو غيرهم من الشخصيات العامة، عليه أن يكون حصيفاً ذكياً حكيماً، لا يخدعه مخادع من الإعلاميين أو المنصات الإعلامية التي تبحث عن الرواج والشهرة على حساب الآخرين.
لا شيء أن يظهر أحدنا في المنصات الإعلامية، إن كان يملك فهماً ودراية بالموضوعات التي سيتحدث عنها، بشرط ألا يكون الظهور رضوخاً لضغوطات سياسية أو طمعاً في مكاسب مالية أو رغبة للتوافق والسير وفق المزاج العام السائد في المجتمع، فالكثرة لا تعني الصواب دوماً.
الظهور الإعلامي له مكاسبه المتنوعة دون شك. فمن يكتسب شهرة إعلامية تجده ضيفاً دائماً على المنصات هنا وهناك، مع ما يصاحب ذلك من مكاسب مادية تزيد مع ازدياد الشهرة. لكن الخطورة هاهنا لمن لا يتنبه سريعاً لكثرة ظهوره، أن تلكم الكثرة تعني دفعه واقترابه نحو محرقة تنسف ماضيه وربما مستقبله، ما لم يقف ويهدأ حيناً من الدهر، وإلا ستبدأ شهرته فعلياً بالتآكل والضمور تدريجياً، وخاصة إن بدأت تصدر عنه آراء أو مواقف تتصادم مع المزاج العام أو تعمل على اختلاف وانشقاق الناس.
نعم للظهور الإعلامي بشرط الثبات على الحق، ومع الحق في كل زمان ومكان، مهما بدا الباطل جذاباً أو مؤثراً، وهذا أمر أجده غاية في الصعوبة نظراً لاختلاف المواقف والتوجهات بين الحين والحين، ولأنه يحتاج قوة إيمان ووضوح رؤية وثباتا على المبادئ. وقلما تجد هذه النوعية من الثابتين في زمننا هذا، لأن أحدهم إما أن يكون من النوعية التي تخاف على نفسها وأهلها ومالها، وتظن أن قول الحق سيكلفها الكثير، فاختارت الصمت، باعتبار أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
وإما من النوعية التي تثبت ولا تتزحزح عن الحق قيد أنملة، مهما اختلفت الظروف والمواقف والتوجهات وكانت الضغوط، وبالتالي تجدها إما أن أفواهها قد كُممت أو أقلامها كُسرت بصورة وأخرى، أو تجدها في غياهب السجون! والأمثلة عبر تاريخنا أكثر مما يمكن حصره وذكره في هذه المساحة.
لكن الله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.