لن تعلم كل شي إلا اذا كنت ليس كمثلك شيء وطالما أنك شي فستعلم اشياء وتغيب عنك أشياء .. ولهذا فلا تطلق العنان لأسئلتك ..لأن ذلك ينم عن مدى جهلك بذاتك؛ فمتى أدركت حجمك سبحت بفكرك في ذلك المجال ..وتوقفت فيما لا طاقة لك به ؛ وأيقنت بأن الحكمة وارده فيما جهلت ولكنك يعز عليك إدراكها !!
حين تكبر أسئلتك .. يكبر معها علمك الى حد معين؛ وعند هذا الحد تصبح أسئلتك فيما ليس لك به علم بأن تضعك في دائرة الجاهلين !
( فلا تسألني ما ليس لك به علم إني اعظك ان تكون من الجاهلين ) هود:46
أي لا تسأل عن أشياء ليس بمقدورك أن تعلمها !!
وما تفلسف الفلاسفة ، وتزندق الزنادقة ، وكثر كلامهم ، وقل عملهم وزلت أقدامهم ؛ إلا لأنهم تجاوزوا حد إدراكهم الذي حده لهم خالقهم وطرقوا بابا من العلم لا يملكون الإناء الكافي لاستيعابه ؛؛ ولو أنهم ساروا على خطى سيدنا نوح عليه السلام لكفاهم ذلك حين قال : ( قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ماليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ) هود:47.
كان يشق على النبي محمد ﷺ كفر قومه واعراضهم عما جاء به
لاينبغي لأحد ان يسأل عما يفعل الله كما أنه لا يمكن الإحاطة بالحكمة من وراء هذا الفعل ..(لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) الأنبياء:23.
ولهذا عندما سأل سيدنا موسى ربه ..قال رب أرني انظر إليك .. لم يقل له الله ..إني أعظك أن تكون من الجاهلين كما قال لسيدنا نوح ..لأن سؤال سيدنا موسى يتعلق بذات الله وصفاته ؛ وليس بأفعاله ..وهي من الأشياء التي يمكن فهمها واستيعابها ؛ بل واجب البحث فيها (ولا أقصد الإحاطة بها) .. ولا شك بأن سيدنا موسى كان مؤمناً حقاً ولكنه أراد أن يرتقي في هذا السلم المعرفي للوصول إلى مستوى لم يسبقه اليه غيره ..ولهذا لما أفاق سيدنا موسى من صعقته قال : (… فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) الأعراف:143.
ومن ذلك سؤال سيدنا إبراهيم عليه السلام ..رب أرني كيف تحي الموتى قال او لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي .. أي لينتقل من درجة الإيمان إلى درجة اليقين .
ومن الأسئلة المتعلقة بالتعرف على قدرة الله في قوله تعالى : ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها ؟فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير ) البقرة:259.
فلا تكونن من الجاهلين!
قال تعالى ( وان كان كبر عليك اعراضهم فان استطعت ان تبتغي نفقا في الارض او سلما في السماء فتاتيهم بايه ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين ) الأنعام : 35
كان يشق على النبي محمد ﷺ كفر قومه واعراضهم عما جاء به .. ويقول الزمخشري في تفسيره ( الكشاف ) : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى بان ياتيهم بآيه ملجئه ، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة .
والذي يظهر من هذه الآية والله تعالى أعلم ..بأن سيدنا محمد ﷺ كان يشق عليه كفر قومه وكان يتمنى من الله أن يعطيه آيه تجعل قومه يهتدون ؛ ولكنه لم يسأل ربه عنهم كما سأل سيدنا نوح عليه السلام عن كفر ابنه ؛ ولهذا نجد بأن الجواب كان مختلفاً مع الإثنين ؛ ففي آية الأنعام (فلا تكونن من الجاهلين ) ومع سيدنا نوح (إني اعظك أن تكون من الجاهلين )
فالأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم بشر مثلنا والا كيف يكونون لنا أسوة حسنة ..وماقص الله علينا قصصهم إلا ليكونوا لنا نبراسا ينير دربنا لنرقى بنهجهم في سلم الطهر والفضل والمعرفة ؛ وان بعدت درجات هذا السلم فيما بيننا وبينهم إلا أننا على دربهم سائرون بإذن الله.
السؤال الخطأ .. لماذا خلقنا الله ؟
دائماً الأسئلة الخاطئة في معناها لا تنتج إلا عن فهم ضيق ؛ ومن هذه الأسئلة قولك ..لماذا خلقنا الله ؟
لأن خلق الله للإنسان فعل ..وفعل الله لا ينبغي السؤال عنه ..كما أوضحنا سلفا في قوله تعالى ( ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون).
جعل الله الشكر في الإتجاه المقابل للكفر في أكثر من موضع في القرآن الكريم
والسؤال الأدق هو : ماهو حق الله علينا ؟ أو ما هو واجبنا تجاه خالقنا ؟ لأنك قد صرت موجودا بإرادة الله وفضله ..وامتلكت أفضل نعمة ألا وهي نعمة الوجود الإنساني ..ولم يجعلك الله شيئا آخر فحري بك ان تشكر هذه النعمة العظيمة بدلاً عن الانشغال بالأسئلة السقيمة .. ولو قدر كل إنسان هذه النعمة لما وجدنا احدا يفجر نفسه بحزام ناسف في تجمع بشري مسالم.
والجواب لهذا السؤال الصحيح .. موجود في القرآن الكريم في قوله تعالى: (وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) الذاريات:56 . أي ليعرفوني .. فلا تكن عباده من غير معرفه .. والعبادة هي الوسيلة والتعبير عن الشكر ومن خلال العبادة يتحقق التقوى والدليل على ذلك قوله تعالى: ( …. اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة:21. ؛ ومن خلال التقوى يتحقق الشكر والدليل على ذلك قوله تعالى :( …. فاتقوا الله لعلكم تشكرون ) آل عمران :123. فالشكر هو الواجب الأسمى على الوجود الإنساني تجاه خالقه .
لقد جعل الله الشكر في الإتجاه المقابل للكفر في أكثر من موضع في القرآن الكريم كما في قوله تعالى : ( إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا ) الإنسان:3.
(إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم …) الزمر:7.
وحين امتدح الله عبده ورسوله نوح عليه السلام وصفه بأنه عبدا شكورا قال تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) الإسراء:3.
لماذا الشكر مقدم على الإيمان ؟
قال تعالى: ( ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكراً عليما ) النساء:147.
يقول الزمخشري في تفسيره الكشاف :فإن قلت لم قدم الشكر على الإيمان ؟ قلت : لأن العاقل ينظر إلى ما عليه من النعمه العظيمة في خلقه وتعريضه للمنافع ، فيشكر شكراً مبهما ، فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكراً مفصلاً، فكان الشكر متقدماً على الإيمان، وكأنه أصل كل التكليف ومداره.
لا يوجد في القرآن الكريم سؤالا بهذه الصيغة .. لماذا خلقنا الله ؟ ولكن هناك اسئلة تصب في اتجاه التعرف على الله وقدرته وإثبات وجوده ..ومنها في قوله تعالى : ( أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون ) الطور:35.
هل خلقت من غير خالق؟ الجواب قطعا ..لا
هل خلقت نفسك ؟ الجواب قطعا ..لا
إذا فالنتيجة الحتمية لهذين السؤالين هي بأن لك خالقا خلقك وخلق هذا الكون ..فتعرف عليه.
فالإنسان أول ما تبصر عينه النور فإنه يبدأ في هذا الخط المعرفي والناس متفاوتون في معرفتهم بالله قربا وبعدا ..ومصداق ذلك في قوله تعالى ..فاعلم انه لا إله إلا الله .. اي تعرف على وحدانية الله بعلم ..وليس تقليدا ومحاكاة ينتج عنها التملق والنفاق .
القرآن الكريم منهج راقي يرقى بالإنسان فكريا واخلاقيا ..ولا ينال ذلك إلا من تدبره ورفع عن القلوب أقفالها.