ربما كانت سودة بنت زمعة بن قيس – رضي الله عنها- أقل نساء النبي – ﷺ – شهرة ومكانة، وكانت أكبرهن سنا، فقد كانت زوجة للسكران بن عمرو – رضي الله عنه-، وهاجرت معه إلى الحبشة الهجرة الثانية، فمات عنها، قيل: في الحبشة، وقيل: بعدما رجع مكة من الحبشة.
وبقيت سودة بنت زمعة أرملة، لا تفكر في الزواج، وهي المرأة كبيرة السن، ثقيلة الحركة، لكنها كانت من الصالحات، المحبات لله ورسوله ﷺ.
وربما لم يدر في خلد سودة يوما ما أن تكون أما للمؤمنين، وزوجة لرسول رب العالمين، ولم يكن عندها من المؤهلات ما يدفعها للتفكير في هذا، ولكن الله سبحانه وتعالى اصطفى سودة بنت زمعة أن تكون زوجة لرسول الله ﷺ، بل تكون أول زوجة له بعد خديجة – رضي الله عنها-، فهي الزوجة الوحيدة التي سكنت مكان خديجة، وباقي النساء عشن مع النبي ﷺ في بيته في المدينة المنورة.
والأمر كما قالت خولة بنت حكيم الأسدية التي اقترحت على رسول الله ﷺ أن يتزوجها؛ كي تقوم ترعى بناته؛ زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة – رضي الله عنهن، حين ذهبت إليها، وقالت لها: أي خير ساقه الله تعالى إليك يا سودة؟ وكأنها تقول لها بلسان الحال: ما الذي بينك وبين الله تعالى، حتى يكتب الله تعالى لك أن تكوني زوجة لرسول الله ﷺ، ولم تصدق سودة بنت زمعة أن النبي ﷺ أرسل خولة بنت حكيم لتخطبها، فوافقت على الفور، وكلمت خولة أباها زمعة بن قيس، فقال عن النبي ﷺ: كفء كريم.
وتزوجها النبي ﷺ سنة عشرة من البعثة بعد وفاة خديجة، وكانت خولة بنت حكيم قد خطبت له عائشة أيضا، فلما كانت الهجرة بنى النبي ﷺ بعائشة، وكانت معه سودة.
وقد كانت من محاسن سودة بنت زمعة – رضي الله عنها- أنها كانت تجيد فن التفاوض، ورغم ما نقله بعض أهل التاريخ عنها أنها كانت تتصرف أحيانا إلى حد السذاجة؛ إلا الناظر إلى سيرتها ليجد عندها من الخلال والأخلاق ما يفوق بعض ما قد يكون فيها، فقد كانت تجيد فن التفاوض في الحياة الزوجية، كما كان عندها دراية فطرية بفقه الأولويات، والموازنة بين المصالح والمفاسد.
ويظهر هذا من أول يوم في الهجرة بعد انتقالها من مكة إلى المدينة في بيت النبي ﷺ، وما أن بنى رسول الله ﷺ بعائشة، فلم تقارن نفسها بعائشة باعتبارها زوجة لرسول الله ﷺ كما أن عائشة زوجة له، بل هي أسبق منها في زواج الرسول ﷺ بها، لكنها تعلم مكانة عائشة وأبيها عند رسول الله ﷺ، فلم تدخلها معها فيما يعرف بين الضرائر من المنافسة، فسلمت زمام البيت من أول يوم تجيء فيه عائشة، فجعلتها هي سيدة البيت الأولى، وهي صاحبة التصرف، وهي لها تبع في ذلك، فكسبت رضا رسول الله ﷺ ورضا عائشة – رضي الله عنها- بل ورضا المؤمنين، وكانت هذه أول جولة تكسبها سودة بنت زمعة – رضي الله عنها-، فقد علمت حب النبي ﷺ عائشة، فما كانت لتقدم نفسها عليها، فكسبت بذلك حب النبي ﷺ ورضاه.
ولما تزوج النبي ﷺ بحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش، وأم سلمة – رضي الله عنهن- لم تجد سودة – رضي الله عنها- مكانا لها بين النساء الجدد، فلا هي في جمالهن، ولا في سنهن، ولا في حكمتهن ولا ذكائهن، وهي توقن أن مكانتها عند النبي ﷺ ليست كمكانة أي منهن، وقد شعر النبي ﷺ بذلك، فحاول تعويضها بما عرف عنه من العدل بين الزوجات، وأنه كان يلاطفها ويداعبها – رغم كبر سنها، وكانت هي حريصة على ذلك، فكانت لها مشية مضحكة، فكانت تحرص أن تمشي أمام النبي ﷺ بهذه المشية حتى تضحكه ﷺ، وربما كانت تقول له بعض الفكاهة من القول حتى يتبسم الرسول ﷺ.
ولكن النبي ﷺ أحس بما قد نابها من الأذى النفسي، من كونها لا تجد نفسها في مستوى الزوجات، فأراد النبي ﷺ أن يخفف عنها ما هي فيه، فعرض عليها الطلاق، وقيل: إنها طلقها، فكأنما اسودت الدنيا في وجهها، نعم، إنها لا تجد نفسها زوجة مثل باقي الزوجات، لكنها زوجة رسول الله ﷺ، وأم للمؤمنين وكفى بذلك فخرا وشرفا، وفي إحدى الليالي التي كان النبي ﷺ يبيت عندها، عرض عليها الطلاق، فأمسكت بيد النبي ﷺ تتوسل إليه أن يبقيها قائلة: يا رسول الله ما بي حب الرجال ولكني أحب أن أبعث في أزواجك فأرجعني.
وبقيت سودة هذه الليلة في حيرة من أمرها بين رغبة الرسول ﷺ في طلاقها، وبين رغبتها في بقائها زوجة له، وقبيل الفجر لاحت لها فكرة ترضي بها رسول الله ﷺ وتعرض عليه أن تتنازل عن ليلتها لعائشة – رضي الله عنها- مقابل أن يبقيها زوجة له، فوافق النبي ﷺ على ذلك ورق لحالها، فأرجعها، وقيل: فيها نزل قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } [النساء: 128].
لقد قامت سودة – رضي الله عنها- بجودة فائقة بمهارات التفاوض في الحياة الزوجية، فهي بين خيارات متعددة، فالرسول يريد طلاقها، أو طلقها على اختلاف الروايات، ففكرت كيف تكسب ود النبي ﷺ وتجعله يعدل عن رأيه، فقدمت ليلتها لعائشة، وهو نوع من التنازل الصعب في حياة الزوجة، لكنها امرأة كبيرة السن لا حاجة لها في المعاشرة الزوجية، فتنازلت عن ليلتها، مقابل أن تبقى زوجة لرسول الله ﷺ في الدنيا، وأما للمؤمنين، كما أنها تحشر مع النبي ﷺ زوجة له في الآخرة، فقد أجادت سودة فن التفاوض بامتياز، وكسبت أرباحا كثيرة بأقل الخسائر، وهي تقدم للزوجات مهارة قد تحتاجها كثير من النساء في التفاوض مع الزوج في الحياة الزوجية بشكل عام، فالحياة الزوجية ليست قائمة فقط على العواطف، بل هي في حقيقتها قائمة على المصالح، وقد أعملت السيدة سودة – رضي الله عنها- بقاعدة تقديم المصلحة الكبرى على المفسدة الصغرى، وأنه يتحمل الضرر الأخف، وهو التنازل عن ليلتها، في مقابل الضرر الأكبر، وهو طلاقها من النبي ﷺ، وهي تعلمنا جميعا إعمال القواعد الفقهية في الحياة الزوجية.