إن من أبرز مقاصد سورة الزلزلة إثبات يوم القيامة ووصف جوانب من أحواله وأهواله وما يقع بين يدي الساعة هو الزلزال الشديد، وما يعقب ذلك من أُمور عجيبة، يندهش لها الإِنسان بما يرى من انهيار كل راسخ، وزوال كل شامخ، وإِخراج الأَرض لما فيها من موتى، وإِلقاءِ ما في بطنها من كنوز ودقائق، وشهادتها على كل إِنسان بما عمل على ظهرها فتقول له: عملت يوم كذا كذا وذلك بإِيحاءِ ربك لها: (إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا … ) الآيات.
وكان من مقاصدها الظاهرة أن الناس يوم القيامة مجازون حسب الأعمال التي قدموها بين يدي القيامة، فقال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}. بحيث لا يضيع من هذه الأعمال شيئا حتى قدر الذرة سيجدها الناس.
سميت هذه السورة في كلام الصحابة سورة: (إذا زلزلت) روى الواحدي في «أسباب النزول» عن عبد الله بن عمرو: «نزلت إذا زلزلت» وأبو بكر قاعد فبكى».
وفي حديث أنس بن مالك مرفوعا عند الترمذي: «إذا زلزلت» تعدل نصف القرآن. وكذلك عنونها البخاري والترمذي.
وسميت في كثير من المصاحف ومن كتب التفسير «سورة الزلزال»
وهذه السورة مكية قال الآلوسى: هي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء، ومدنية في قول مقاتل وقتادة.
والراجح بين القولين أن السورة مكية، لأن الحديث عن أهوال يوم القيامة، يكثر في السور المكية، ولأن بعض المفسرين- كالإمام ابن كثير- قد اقتصر على كونها مكية، ولم يذكر في ذلك خلافا[1].
الزلزلة يوم القيامة
أخبر المولى سبحانه وتعالى في بداية السورة من خلال الآيات الأولى عن واقعة الزلزال يوم القيامة، يقول الله تعالى: ﴿إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا ١ وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا ٢ وَقَالَ ٱلۡإِنسَٰنُ مَا لَهَا ٣ يَوۡمَئِذٖ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا ٤ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا ٥ يَوۡمَئِذٖ يَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتٗا لِّيُرَوۡاْ أَعۡمَٰلَهُمۡ ٦ ﴾ [الزلزلة: 1-5]. والمقصود بالزلزال الحركة الشديدة والاضطراب العجيب الذي يقع للأرض، ويكون هذا الزلزال الشديد، عند ما يأذن الله- تعالى- بقيام الساعة، ويبعث الناس للحساب. وافتتح- سبحانه- الكلام بظرف الزمان إِذا، لإفادة تحقق وقوع الشرط.
ومن فوائد افتتاح الكلام بظرف الزمان مع إطالة الجمل المضاف إليها الظرف في الآية تشويق إلى متعلق الظرف إذ المقصود ليس توقيت صدور الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، بل الإخبار عن وقوع ذلك وهو البعث، ثم الجزاء، وفي ذلك تنزيل وقوع البعث منزلة الشيء المحقق المفروغ منه بحيث لا يهم الناس إلا معرفة وقته وأشراطه فيكون التوقيت كناية عن تحقيق وقوع الموقت[2].
ذكرت الآيات بعض الآثار التي تترتب على هذا الزلزال الذي سيقع يوم القيامة والتي منها:
1 – أن الأرض تلفظ ما في بطونها من الأموات والأجسام المختلفة وذلك بعد النفخة الثانية، قال الله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها} ألقت ما في جوفها من الأموات والدفائن، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق 3/ 84 – 4].
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل، فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا.
وأما إخراج الأرض أثقالها فهو ناشىء عن انشقاق سطحها فتقذف ما فيها من معادن ومياه وصخر. فهذا الإخراج يشمل كل ما هو ثقيل في بطن الأرض.
قال القرطبي: ما يكون في جوف الأرض من أموات وكنوز وغير ذلك مما يكون في باطنها. قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في جوف الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، وإنما سمى الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم …
وهذا ما يستدعي الإعجاب والاستغراب من الإنسان فيبعثه على السؤال فيقول: ما بال الأرض تزلزل، ثم تخرج ما كان في باطنها؟!
وقد اختلف عن المراد بالإنسان هنا، هل للجنس يعني هل يقول ذلك كل ما هو حي، أم يقول ذلك الكافر فقط؟
وأَما المؤمن فيقول: “هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ”.
2- أن الله تعالى يهيئ للأرض فينطقها الله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا)
أَي: يوم إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا الشديد المتكرر تحدث الخلق أخبارها.
قيل: ينطقها الله حقيقة، فتخبر بطريق المقال بما عُمِلَ عليها من خير وشر، وتشهد على كل واحد بما عمل على ظهرها.
ويشهد لذلك ما أَخرجه الإِمام أَحمد والترمذي عن أَبي هريرة قال: قرأ رسول الله ﷺ هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) ثم قال: “أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارَهَا”؟ قالوا: اللهُ وَرسولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلى كل عَبْد وأَمَة بِمَا عَمِلَ ظَهْرِهَا فَتَقُولُ: عَمِلَ يَوْمَ كَذَا كَذَا، وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أَخرجت من أَثقالها.
ويشهد له ما في حديث ابن ماجه في سننه: “تَقُولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَارَبِّ هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَنِي
وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إِذا قال الإِنسان: ما لها، فتخبر أَن أَمر الدنيا قد انقضى وأَمر الآخرة قد أَتى. فيكون ذلك جوابًا عند سؤَالهم، إِلى غير ذلك مما قيل.
وقيل: يكون تحديثها بطريق الحال، حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأَجله وقع زلزالها وإِخراج أَثقالها، وذلك بما يخلق الله فيها من الأَحوال التي تقوم مقام الحديث باللسان، حتى ينظر من يقول: ما لها؟ إِلى تلك الأَحوال، فيعلم لِمَ زلزلت؟ ولم لفظت أَثقالها؟
(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) بمعنى أَنها تحدث أَخبارها بسبب إِيحاءِ الله لها، وأَمره – سبحانه- إِياها بالتحدث عن أَخبارها، فالمراد من الوحي: الإِيحاءِ والإِلهام، كما أَوحى الله إِلى أُم موسى، وقيل: الوحي إِليها: وحي إِرسال، بأَن يرسل إِليها -عزَّ وجل – رسولا من الملائكة بذلك فتعيه وتعمل بمقتضاه وفق تقدير العزيز العليم[3].
ورجح سيد طنطاوي أن هذا التحديث من الأرض على سبيل الحقيقة، بأن يخلق الله- تعالى- فيها حياة وإدراكا، فتشهد بما عمل عليها من عمل صالح أو طالح، كما تشهد على من فعل ذلك[4].
ولعله رجح ذلك وفق الحديث والآثار السابقة التي تدل على جواز وقوع ذلك، ولا يستبعد لأن أحداث يوم القيامة المختلفة الهائلة مما تخرق العادة، وتفوق أوصاف البشر.
3 – خروج الناس من القبور للحساب والجزاء متفرقين يقول الله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)، وذلك بعد زلزال الأرض، وينصرف الناس إِلى موقف الحساب متفرقين بحسب أَعمالهم، حيث يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأشير إلى أن تفرقهم على حسب تناسب كل جماعة في أعمالها من مراتب الخير ومنازل الشر بقوله: ليروا أعمالهم، أي يصدرون لأجل تلقي جزاء الأعمال التي عملوها في الحياة الدنيا فيقال لكل جماعة: انظروا أعمالكم، أو انظروا مآلكم[5].
أعمال الناس يوم القيامة
احتتمت سورة الزلزلة على الآيتين تمثلان خلاصة أهوال الموقف وأحداثه يوم الدين، وهو إثبات البعث والجزاء، يقول الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
والمعنى كل من يعمل في الدنيا عملا خيرا صغيرا أو كبيرا، يره بعينه أو يره الله إياه يوم القيامة، وكل من يعمل في الدنيا عملا شرا مهما كان قليلا، يره بنفسه أو يره الله إياه يوم القيامة. أو أن المراد: يجد جزاءه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
أما الكافر كما تقدم فحسناته في الآخرة محبطة بكفره وترد في وجهه، ويجد عقاب ما فعل من كفر أو شر، فيعذب بسيئاته، أي أن عموم الآية قائم، ولكن لا تقبل حسنات الكفار.
لذلك قال عن هذه الآية ابن مسعود: {فَمَنْ يَعْمَلْ.}.: هذه أحكم آية في القرآن.
اتفق العلماء على عموم هذه الآية. قال كعب الأحبار: لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزّبور والصّحف: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم-كما تقدم- يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة.
وأشار ابن رجب إلى حقيقة المقاصة من حلال الآيتين، يقول: “ظاهر هذا أنه تقع المقاصة بين الحسنات والسيئات، ثم تسقط الحسنات المقابلة للسيئات، وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة.. وهذا في الكبائر، أما الصغائر، فإنه قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها، كما قال – ﷺ -: “ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة”[6].
[1] التفسير الوسيط لطنطاوي (15/ 475).
[2] التحرير والتنوير (30/490).
[3] «التفسير الوسيط – مجمع البحوث» (10/ 1989)
[4] «التفسير الوسيط لطنطاوي» (15/ 477):
[5] «التحرير والتنوير» (30/ 494)
[6] «تفسير ابن رجب الحنبلي» (2/ 623).