إن قصة أبي لهب هي النموذج الأبرز للشخص الذي ما أغنى عنه ماله وما كسب. النموذج الذي سيتأمله المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولكن قبل أن يصل هذا النموذج إلى تلك المرحلة التي لا يغني عنه فيها ماله وما كسب، كان من أكثر المحبين لأخيه عبدالله الذبيح، والد نبينا الكريم – ﷺ. حتى إذا ما رزقه الله بولد وحيد هو نبينا الكريم وتوفى بعدها، قام أبو لهب مجسداً محبته لابن أخيه بعتق جاريته التي زفت إليه خبر الولادة.
يؤكد أبو لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، عم النبي الكريم – ﷺ – محبته لابن أخيه أكثر فأكثر. حتى قام بعد سنوات باختيار اثنتين من بنات ابن أخيه – ﷺ – لأولاده، عتبة وعتيبة. اختار رقية – رضي الله عنها – لعتبة، وأم كلثوم – رضي الله عنها – لعتيبة، رغم أنهما كانا على الشرك، فيما كانت رقية وأم كلثوم مسلمتين، حيث لم تكن آية تحريم تزويج المسلمات للمشركين قد نزلت بعد.
يتغير الوضع فجأة، ويضيع كل ذلك الحب الأبوي، وتنقلب الأمور رأساً على عقب بشكل دراماتيكي. فما إن انتشر خبر الدعوة والرسالة، حتى انقلبت قريش على الصادق الأمين، وكذَّبَت دعوته فوراً، وقامت بالتصدي لهذه الدعوة الجديدة في مكة. وكان من ضمن المنقلبين، أبو لهب الهاشمي، في خطوة غير مفهومة ولا مقبولة عند العرب حينذاك. إذ المفترض أن العصبية القبلية تتصدر المشهد عند أبي لهب يومذاك على عادة العرب، ولكن لم يحدث ذلك أبداً!
خالف أبو لهب كل تلك التقاليد العربية المتوارثة، فكان بدلاً من ذلك، من أوائل من جاهـر بالعداوة للرسول الكريم – ﷺ. وهو لم يكن – كما يبدو للوهلة الأولى – ليحتاج إلى كل تلك العداوة مع أحد أقرب المقربين إليه. بل لم تكن هناك حاجة تستدعي أن يتنافس هو مع آخرين من صناديد وعتاة القبائل القرشية الأخرى في معاداة أحد رجالات بني قومه، بني هاشم. لكن هذا ما حدث.
الانقلاب المذموم
انقلب إذن هذا العم، المحب لابن أخيه للدرجة التي أعتق جارية له فرحة بمولده – ﷺ – وقد كان معروفاً عندهم أن العربي لا يعتق رقاب عبيده وجواريه إلا لأمور عظيمة. إلا أن هذا العم خالف أبناء عبد المطلب وتقاليد بني هاشم وقريش وجل العرب بشكل عام. وقد كان المتوقع منه، وهو الهاشمي الأصيل، أن يكون كبقية إخوانه مع ابن أخيهم، يدافعون عنه حين بدأت قريش تؤذيه، ولو من باب العصبية القبلية، كعادة العرب في الجاهلية كما أسلفنا.
خالف أبو لهب توجهات بني هاشم واصطف مع كبار مجرمي قريش، أمثال أبي جهل وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف والنضر بن الحارث وغيرهم. وظهر وتبين أن سبب عداوته السريعة تلك، كما في الروايات التاريخية، هو حسد من عند نفسه على ما تفضل الله به على نبيه بالرسالة دون سائر بني هاشم. ليتطور ذلك الحسد إلى حقد أعمى ثم عداوة تتفاقم يوماً بعد يوم، حتى التهبت نفسه، وصارت ناراً تأكله هو وزوجته أم جميل، واسمها أروى بنت حرب، أخت أبي سفيان، والتي اشتهرت بحمالة الحطب بعد نزول سورة المسد فيهما. لكن مع ذلك لم تردعهما السورة التي نزلت وفيها وعيد شديد لهما، إلى أن هلكا وختم كل منهما حياته بشقاء أبدي في نار ذات لهب.
لم ينتفع أبو لهب بعلاقة القرابة مع خير البشر كما إخوته: سيد الشهداء حمزة، وجعفر الطيار، والعباس وعقيل وغيرهم. فلا هو أغدق خيراته على ابن أخيه ودينه مثل أولئك العظماء، ولا كفّ شره وناصره كأضعف الإيمان، مثل أخيه أبي طالب. لكنه أبى إلا أن يكون عقرباً لئيماً عنيداً حسوداً حقوداً، أنهى حياته بنهاية لن تسره لا في قبره ولا آخرته.
ما أغنى عني ماليه
كل ذلك المال والجاه الذي اشتهر به أبو لهب، لم يسعفه ولم يغن عنه يوم حاجته، وتحديداً يوم أن خرجت قريش لملاقاة المسلمين في بدر. فقد نفرت قريش وقام كل مقتدر على القتال بتجهيز نفسه، ومن لم يرد الخروج لسبب وآخر، قام بتجهيز الجيش أو دفع مالاً لآخر ليقوم مقامه في المعركة. فكان أبو لهب من أولئك المتخلفين أو الباحثين عن أي عذر لعدم الخروج. حيث دفع مالاً لمن يقاتل نيابة عنه، خشية أن يُقتل في بدر، وهو يعلم أن أذاه للنبي الكريم – ﷺ – في مكة، لن يمر مرور الكرام. ولابد أن دعوة منه، عليه الصلاة والسلام، ستصيبه عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما كان فعلاً.
انتهت المعركة بمقتل صناديد قريش وكبار المجرمين الذين آذوا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وصحبه أيما إيذاء. وانتشر الخبر المحزن في مكة، وكأنما أبو لهب وهو يسمع خبر المعركة، تنفس بعض الصعداء إذ لم يكن معهم، فيموت مثلهم. لكن كما في الروايات التاريخية، وتأكيداً لما عرفه الجميع من القرآن أن هذا الرجل وزوجته هالكان لا محالة، ولن تغني عنهما أموالهما الكثيرة بأي صورة من الصور. فقد أصاب أبا لهب مرض معد انتشر في جسمه، جعل الناس تتجنبه، حتى أهله والمقربين منه، إلى أن هلك. وخاف أهله الاقتراب منه لدفنه خشية أن يصيبهم ما أصابه، فتركوه أياماً حتى تعفنت جثته. فما كان منهم إلا أن حفروا حفرة قذفوه فيها بواسطة عصي، ثم رموه بالحجارة من بعيد بدلاً من التراب، في نهاية بائسة مذلة لم يقدر أقرب المقربين إليه إكرامه وقت دفنه، كما هو المعتاد مع أي ميت، تأكيداً لما قرره القرآن منذ سنوات، بأنه لن يغني عنه ماله ولا أولاده في تغيير نهايته الدنيوية، لينتقل بعد ذلك إلى عالم البرزخ، ينتظر بصورة وأخرى، نهاية ستكون أكثر بشاعة بالآخرة، جزاء ما اقترفته يداه.
خلاصة سورة المسد
خلاصة قصة أبي لهب كما في سورة المسد، أن كل ذلك المال والجاه والصيت لم تنفعه، ولم يكن لذلك كله أي تأثير في دفع البلاء عنه. كما يقول فخر الرازي في مفاتيح الغيب مفسراً آية {ما أغنى عنه ماله وما كسب} ( المسد : 2) فإنه لا أحد أكثر مالاً من قارون، فهل دفع الموت عنه؟ ولا أعظم ملكاً من سليمان، فهل دفع الموت عنه؟ وعلى هذا يمكن القول بأن في الآية إخباراً بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.
درس مختصر بليغ خلاصته أن من يعادي الحق ويصطف مع الباطل، رغبة أو رهبة، ولا يستثمر عمره وماله وقوته فيما ينفع آخرته، فلا معنى لحياته. إذ لا قوتك ولا مالك ولا جاهك ولا منصبك ولا سلطانك ولا جيشك ولا حشمك وخدمك ولا أهلك أو قبيلتك تنفعك في آخرتك، إن كنت تؤمن بآخرة وبجنة ونار – أعاذنا الله وإياكم منها – ورزقنا رؤية الحق حقاً فنتبعه، ورؤية الباطل باطلاً فنجتنبه. وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأنتم بخير.