في كتابه (الإحياء) أشار الغزالي إلى أن ثمة مصطلحاتٍ ومفاهيمَ تم تبديلها، ونَقْلها إلى معانٍ لم تكن مرادةً منها في القرن الإسلامي الأول؛ فصارت هذه المفاهيم والمصطلحات- بسبب هذا التبديل- محلَّ ذم، بعد أن كانت تُستعمل في المدح. وذكر مثالاً على ذلك خمسة ألفاظ، هي: الفقه، والعلم، والتوحيد، والتذكير، والحكمة.

وقال: “فهذه أسامٍ محمودة، والمتصفون بها أرباب المناصب في الدين؛ ولكنها نُقلت الآن إلى معانٍ مذمومة، فصارت القلوب تنفر عن مذمة من يتصف بمعانيها، لشيوع إطلاق هذه الأسامي عليهم”.

ثم أوضح الغزالي أن (الفقه) تم التصرف فيه “بالتخصيص، لا بالنقل والتحويل؛ إذ خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى، والوقوف على دقائق عللها، واستكثار الكلام فيها، وحفظ المقالات المتعلقة بها؛ فمن كان أشد تعمقًا فيها وأكثر اشتغالاً بها يقال هو الأفقه”.

أما معنى (الفقه) في العصر الأول فقد كان “مُطلَقًا على علم طريق الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس، ومفسدات الأعمال، وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب؛ ويدلك عليه قوله عز وجل: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} (التوبة: 122). وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه، دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة، فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف؛ بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه، كما نشاهد الآن من المتجردين له”.

وذكر الغزالي أدلة أخرى تؤكد هذا المعنى، ومنها قول الحسن البصري: “إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، البصير بدينه، المداوم على عبادة ربه، الورع الكاف نفسه عن أعراض المسلمين، العفيف عن أموالهم، الناصح لجماعتهم. وعقَّب الغزالي بالقول: ولم يقل [أي الحسن في تعريفه للفقيه] في جميع في ذلك: الحافظ لفروع الفتاوى.

واستدرك الغزالي، بأن معنى الفقه الاصطلاحي- أي العلم بالفروع والأحكام العملية- لم يكن خارجًا عن معنى الفقه المعروف في الصدر الأول؛ بل كان داخلاً فيه، لكن لم يكن محصورًا فيه ولا مخصوصًا به، كما هو الحال بعد ذلك؛ فقال: “ولست أقول إن اسم الفقه لم يكن متناولاً للفتاوى في الأحكام الظاهرة؛ ولكن كان بطريق العموم والشمول، أو بطريق الاستتباع؛ فكان إطلاقهم له على علم الآخرة أكثر. فبان من هذا التخصيص تلبيس بعث الناس على التجرد له، والإعراض عن علم الآخرة وأحكام القلوب، ووجدوا على ذلك معينًا من الطبع؛ فإن علم الباطن غامض، والعمل به عسير، والتوصل به إلى طلب الولاية والقضاء والجاه والمال متعذر؛ فوجد الشيطان مجالاً لتحسين ذلك في القلوب بواسطة تخصيص اسم الفقه الذي هو اسم محمود في الشرع”.

وهذا الذي ذكره أبو حامد الغزالي، وعرضنا له بشيء من التفصيل، أمر بالغ الأهمية في تتبع تطور العلوم والمصطلحات والمفاهيم، وفي معرفة ما وقع لها من تغير وتبدلٍ أصاب بعضها بالانحراف والعطب، أو ضيَّق واسعًا من معانيها ودلالتها.

ولا شك أن مفهوم الفقه في اللغة هو الأقرب لما ورد عنه في القرآن الكريم والسنة النبوية؛ وأن هذا المعني اللغوي هو المحرِّض على الفهم، وعلى سبر أغوار المعاني واستكناه الحقائق.. بينما انحصار معنى الفقه في الدائرة الاصطلاحية-أي العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية- أَفقَدَ هذا المفهوم كثيرًا من معانيه، وحجب العقلَ المسلم عن الإفادة الحقيقة منه كما ورد في القرآن والسنة.

وما أكثر ما يحزنني عندما أجد من يستدل على فضل (علم الفقه)- بمعناه الاصطلاحي- بالحديث المتفق عليه: “من يُرِد الله به خيرًا، يُفقِّه في الدين”، مع أن معنى الفقه هنا متصل بالدائرة اللغوية للمفهوم لا الدائرة الاصطلاحية، التي هي أضيق بكثير من الدائرة الأولى.

ولهذا قال ابن تيمية في (الفتاوى): “الفقه في الدين: فَهْمُ معاني الأمر والنهي، لِيَسْتَبْصِرَ الإنسانُ في دينه؛ ألا ترى قوله تعالى: {لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، فقرن الإنذار بالفقه؛ فدل على أن الفقه ما وَزَعَ عن مُحَرَّمٍ، أو دعا إلى واجب، وخوَّف النفوسَ مَواقِعَه المحظورة.

وإذا أردنا أن نقف على شيء من المعنى اللغوي لكلمة (الفقه)، فيكفي أن نشير لما جاء في (مقاييس اللغة) لابن فارس؛ حيث قال: “الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح، يدل على إدراك الشيء والعلم به. تقول: فقهت الحديث أفقهه. وكلُّ علم بشيء فهو فقه. ثم اختص بذلك علم الشريعة؛ فقيل لكل عالم بالحلال والحرام: فقيه. وأفقهتك الشيء ، إذا بينته لك”.

وجاء في (التعريفات) للجرجاني: “الفقه هو في اللغة: عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه، وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، وقيل: هو الإصابة والوقوف على المعنى الخفي الذي يتعلق به الحكم، وهو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل؛ ولهذا لا يجوز أن يُسمَّى الله تعالى فقيهًا، لأنه لا يخفى عليه شيء”.

وأوضح ابن القيم في (إعلام الموقعين) أن الفقه أخص من الفهم؛ لأن الفقه فَهْمُ مراد المتكلم من كلامه؛ وهذا قدر زائد على مجرد فهم وضع اللفظ في اللغة.

إذن، الفقه في معناه اللغوي أوسع دلالةً وأشمل في المعنى، وهو في الاستعمال القرآني والنبوي أقرب إلى المعنى اللغوي منه إلى المعنى الاصطلاحي.. ولا شك أننا بحاجة لإحياء هذه الدائرة الواسعة التي تعين على الفهم- بل على أبعد منه- والتي تحرِّض المسلم على معاني التفكر والتدبر والتعقل؛ التي هي أوامر قرآنية مبثوثة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز..

صحيح أن تطور العلوم اقتضى تخصيص كل ناحية منها بمسمَّى لم يكن معروفًا في الصدر الأول؛ حيث المساحات والحدود بين العلوم والمعارف لم تكن قد تمايزت بعد، ولا نضجت أو استقرت حركة التدوين.. مما جعل تخصيص الفقه بنوع معين من المعرفة، أمرًا مسوغًا مقبولاً.. لكن ينبغي ألا يكون ذلك على حساب المعنى الأساسي لمصطلح (الفقه) حسب المنظور القرآني والنبوي؛ فإن إغفال هذا المنظور يفوِّت على العقل المسلم خيرًا كثيرًا، ومساحةً هائلة من الفهم والتدبر والإبداع، بجانب ربط المعرفة- كعلم- بالثمرة المرجوة منها- أي بالعمل- كما قرنت آية التوبة السابقة بين الفقه من جهة، والإنذار والدعوة من جهة أخرى.. فإن علمًا لا يورث الخشية، لا فائدة منه.. وهو ما عابه الغزالي على فقهاء عصره؛ حين أحالوا (الفقه) إلى معرفة جامدة بالأحكام والفروع، لا تُثمر خشية، ولا تُنبت تقوى!

بجانب هذا، فإننا، وبحسب واقع الأمة، بحاجة ماسة إلى أنواع أخرى من (الفقه)، متفرعةً عن معناه الواسع: حسب المنظور القرآني والنبوي، والاستعمال اللغوي؛ مثل (فقه السنن الإلهية)؛ حتى نعرف ما أصاب أمتنا، وكيفية علاجه في ضوء ما سنَّه الله تعالى في الاجتماع البشري من شرائطَ وقوانين.

كذلك، تشتد حاجتنا إلى (فقه المآلات)؛ الذي يأخذ في الاعتبار مسقبل الإقدام والإحجام، أو الإتيان والترك.. فضلاً عن (فقه الدعوة)؛ حتى لا تكون الدعوة عملية آلية أقرب إلى الوظيفة، دون روح وتبصُّرٍ يجعل الداعيةَ رجلَ فكرةٍ، وصاحبَ همٍّ واهتمام..

هذه أنواع من (الفقه) يتعين الالتفات لها، وهي منبثقة عن المعاني الواسعة للكلمة حسب المنظور القرآني والنبوي والاستعمال اللغوي.. وهي بلا شك تعيد لكلمة (الفقه) شيئًا من الاعتبار الواجب لها، وبعضًا من مساحة الدائرة الكبيرة التي فقدتها..