فاتحة الإشكال : لم يكن الوعي الفلسفي المعاصر يصحو ويفكّر في إمكان شقّ دروب أخرى من التفكير في حقبة هيمنة إرادة التظنُّن، التي أمسكت بروح الفكر وأضحت بمفردة ميشال فوكو نظامًا معرفيًّا وبنية لا شعورية ترسم خطوط الفكر ونواتج التَّفلسف.

إذ هيمنت التظنّنية ليس على الخطاب الفلسفي فقط، وإنّما امتدّت لكي تتمظهر في عناصر الثقافة برمتها: في الفن وفي الأخلاق وفي السياسة وراهنًا في الصَّحافة، هذا الامتداد يجد مبرّره في جذرية النّقد وإقامته في المناطق الخضراء للفكر الفلسفي، والمقصود بالمنطقة الخضراء: قيم الفكر الفلسفي وأدواته الرَّاسخة كالقول بإمكانية بلوغ الحقيقية، وقدرة العقل على استكناه جوهر الحقيقية القُصوى، وقيمة المعرفة، وسمو نظام القيم الأخلاقي.

إن الخيط النّاظم الذي يحكم ويوجّه قلق التَّظنن أو ممارسة الشُّبهة هو الأحكام المسبقة لعصرهم، هذه الأحكام هي التي وجّهت تفكيرهم وفرضت نمط الحقيقة التي بها يواجهون.

من هنا فإن لحمة الأسئلة التي نفكّر من خلالها هي: كيف قرأ ريكور فلسفة التظنّن أو الشُّبهة؟ ما هي دلالات فلسفة الشُّبهة؟ هل ثمّة فواصل ومسافات ممكنة وفعلية بين الارتياب كأفق في التّفكير وبين الاعتقاد كنسق يوصف بالانغلاق؟ ما هي حقيقية الصّلة التي عقدها ريكور مع نيتشه باعتباره الأب المفصلي للتّظنُّن؟ ما هي الدّروب التي يسلكها ريكور في استشكال الحقيقية والمعرفة والارتياب؟

أولًا: فلسفة التظنُّن وتهديم الوعي

ثمَّة لفتة منهجية مهمة من الأجدى الإشارة لها، هي أن فلسفة التظنُّن أو الارتياب أو أيّة فلسفة تسلك مسلكها لا تستأهل هذه التّسمية إلَّا بعد أن تلامس «المنطقة الخضراء في الفكر الفلسفي»، وهي منطقة تتحصّنُ داخلها ثوابت الفكر الفلسفي وأسسه المنهجية التي بها يجري الفهم والتأويل.

ومقصدنا من هذه اللّفتة هو الإبانة كيف أن التظنُّن لا يتسمَّى بهذا الاسم، إلَّا بعد أن يقوم بنقد هذه اليَقينيات المُؤسِّسة لإرادة الفعل الفلسفي، والتَّشريع لأفق النّسيان والجحود وشطب أيّة إحالة نحو الحقيقة كقيمة ومعيار.

وبالنّسبة إلى ريكور، فإنَّ فلاسفة الشّبهة والتظنُّن الذي نازعهم هم تواليًا: (نيتشه، فرويد، ماركس)، فهؤلاء الثلاثة هم فلاسفة الشبهة أو التظنّن، وريكور يقابل بين نمط التَّأويل لدى هؤلاء الذي يسمي تفكيرهم بمدرسة الشُّبهة وبين الأفق الذي ينخرط فيه هو: أي التّأويل باعتباره جنيُ للمعنى وإحياءُ، إنهم فضلًا عن معارضتهم لفينومينولوجيا المقدّس، يُبْصرُ فيهم ريكور صيغة سلبية أي «النّظر إلى الحقيقة باعتبارها كذبًا»[2].

والقول بأن أصل الحقيقة هو الكذب والوهم، يَسْتتبع منهما القول أيضًا بزيف الوعي وإنكار التطابق بين هذا الوعي وموضوعه، إنهم يمضون إلى القلب نفسه من الحصن الدّيكارتي، أي لحظة الشك في الوعي الدّيكارتي.

«.

ويمكن لنا أن نخصّص بالإشارة هنا إلى نمط التأويل الذي أرساه نيتشه بشكل خاص، نتلوه بعد ذلك بمستتبعات هذا التَّأويل الجذري والعنيف للحقيقة، لنرسم بعدها التصور الذي رأى ريكور أنه جدير بالفكر وخليق الاهتمام به.

ثانيًا: فلسفة التّظُّنن وتدمير الحقيقة: في متاهات نيتشه

أ- تدمير الحقيقة

إنَّ التصور الذي جرى ترسيخه في الذّاكرة والفكر والممارسة، وضمن حقول المعرفة الغربية منذ بارمينيدس وأفلاطون هو تأسيس عهد الحقيقة المطلقة والثّابتة والكلّية في الفلسفة كما في الميتافيزيقا وحتى في فروع المعرفة العلمية.

«إلَّا أن نيتشه يعتبر هذا التصوّر وهمًا وخطأً وكذبًا مرتبطًا بحاجة الإنسان إلى البقاء كنوع حيواني، فليست الحقيقة الثابتة إلَّا وسيلة بين أيدي الإنسان وليست غاية تعرف لذاتها… وليست الحقيقة العلمية في نظر نيتشه أكثر قيمة ولا أكثر موضوعية ولا أكثر تطابقًا مع الواقع من الحقيقة الفلسفية. فإن نقد نيتشه موجّه إلى الحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفية والميتافيزيقية معًا؛ لأن العلم في نظر نيتشه يواصل العمل الذي قامت به الميتافيزيقا ويخضع إلى نفس المبادئ المثالية»[4].

إن القول بأن الأشياء لديها طبيعة في ذاتها تمثّل تسليمي أو دوغمائي؛ لأن نيتشه يصل وصلًا شديدًا بين الظواهر التي نريد معرفتها، وبين ما تعنيه نحن لنا، وهذا تحديدًا ما يصطلح على تسميته بالمعرفة، والفلاسفة الذين اعتقدوا بوجود الحقيقة المطلقة، وإمكانية إدراكها وإسكانها في العوالم المفارقة معبّؤون ضد المظاهر «ولديهم رأي مسبق تجاه المظاهر، التغيّر، الألم، الموت، الجسد، الحواس، اللاّمعقول، إنهم يعتقدون في المعرفة المطلقة، المعرفة من أجل المعرفة، الوحدة بين الفضيلة والسعادة، في إمكانية معرفة الأفعال الإنسانية وغاياتها…»[5].

وهذه المواصفات التي لا يستسيغها ذوق الفيلسوف الميتافيزيقي كالألم والموت والجسد من منظور نيتشه، إنما تجد منبتها الأصلي في كراهية هذا الفيلسوف للصيرورة وحقده عليها، فضلًا عن إيمانه بتضاد القيم[6].

إن المعرفة في المعجم النيتشوي ليست كما توهّم فلاسفة الثبات مجرّدة وبريئة، فضلًا عن أنّها لا تعني بالضرورة ما هو ضد الأخطاء؛ فهي على التحقيق «تأويل؛ استثمارُ لمعنى، فهي في أغلب الحالات لا تشرح؛ إنّها تأويل جديد لتأويل قديم أضحى غير صالح ولا منتفع به»[7].

إن المنطلق الأساسي الذي تشتقّ منه فلسفة نيتشه مفاهيمها؛ هو أن القيم بما فيها الحقيقة كقيمة، هي في الأصل تأويلات أدخلها الإنسان على الأشياء، هذا ما يقتضي الإقرار بأن الدلالات جميعها نسبية تختلف باختلاف المنظور المؤوّل لنص العالم، إنها دلالات تحايثها إرادة القوة، أو هي أثر لها.

وإن الأدهش في تاريخ الفلسفة رؤيةً ونسقًا، هو ظاهرة النسيان لمشكلة الحقيقة بما هي مفعول لإرادة القوة، هذا النسيان لمشكلة الحقيقة وتحديد مهمّة وماهية الفلسفة بالاعتماد أساسًا على معرفة الحقيقة رسّخ فكرة جوهرانية الحقيقة؛ فتمثّلتها نظم المعرفة الفلسفية في صيغ مختلفة: فهي مثل أفلاطون الخالدة، أو إدراكها في شكل معيار تتطابق فيه الأذهان مع الأعيان بخاصة مع توما الإكويني، أو أنهّا يقين ذاتي ينتجه الكوجيطو (ديكارت) أو مع الإغلاق الفلسفي لهيجل الذي تمثّلها في المطابقة بين (العقلاني والواقعي).

فكانت النتيجة المحتومة لذلك النسيان، أن طمست تمامًا كل مساءلة فلسفية إرتيابية أو نقدية بخصوص قيمة الحقيقة ومعنى إرادة المعرفة الباحثة عنها، فجعل الفلسفة إذن لا تتفكّر مجمل تاريخها، مع اللّحظة الهيجلية بالأخص، إلَّا كحركة جدلية موسوعية هي نازعة قسرًا، من أفلاطون إلى هيجل نفسه، نحو غاية عليّة وشمولية تتمثّل في التجلّي العيني للحقيقة المطلقة، والتحقّق الفعلي لجوهرها في أفق العلم المطلق وفي صلب التاريخ الكوني.

ومهما يكن من أمر، فإن الحقيقة قد أمست بنظر الفيلسوف الميتافيزيقي السلطة العليا، والقيمة الفضلى والوثن المعبود والإله المقدّس الذي لا يطاله الشك أو النقد إطلاقًا[8].

والفلسفة التي شرّعت لنفسها مهمة البحث عن الحقيقة بتجنيد كافة الأنظمة المعرفية والملكات التفكّرية، واقعة لا محالة في مشكلة نسيان هذا البدء، والانسياق خلف هذه الإرادة ومراكمة الآراء حولها، فهي التي حكمت مجموع تصوّرات الفلاسفة وحرّكت جل مناهجهم ووجّهت كامل تاريخهم.

الفلسفة لم تنتبه إلى المفاعيل الخفية والعكسية التي كانت تعمل في الخفاء، وتخترق في صمت تام مجمل تاريخها، وتستبعد مشكلة الحقيقة كعنصر مطرود ولا مفكّر فيه ومُتناسى القول في كنهه، إنه على ما يبدو موعد للأسئلة وعلامات الاستفهام، لأن إرادة الحقيقة التي تكلّم عليها الفلاسفة بإجلال حتى لدى فلاسفة العصر الحديث، يتمّ التوقف معها لدى نيتشه للسؤال عن منبت هذه الإرادة وما هي الشروط الحيوية والنّفسية التي جعلتها ممكنة؟

وهذا السؤال نفسه ليس سوى صراط نحو سؤال آخر أكثر عمقًا؛ إنه استشكال قيمة هذه الإرادة والارتياب منها والتبرّم من أمرها؟

من هنا وجب التمييز بين حقبتين مهمّتين في قراءتنا لظاهرة الحقيقة: حقبة معرفة الحقيقة التي تنتسب إجمالًا إلى حقبة الميتافيزيقا التي تتأسّس مع أفلاطون لتشرف على نهايتها مع هيجل، بينما تنتمي مشكلة الحقيقة إلى التفكير الآخر الذي هو تفكير يسعى إلى القطع مع نمط التمثّل الميتافيزيقي للحقيقة، فيراهن أساسًا على قلب الفلسفة رجاء فتح أفق جديد أو إحداث قطيعة مع نمط الخطاب الميتافيزيقي للحقيقة، توسّلًا بالمنهج الجينيالوجي الذي يحيل الأفكار والقيم إلى شروطها الحيوية ورهاناتها المصلحية المنتجة لها.

وبناء على هذا، فإنّنا نشرع في رصد الحقبة الأولى أي حقبة معرفة الحقيقة؛ وذلك بدءًا بالتأسيس الأفلاطوني وانتهاء بالإغلاق الفلسفي مع هيجل، أو من البحث عن الحقيقة إلى مساءلة إرادة الحقيقة بمنهج نفسي يحلّل المعرفة ويكشف طبيعة القوى التي تتملّكها وتعبّر عن نفسها فيها.

ب- المعرفة بما هي تأويل

إنَّ العالم استحال لدى نيتشه نصًّا متعدّد المنظورات، ومعدوم فيه الثّبات الذي يضاد الصيرورة، وكيف أن القول بالصيرورة الوجودية يؤدّي إلى الإفضاء إلى تآويل لا متناهية لا يحكمها نظام أو منطق ولا تتّجه بسيرورتها إلى غائية معيّنة، وانكشفت المعرفة باعتبارها منظورًا مخصوصًا أو شبكة من العلاقات والعلامات ينظّم بها المؤوّل العالم، وينتقي منه ما يُبصر فيه محقّقًا لحاجاته الحيوية المتواجدة في بيئة صراعية معقدة وفي شروط وجودية مخصوصة.

وإذا كان الأمر هكذا؛ فإن المراهنة الحيّة هي إخراج المعرفة لنص العالم من سوابقها المعرفية، ومن نسق العناصر التقليدية لنظرية المعرفة كالذات والموضوع والمعقول والمحسوس، وإسكانها تجربة التأويل والتقييم، حيث تتبدّى باعتبارها أثرًا لإرادة القوة أو علامة عليها.

وقبل استشكال قضية المعرفة بما هي تأويل؛ فإن مقام التّحليل يستوجب التنبيه إلى أن مفردة التأويل تجرّ وراءها تاريخًا، وأن دلالتها في المعجم النيتشوي مخصوصة؛ لأن التأويل بالمعنى الذي طوّره نيتشه يختلف عن مناهج التأويل التقليدية بخاصة في المجال الديني، أن تتخذ -أي هذه المناهج- من اللّغة منطلقها الخاص، وتشاركًا مع عائلة من المفاهيم الأخرى التي تتساوق معها في المهمة، فيشكّل «الفهم والتأويل Interp  والترجمة والتوضيح Expli شروط كل ممارسة للغة، وذلك مهما كان ثمة تقنيات خصوصية يمكن تنميتها.

وليست اللغة، في نهاية المطاف مما يمكن رصده، فنحن نشارك فيها ونتقاسمها وهي تكوُّننا. ثم إنها تتيح لنا أن نتفاهم وحتى حول خصوماتنا؛ تلك هي وظيفتها الأولى، بيد أنه ينبغي التمييز بين التأويلية العفوية باللغة العادية والتأويلية العالمة التي تعيد بناء اللغة، وتنقي أساليبها حتى تجعل منها فنًّا، ولهذه التأويلية العالمة تاريخ ولها أشكال متنوعة»[9].

وهذه التأويلية العالمة -كما سبق الذكر- مفرداتها (التعبير والشرح والترجمة) ذات قرابة معنوية؛ تشير إلى استخدام تقنيات لغوية ومنطقية ورمزية وبلاغية من أجل البحث عن معنى متوارٍ خلف النصوص أو كشف حقيقة ما، ويجري تطبيق هذه الإجراءات على النّصوص قصد تحليلها وتفسيرها وإبراز القيم التي تختزنها والمعايير التي تحيل عليها.

ولم يعرف التأويل تحوُّلًا رمزيًّا عن دلالته الأصلية هذه إلَّا مع سبينوزا في كتابه رسالة في اللّاهوت والسياسة، فبعد أن كانت هناك هيمنة لرجال الدين عن طريق المراتبية الهرمية، واحتكار المعيار التأويلي في تفسير الكتاب المقدس، وجّهت اللّحظة السبينوزية الشك والارتياب إلى أنماط التأويل الديني ودعت إلى إعمال العقل والثقة في أحكامه وقوانينه، وهذا ما عناه سبينوزا في قولته: «إنني لا أستطيع أن أكتم دهشتي البالغة عندما أجد أحدًا يريد إخضاع العقل، هذه الهبة العليا، وهذا النور الإلهي، لحرفٍ مائت استطاع الفساد الإنساني تحريفه، وعندما أجد أحدًا يعتقد أنه لا يرتكب جرمًا حين يحطّ من شأن العقل، وهو الوثيقة التي تشهد بحق على كلام الله، ويتهمه بالفساد والعمى والسقوط، على حين يجعل من الحرف المائت، وصورة كلام الله صنمًا معبودًا، ومن ثمة يعتقد أن أشنع الجرائم هو وصف هذا الحرف بالصفات السابقة»[10].

ونيتشه بالرغم من هجومه على سبينوزا في إشكالات أخرى، إلَّا أنه يبدو أنه استفاد من درس التأويل لديه.

إن التأويل لدى نيتشه لا يهدف إلى البحث عن الحقيقة الأصلية المتوارية خلف النّصوص من أجل إنارتها، وإنما تصبح القراءة كشفًا لما لا يود النص البوح به، والإمساك عمّا يقوله النص والخروج عن مدلولاته وإحالاته بالبحث عمّا يسكت عنه ولا يقوله وكشف ألاعيبه في إخفاء ذاته وسلطته، فكل تأويل يخلق حقيقة المعنى الذي ينسبه إلى نص العالم، وتكون الفعّاليات الإنسانية المتنوّعة وأنماط الحياة تأويلًا له «أي لنص العالم».

وهكذا فإن التأويل لا يُفضي إلَّا إلى تآويل أخرى، وينتج نصوصًا أخرى ليس من مهمتها الوفاء للنص الأصلي، وإنما خلق نصوص أخرى تقتضي بدورها تأويلًا.

إن نيتشه يدعو الأفكار والممارسات وأنماط الحياة يدعوها تأويلًا، وهذا بسبب الإمكانية المتواصلة لهذه العملية، أي العملية التأويلية، وبسبب أن أيّة رؤية للعالم تستبطن تأويلًا للحياة بواسطة الحياة نفسها، فهي تفترض وتُفصح عن مصالح وقيم معيّنة أو تقويمات من منظور مخصوص، ولما يُسمّي نيتشه هذه الأنماط الوجودية تأويلات فلكي يثير الانتباه إلى أنها ليست متجرّدة عن ذاتيتها وأنها ليست موضوعية، والمعرفة العلمية الموصوفة بالموضوعية لا تُستثنى من هذه القراءة، لأن نيتشه يدعو العلم تأويلًا «ولا يعتبره معرفة موضوعية بالواقع»[11].

وهو على العكس، أي العلم لا يفّسر وإنما يؤول، «ويجد هذا النّمط من التأويل مبرّراته في أن هناك أصنافًا من الناس مختلفة، لا يمكنهم أن يعيشوا بأفكار وقيم واحدة تصوغ أنماط الحياة في قالب واحد، فالوجود من التكثّر والتنوع والاختلاف والتناقض بما يتعذّر حصول هذه الصياغة المتجذّرة في غريزة الرهبة من الصيرورة.

هكذا إذن يتبدّى لنا التأويل لدى نيتشه في مستوى البرنامج الفكري أنه فن التفكير خارج الأطر الميتافيزيقية الموروثة، بخاصة في تمظهراتها الدينية والأخلاقية التي حوّلت التأويل إلى «فن القراءة المريضة»[12]، وإمعانًا منه في الاستناد إلى آلية الدمج بين الفيلولوجيا والتأويل من أجل تحقيق مقاصد القراءة الجينيالوجية يرى نيتشه «أن الطريقة التي يؤوّل بها اللّاهوتي… هي دائمًا طريقة تحكّمية، بحيث تجعل الفيلولوجي فاقد الصّبر مجنونًا»[13].

ومنظورية الحقيقة تبعًا لهذا؛ تتأسّس على التأويل، فهو الضّمانة المركزية الذي يمنح لها مشروعيتها، وتدفُّق غرائزها من أجل معرفة العالم وإعادة تأويله للحفاظ على الحياة وانطلاق قوتها، يقول نيتشه: «إذا كان هناك من معنى لكلمة معرفة، فإن العالم قابل للمعرفة، لكنه قابل للتّأويل بطرق متنوّعة، وليس له معنى واحد جاهز فيه، إنما له معانٍ غير متناهية، هذا ما ندعوه بالمنظورية perspectivisme»[14].

وإمعانًا منه في التّوهين من إرادة المعرفة بإرجاعها إلى أصولها الحيوية وصيغتها التأويلية للعالم المندرجة في إطار الصيرورة، يقول نيتشه وبملء السّخرية «ما المعرفة في التحليل الأخير؟ إنها تأويل؛ استثمارًا لمعنى، فهي في أغلب الحالات لا تفسر؛ إنّها تأويل جديد لتأويل قديم أضحى غير صالح ولا منتفع به، ولم يعد سوى مجرد علامة، لا توجد هناك حالة واقعية، كل شيء في سيلان، يستحيل المسك به، والأكثر دوامًا هي آراؤنا»[15].

وكأن الصيرورة هي الثابت الوحيد في وسط عالم لا يعتد بالنظريات الكبرى والتأويلات الشاملة، وهذه خطوة حاسمة خلع فيها النسبية والسيولة المعرفية على الحقيقة الموضوعية والذّات المُدركة، وبهذا فإن ما بالمعرفة أو بالحقيقة وما يختزن داخلهما هو منظور وحسب، لا يتماثل مع الواقع أو يقترب منه، وإنما هو علامة أو أثر على إرادة القوة التي تنجح في فرضه، والنجاح في فرضه يعني أنه حقيقي.

فالمعرفة وفقًا للتأويل النيتشوي لا تسكنها الماهيات والجواهر ولا تحركها المبادئ والغايات، فضلًا عن الأشياء لا معاني لها في ذاتها؛ فالمعاني والدّلالات تفرضها إرادة القوة بما هي منظور مخصوص وأثر لرغبات الكائن الإنساني.

وبهذا تنهدم المفاهيم القبلية والأطر السابقة على التجربة التي تقوم فيها الذات العارفة بتنظيم معطيات الواقع الحسي كيما ترتقي إلى مرتبة المعرفة، فالذات العارفة بما هي سلطة نظرية مركزية إن هي إلَّا لحظة من لحظات الصيرورة، ونقطة في مسار تأويلي توهّم الفيلسوف سلطتها النظرية وقدرتها على توحيد المتنوع أو على التفكير بنحو قبلي، وأمام هذا كله «أن لا وجود لوقائع، إنما كافة ما يوجد تأويلات فحسب… والذاّت ليست شيئًا معطى أبدًا، إنما هي مفهوم مضاف ومفترض Surajoutée, Supposée، هل ينبغي علينا أن نفترض المؤوّل وراء التأويل؟ إذن هذا شعر وافتراض»[16].

وتتحدّد الصّلة بين المنظورية والتأويل بناء على ما جاء في الكلام المذكور، بالصّلة الحميمية والمتبادلة، لأنه «إذا كانت المنظورية تحيلنا بصورتها الفضائية إلى المواطن المتعددة التي يتمركز بها الأفراد في العالم، فإن التأويل بصورته المعرفية يحيلنا إلى المعاني المختلفة التي ينتجه أولئك الأفراد من منظورات مختلفة طبق قراءتهم المتنوعة لنص العالم، تعددية التأويل تستجيب لتعددية المنظور… النص هو أفق منفتح يحتضن كل التأويلات الممكنة، وتشقه صراعات عنيفة بين الإرادات المختلفة التي تريد كل واحدة منه أن تفرض تأويلها الذّاتي بدعوى أنه هو الذي من منظورها الخاص، يكون الحقيقة الوحيدة لنص العالم»[17].

ولما كان التأويل هو منبع المعاني والقيم والدلالات؛ فإن وظائفه يمكن إحصاؤها في المحدّدات المتوالية:

  • أولًا: تنظيم فوضى العالم وإعادة تشكيلها بعد هيمنة المنظورات الميتافيزيقية على التفكير وتثليج رحابة الحياة والوجود في مفاهيم نظرية أصولها منحطة ومنابعها حقد على الصيرورة وتوهّم بتضاد القيم، ولما كانت غريزة المعرفة تجد أصلها في نهامة الكائن للتملّك والغزو، فإنها برمجة وتخطيط وتنظيم وتوزيع منتقى ومرغوب فيه؛ تنفذه إرادة قوة بواسطة المقولات والمفاهيم بما هي وسائل لإعداد العالم أو فرض قدر من الفوضى والشكل من أجل العيش فيه والمحافظة على الذّات وانطلاق إرادة القوة، وهنا تتداخل المعرفة بالمصلحة تداخلًا حميميًّا أو يندمج الفكر بالحياة؛ أما «المعرفة من أجل المعرفة فهي آخر فخ تنصّبه الأخلاق، وفيه يقع المرء في أحابيلها من جديد»[18].
  • ثانيًا: بعث الحياة في المنظورات التي تتصارع في مهمة تأويل العالم السائل؛ حيث تنطلق كل إرادة قوة مخصوصة من مركز تأويلي مخصوص من أجل هيمنة تأويلها على التأويلات الأخرى، أو من أجل خلق العالم على صورتها، «وهذا يعني أن للطبيعة بذاتها تاريخًا، وتاريخ شيء ما هو، عمومًا، تعاقب القوى التي تستولي عليه، وتعايش القوى التي تصارع من أجل الاستيلاء عليه، والموضوع ذاته والظاهرة ذاتها، يتبدّل معناهما وفقًا للقوة التي تستحوذ عليهما، والتاريخ هو تغيّر المعاني، أي تعاقب ظاهرات إخضاع عنيفة إلى هذا الحد أو ذاك… والمعنى إذن مفهوم معقّد، فهنالك دائمًا تعدّد في المعاني، كوكبة أو مركّب من التّعاقبات… كل إخضاع، كل سيطرة، إنما تعادل تفسيرًا أو تأويلًا جديدًا»[19]، وتعكس حقيقة مختلفة تحيا في بيئة متناحرة، وهذا لأن «منهج الحقيقية لم يبتكر لبواعث الحقيقة، لكن من أجل دوافع القوة والهيمنة»[20].
  • ثالثًا: خلق المعنى وإبداع إمكانات جديدة للحياة، وخلق المعنى بما هو النّشاط الجوهري للحياة في حركة تدفُّقها وسيلانها الأبدي، لا تتحدّد وجهته نحو معراج المعاني والمثل العقلية، أو كارتداد نحو الذّات من أجل اكتشاف ملكات جديدة، لأنه لا وجود لنص يكون منطلقًا للتأويل. إن إرادة القوة هي خالقة المعاني والقيم بصورة حرة وعفوية وليست مكتشفة لها. من هنا تتبدّى لنا الصّلة الحميمية بين التأويل والمنظورية وإرادة القوة، بما يجعل من مواصفات المعرفة والحقيقة الاعتقاد والقيمة والمنفعة.

ثالثًا: من ضيق الارتيابية إلى سعة الطّموح الأنطولوجي

قبل الكلام في الدّروب التي رسمها بول ريكور للانعطاف نحو الإيمان والحقيقة واستعادتها بعد هيمنة ثقافة الجحود والنّسيان، يشير ريكور إلى لفتة منهجية مهمة في تأوّله لفلاسفة الشبهة في مساءلتها للوعي، إذ يستحضر المفهوم الهيدجري للهدْم، الذي لا يرى بأن مجرّد موقف سِلبي، وإنما هو موقف حيوي وإيجابي، ذلك أن التهديم هو مرحلة جديدة في كل بناء.

وهذا ما نلمسه في رؤية فكرة تهديم الوعي لدى فلاسفة الارتياب؛ إذ إن هجومهم على الوعي لم يكن هجومًا لاغيًا، وإنما إرادة توْسِعة دائرة الوعي؛ «وهؤلاء الثلاثة هم بعيدون عن أن يشنّعوا بالوعي؛ إذ يتطلعون إلى توسيعه، فما يريده ماركس، هو تحرير التّطبيق العملي praxis، عن طريق معرفة الضّرورة، ولكن هذا التّحرير لا ينفصل عن امتلاك الوعي، الذي يردّ بانتصار على خداع الوعي الزّائف، وما يريده نيتشه هو زيادة قدرة الإنسان، وإنشاء قوته، ولكن ما يريده بقوله إرادة القوة يجب أن يغطّيه تأمل بأرقام الإنسان الأعلى… وأما ما يريده فرويد، فهو أن المحلّل، إذ يتبنّى المعنى الذي كان غريبًا عنه، فإنه يوسّع حقل وعيه، ويحيا بصورة أفضل، وإنّه ليكون أخيرًا أكثر حرية، وإذا أمكن أكثر سعادة»[21].

ومقابل هذا الانتهاء إلى العدمية وفقدان الأساس، والنّسيان والجحود، واختزال سعي البشرية من أجل الحقيقة إلى إرادات قوى ترغب في تنمية مشاعر القوة، لِمَ لا تكون هذه الأنساق، جهودًا من أجل التواصل كبنية للمعرفة الإنسانية، لأن هذه الأنساق لا تستلزم دائمًا تصريف القول فيها إلى النّسبية المعرفية والعملية التي لا تنوي بلوغ الحقيقة، وإنما تصريفه إلى رفع التَّعارض بين تاريخ الفلسفة، وفكرة الحقيقة، أو إنهاء التعارض بين الاجتهاد الفلسفي الشَّخصي والحقيقة باعتبارها الأفق، أو المعنى النهائي المُجرّد اللاّزمي واللّاشخصي.

من هنا يُصبحُ التّواصل كبنية للمعرفة سواء بدلالته التاريخية والراهنة أم بدَلالته التثاقفية اليوم، بنية أساسية للمعرفة تخريجًا ونقدًا، وهذا استهداء بنور البحث عن الحقيقة كانفتاح متراكم عبر الفلسفات ومن خلالها، وبالرغم من سماكة أغلفة الحقيقة وليْل مسالكها وعتمتها؛ إلَّا أنها ليست مخفية تمامًا، فأماراتها وعلاماتها دالة عليها.

جلي إذن؛ أن الاعتقاد بفكرة الحقيقة والموقع النّسبي للاجتهاد الفلسفي الإنساني منها، يفتتح أملًا ورجاء «لا نبلغه في هذه الحياة أصلًا… لأن وظيفة الأمل الأنطولوجي في الحقيقة هو الحفاظ على انفتاح الحوار بين الفلسفات، وإقامة ضرب من التواؤم القصدي في أكثر الحوارات فجة. إن الحقيقة بهذا المعنى، أي بما هي رجاء أنطولوجي، هي المجال الحيوي لكل عملية تواصل، كما أنَّها الشُّعاع الذي يُنير حِواراتنا بنور الوجود… بهذا المعنى، فإن الحقيقة هي ما يعطينا القوة والشجاعة على صنع تاريخ للفلسفة، دون فلسفة للتاريخ. إن الحقيقة بما هي وجود واحد ثابت، غير قابلة للإدراك، غير أننا نبلغ ما ينكشف لنا منها، ومع ذلك فإنها كطموح أنطولوجي ذات وظيفة هامة في تأسيس التواصل كبنية للمعرفة الحقة، وفي خلق مناخ حواري مفتوح باستمرار بين الفلسفات»[22].

وهكذا، لا يمكن التضحية بمشروع معرفة الحقيقة كأفق وانفتاح، من أجل وقائع أو ثقافات جرى فيها توظيف المعرفة والحقيقة توظيفًا مُنْفصلًا عن مقاصدها الأصلية، ثم نقوم بسحب هذه الوقائع على الحقيقة كقيمة تجتهد النُّظم الفلسفية من أجل إتيان أفكارها وفق مُقتضياتها، «ومن هنا، فإنه ما لم يبدأ المرء بافتراض مضاد للشكوكية، أي بافتراض إمكانية التوصل إلى الحقيقة رغم تلك الملابسات، فإن العدمية تصير أمرًا حتميًّا le nihiliste deviet inévitable nihilism becomes inevitable»[23].

إن ريكور يؤسس هنا إلى مفهوم بين ذاتي للحقيقية، يعمل كل فيلسوف بمقتضاه على شرح وتطوير رؤيته إلى العالم عن طريق السجال والصّراع مع غيره، إنه التَّفلسف المشترك بين الفلاسفة.

وفلسفات الماضي هنا، لا تتوقّف عن استعادة شحنتها الحضارية الماضية، أي استعادة المعنى المبثوث فيها، بما يجعل التواصل معها تأويليًّا ينقذها من شرط الموت والنّسيان، أي أن: المابين ذاتية، هي التي تؤسّس التبادل بين التاريخ وبين البحث المعاصر عن الحقيقية.