“في بيتنا عائلة”.. قد يبدو هذا العنوان غريبًا، من جهة أن العائلة هي أكبر من البيت، وكان المعتاد أن يقال: في عائلتنا بيت؛ لكن القصد هو لفت النظر لما يكون من علاقات ممتدة بين “البيت” الذي يضم أسرة، وبين غيره من “الأفراد” أو “البيوت” التي تضمها “العائلة”؛ بحيث نلقي بعض الضوء على ما بينها من حقوق وواجبات، ومن فرص للتواصل والتوادِّ وتبادل الخبرات.

ولعل ما يثير الاهتمام بهذا الموضوع هو ما نلمسه من تغيرات و تحديات أصابت العائلة، سواء في مفهومها أو علاقاتها؛ وذلك بسبب تأثيرات الحياة المعاصرة التي تنحو باتجاه الفردية، ويتسارع إيقاعها حتى لايدع فرصة لوصلِ الخيوط ومدِّ الجسور، فضلاً عن تعقُّد الحياة الذي معه تَضيق النفوسُ ويصبح من الوارد جدًّا إثارة مشكلاتٍ كان من اليسير فيما مضى تجاوزُها واستيعابُها..!!

العائلة .. مفهوم تراحمي

“العائلة” بناء عريض وشبكة ممتدة من العلاقات والروابط التي تستبطن قيمًا عديدةً تكتسب طابعها العام من “النواة” التي تشكَّلت منها العائلة، أي من “الرَّحم”؛ ولهذا فما بينها من الصلة تسمى “صلة الرحم“، وما يُقوّي روابطها هو “التراحم”. فمن الرحم تفرَّعت العلاقات، وبالتراحم تتقوَّى هذه العلاقات. وعائلة بلا تراحم عائلة مفككة لا رابط يجمعها إلا الشكل!

في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ “، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (رواه البخاري ومسلم).

في بيتنا عائلة

وأيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “أَنَا الرَّحْمَنُ، وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي؛ مَنْ يَصِلُهَا أَصِلُهُ، وَمَنْ يَقْطَعُهَا أَقْطَعُهُ، فَأَبُتُّهُ” (رواه أحمد).

إذن، هي صِلةٌ متفرّعةٌ من الرحم، متشابكةٌ بالتراحم، موصولةٌ برباط وثيق برحمة الله تعالى؛ ولهذا كانت العائلة مفهومًا تراحميًّا بامتياز، وكانت الرحمة- قيمةً وصِلةً وجزاءً- تُظلّلها وتَشدُّ من روابطها.

وهذا “المفهوم التراحمي” للعائلة يقتضي:

– الحرصَ على دوام التعارف مهما تفرّعت العلاقات.

– واستمرار التواصل حتى لو تباعدت الأماكن.

– وشيئًا من التغاضي والتغافر لو حدثت إساءة.

– ورَفْدًا بالعون والمعونة في الملمات والمناسبات.

بجانب هذا، فإن ذلك “المفهوم التراحمي” يتيح للأجيال الناشئة في حضن العائلة دفئًا ممتدًا مع دفء الأبوين؛ بل ويساعد في سد الفراغ الذي قد ينشأ نتيجة انشغال الأبوين بضرورات الحياة، أو إذا حدث سوء تفاهم داخل الأسرة الصغيرة.. فنرى الشاب يلجأ للجد أو العم أو الخال، يطلب النصيحة والمشورة، أو حتى التدخل للإصلاح..

ولنتخيل حين تغيب هذه العلاقات المتشابكة المتراحمة، ما يكون من فجوات مفتوحة، إذا حدثت مشكلة داخل الأسرة الصغيرة!! إن البدئل حينئذ قد تكون غير مأمونة العواقب!!

العائلة .. معمل خبرات

نعم، فالعائلة بما لها من روابط متعددة وخبرات متنوعة، هي “معمل خبرات” خاصة للشباب والأجيال الناشئة. فوجود الأجداد والأعمام والأخوال وسائر أفراد العائلة قريبين من بعضهم البعض يتيح للشباب أن يكتسب، وربما بطريقة غير مباشرة، خبرات في العلاقات الاجتماعية وفي الحياة العملية؛ على الأقل من خلال ما يسمعه من قصص وحكايات عن تجارب الماضي أو وقائع الحاضر..

وهنا نشير إلى أن الحياة في الماضي القريب، كانت بسيطة ويسيرة، بحيث يسكن كثير من أفراد العائلة في بيت واحد، أو قريبين من بعضهم البعض. وكان هذا يعد معملاً حيًّا للروابط الإنسانية ولخبرات الحياة.

بل حتى فيما قد يَنتج عن هذا القرب من مشكلات، فإنه يحمل وجهًا آخر في اكتساب مهارات حلِّ الخلافات واستيعابها ومنع تفاقمها..!

العائلة .. تحديات ضاغطة

تغيّرت الحياة الاجتماعية كثيرًا، وتعقّدت. وما كان سهلاً ويسيرًا فيما مضى، ويمارَس بأريحية؛ بات صعبًا ومتشابكًا. وأصبحت العائلة أمام تحديات كثيرة، تحتاج لطاقات أكبر؛ من الصبر وضبط النفس، والقدرة على التحمل والتجاوز والتغافر.. وإلا فما أسهل الخصام والتدابر!

ضغط الحياة، بثقلها المادي وتسارع وتيرتها، وكثرة متطلباتها، والعجز أو المشقة في توفير الاحتياجات الأساسية.. كل ذلك يُلقِي بظلال قاتمة على الروابط الإنسانية والاجتماعية التي يقتضيها مفهوم “العائلة”؛ بما له من حقوق وواجبات متبادلة، وبما يُحمِّل أفرادها من مسئولية.

وما أدلَّ قول عمرو بن الأهتم:

لَعَمْرُكَ ما ضاقَتْ بِلاَدٌ بأَهْلِهَا ** ولكنَّ أَخلاقَ الرِّجالِ تَضيقُ!

نعم، لقد ضاقت أخلاق الرجال حتى انقلب مفهوم العائلة إلى مفهوم “تشاكسي” (من المشاكسة) بدلاً من التراحم.. والتدابر بدل التواصل.. والتعنت بدل الاستيعاب..!!

صارت المشكلات تقام، والحواجز تُنصَب، لأقلِّ الأسباب وصغائر الأمور.. وأصبحت “المسألة الاجتماعية” مشكلة تضاف لجملة “المسائل” التي يعانيها المجتمع؛ مثل: “المسألة الاقتصادية” و”المسألة الأخلاقية”..!!

وكل هذا، ومن دون شك، يثقل كاهل المجتمع، ويشل حركته وفاعليته، ويجعله في شغل من أمره عن عظائم الأمور، وكبرى التحولات، وفرائض الوقت، وشروط النهوض..!

وبدل أن تكون العائلة شبكة من العلاقات جيدة التواصل فاعلة الدور؛ إذ بها تصبح شبكة مُعرقِلة؛ كأنها حفرة للوقوع فيها، لا صخرة للوقوف عليها والاستناد إليها..!

إطار أوسع وأرحب

أمام هذه التحديات الضاغطة، فإننا مطالبون بمزيد من الصبر والتغافر والتجاوز، وبمزيد من الاستيعاب والتحمل، ومزيد من الوعي في رؤية دور العائلة ضمن منظور أوسع هو “المسألة الاجتماعية”، وإطار أرحب هو “المجتمع”.

وفي السنة النبوية نجد تنبيهًا على ما تحتاجه صلة الرحم ومفهوم العائلة من مَزيدِ صبرٍ، وخُلقٍ حسن؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “لَيْسَ الوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ؛ وَلَكِنِ الوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا” (رواه البخاري).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: “لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ” (رواه مسلم).

إن “البيت” لا بد أن يعي دوره في “المجتمع”، وقبل ذلك دوره في “العائلة”؛ تواصلاً وتراحمًا وتعاطفًا وتغافرًا.. حينئذ نكون أمام لبنات قوية متماسكة، تؤدي بدورها إلى مجتمع نابض فاعل.