بعض النفوس ما إن تجلس إليها حتى تعجب بجمالها وروعتها، ومقياس حكمك عليها هو الظاهر. لكن لا تدري ما باطنها، والتي ما إن تضعها في محكات أو مواقف حياتية معينة، إلا ورأيت ما يذهلك خاصة في مواقف النصيحة والموعظة. والقرآن لم يترك لنا تلك النفوس تسرح وتمرح وتخدع، وكشفها لنا كي نكون على بينة وعلم بها { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } ( البقرة : 204).
لو أنك قلت لأحدهم ناصحاً أميناً في موقف ما: اتق الله، كما في آية { وإذا قيل له اتق الله } (البقرة: 206) ، فماذا تتوقع رد فعله؟ العادة، إن كنت صاحب سريرة ونية طيبة، تعتبر من يقول لك ذلك ناصحاً أميناً محباً. وإن قام بنصحك وأهمية مخافة الله في الأمر الذي دعاه لقول ذلك، فإنه من المؤكد لا يعيب عليك أو يريد إغاظتك.. لكن الصنف الآخر مدار حديثنا اليوم، والذي يكشفه القرآن لنا ويبين بواطنه، يختلف الأمر معهم.
مثل هذا يقول عنه القرآن في مواقف النصيحة والموعظة { أخذته العزةُ بالإثم} (البقرة: 206). وليته كره نصيحتك ومضى في حال سبيله، لكنه يزيد الأمر سوءاً. إنك ما قلت له ذلك إلا ” تذكيراً له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه – كما جاء في ظلال القرآن – حيث أنكر أن يُقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجّه إلى التقوى؛ وتعاظمَ أن يُؤخذ عليه خطأ، وأن يُوجّه إلى صواب، وأخذته العزةُ لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير، ولكن بالإثم، فاستعـز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذكّر به، وأمام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء “. نفوس خبيثة قميئة في باطنها، وإن بدا عليها الجمال والحُسن وحب الخير في ظاهرها. نفوسٌ تستوجب منك حذراً متواصلا.
الناصح الحذر
اليوم ترى كثيرين من هذا الصنف حولك في بيئة العمل أو خارجه أو حتى بيئتك الاجتماعية القريبة كالبيئة العائلية، حتى صار المرء منا دقيقاً حذراً في مسألة إسداء النصح، أو إن شئت أكثر وضوحاً، في مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
صار أحدنا إن أقدم اليوم على النصيحة، حذراً جداً ومحتاطاً للمسألة، ودقيقاً في ألفاظه ومصطلحاته لئلا تُفهم في اتجاه آخر أو بصورة غير مرغوبة ولا مقصودة بالأساس، وعلى وجه أخص عبارات أو جمل أو كلمات توحي لمن تُوجّه إليه تلك الكلمات أنها تقليل من شأنه، ومحاولة إحراجه أو نوع من الشماتة به، كقولك له ( اتق الله ) أو تقول له ( خاف الله ) !
الفهم الناقص
يعتقد كثير من المنصوحين أن من يستخدم تلك العبارات آنفة الذكر، إنما يريد إظهارهم أمام الآخرين بقلة العلم الشرعي، أو ضعف الإيمان أو غيرها من توهمات وتصورات لا أساس لها. والأمر على الأغلب ليس كذلك كما أسلفنا. ذلك أن المفترض في مثل تلكم الأحوال والمواقف، أن يستزيد من تُقال له تلك العبارات شرحاً وتوضيحاً من قائلها، وما الذي استدعاه ليقول ذلك. فربما يكشف له الناصح أمراً يحتاج إلى تصويب، أو تبصرة حول أمر خافت غامض يحتاج إلقاء مزيد من الضوء عليه.
إنه مثلما نطالب الناصح دوماً مراعاة اختيار الألفاظ والمصطلحات والتوقيت المناسب للنصح، أو الأمر بمعروف أو نهي عن منكر وأمر سوء، فإنه كذلك مطلوب من المنصوح عدم إساءة الفهم فور تلقيه نصيحة ما، وعدم الارتياب من الموقف، أو إساءة الظن في الناصح، بل عليه ضبط النفس قدر المستطاع أولاً، ومن ثم محاولة الاستزادة في توضيح ما يمكن أن يكون قد اختلط عليه، أو استشكل عليه، قبل أن يرتاب أو يسيء الفهم، ويزيد المسألة تعقيداً، وهي في الأساس سهلة يسيرة، وما حدثت ووقعت إلا لمنفعته ومصلحته هو قبل غيره.
بذلك الفهم والوعي، يكون الناصح والمنصوح حققا مرادهما. الأول يحقق هدفه من اسداء الخير عبر نصيحته للمنصوح، والثاني وعبر سعة الصدر، يتقبل النصح بعد فهمه، فيزداد تقرباً وترابطاً مع الناصح، وخاصة إن استحضر المنصوح حديث المصطفى – ﷺ –:” الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم “. وأن ما جرى معه يأتي ضمن هذا التوجيه النبوي الشريف.
إهداء العـيوب
ليكن شعارك دوماً في مواقف النصيحة والموعظة كما كان الفاروق عمر يردده:” رحم الله امرأً أهدى إليَ عيوبي. أدري أن أحدكم سيقول: وأين نحن من الفاروق عمر؟ تساؤل معقول، لكن مع ذلك، الأمر بالطبع يحتاج همة وعزيمة وإرادة، ونية الاقتداء بأولئك العظام من البشر.
إن شخصاً في مقام أمير المؤمنين يسأل أصحابه عن عيوبه، هو أمر نادر الحدوث قديماً وحديثاً. لاحظ تواضع عمر الفاروق، وهو رئيس الدولة حينها، وأحد العشر المبشرين بالجنة، والوزير الثاني لرسول الله – ﷺ – ومع ذلك كان دوم البحث عمن ينصحه ويبين له عيوبه إن كانت له أو ظهرت منه دون أن يدركها، حتى سأل ودعا بالرحمة لمن يقوم بنصحه، واستخدم كلمة لطيفة عميقة هي ( أهدى ) كما لو أنه يريد القول بأن من ينصحه فكأنما يقدم له هدية.
لاحظ كيف شعورك حين يقدم لك أحد هدية ما، لا شك أنك تكون في غاية السعادة والرضى من هذا الشخص. وهكذا أدعو نفسي وإياكم أن نحاول جهدنا الاقتداء برسولنا الحبيب عليه الصلاة والسلام أولاً، ومن ثم سلفنا الصالح الراشد ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. رضي الله عنهم وأرضاهم.