اليسر: ضد العسر، وتيسر كذا واستيسر أي: تسهل وتهيأ “فاقرءوا ما تيسر منه، ومنه أيسرت المرأة، وتيسرت في كذا. أي سهلته وهيأته، واليسر: السهل[1]. واليُسْرُ – أيضًا- ضد العُسْرِ. ومنه “الدِّين يُسْرٌ” أي سهلٌ سَمْحٌ قليل التشديد. [2]

وتقوم الشريعة الإسلامية على فكرة “اليسر” في عالميها (النظري والعملي) والتي تعتمد بدورها –أي فكرة اليسر- على مفهوم مظلة ومركزي في الإسلام هو مفهوم الفطرة “فالإسلام دين الفطرة”، والتي تستمد مرجعيتها من قوله تعالي { فِطرةَ اللهِ التي فَطَر النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم:30].

ويذكر علال الفاسي  أن معنى كون الإسلام دين الفطرة أي أنه الدين المتفق مع ما جُبل عليه الإنسان بصفته إنسانًا من جملة العقل والاستعداد للحضارة والقدرة على اكتساب المعرفة، والمرونة على الطاعة والذي يساعده على تنمية معارفه وسد حاجاته فيما يخص العادات والعبادات.[3]

وفي ضوء “المرونة” على الطاعة فهو استعداد في فطرة الإنسان يسمى القابلية للدين والتدين، وجاءت الفروض الشرعية (الواجبات) لتتلاءم مع تلك الطبيعة الإنسانية، وجاء إطار الشريعة الحاكم (للأداء) لهذه (الواجبات) مُسيجًا باليسر مواجهًا ونابذًا لكل صور التشدد والمغالاة التي ربما تطرأ على حركة (العبادة) التي هي – بمفهومها الواسع – مناط نشاط المؤمن وحياته, ومن ثم لفت الوحي إلى بعض صور المغالاة فيمن سبقوا وأسماها بالبدعة  { وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } [ الحديد:27]، فقد يتمادى الإنسان في تأدية بعض النوافل والعزلة عن الناس بعض الوقت ليستمد زادًا روحيا يساعده على المسير في الحياة والقيام بما يلزم من أعبائها وفق منهج يتسم بالأخلاقية الإلهية التي هي الإطار الذي يتحكم في بناء الشريعة ويتغلغل في أرجائها.

وتؤكد النبوة الراشدة على أن مفهوم الشدة وأخذ الدين بها مناقض لطبيعة الشريعة ذاتها وطبيعة ما تدعو إليه. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الدين يُسْرٌ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه, فسددوا وقاربوا وأبشروا”.[4]

إن التكاليف الشريعة في إجمالها وتفاصيلها ترتبط في العالم العملي لها بالقدرة على الأداء والتحمل وتوفر الشروط المادية للمؤدي لها، ومن ثم “تقصي الشريعة من مجال التكليف كل مالا يمكن أن يخضع خضوعًا مباشرًا، أو غير مباشر للقدرة الإنسانية.[5]

ولهذا أكدت الشريعة على المبادئ المركزية التالية في شبكة مقاصدها فيما يتعلق بأداء الواجبات والتكاليف المفروضة الأداء. وهذه المبادئ هي:

1- اليسر: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة:185].

2- رفع الحرج: { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].

3- التخفيف : { يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ } [النساء:28].

وقد واجهت “النبوة” محالات الانحراف الأولى التي كادت أن تحدث في التطبيق العملي للشريعة الواقع الاجتماعي للمؤمنين بها , وتمثل ذلك في الحادثة المبكرة في مجتمع المدينة وهي حادثة الـ”ثلاثة رهط” المعروفة. الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم– يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم, قالوا وأين نحن من عبادة رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, قال أحدهم أما أنا فإني أصوم الدهر ولا أفطر, وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا, فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكدا, أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.[6] ..وهكذا يواجه النبي محاولات وضع الإصر الأولى, ويفصح قولًا وعملًا وشرحا للوحي وتطبيقًا للشريعة في يسرها وحركتها على الأرض البكر الممهدة للإسلام.

وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج إلى مكة عام الفتح فصام حتى بلغ كراع الغميم*، وصام معه الناس، فقيل له : إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإن الناس ينظرون فيما فعلت، فدعا يقدح من ماء بعد العصر، فشرب، والناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم، وصام بعضهم، فبلغه أن ناسًا صاموا، فقال: أولئك العصاة: لأنهم شق عليهم الصوم وخالفوا الرخصة.

إن الشريعة الإسلامية وفي أول وظائفها الحيوية للإنسان في البناء الجديد للبشرية قامت برفع “الإصر” الذي وضعه الإنسان على نفسه في الشرائع السابقة { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف:157]. واستبدلت هذا الإصر بالرحمة { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [الأنبياء:107]

والإصر : جملة الأعمال التي اكتسبها بنو إسرائيل في مسيرة الإيمان مع موسى عليه السلام وما ترتب عليه من جملة عقوبات فرضت عليهم كالسبت وتحريم بعض الطيبات إلى التيه في الأرض”. “فهي إجراءات اتخذت فيما بعد عقابًا لهم على سوء عملهم “التشدد والتنطع”. ولهذا كان الإسلام – الفطرة هي إعادة اعتدال ميزان شريعة الله في الأرض بما تتفق مع الفطرة والطبيعة الإنسانية بما يمكن “الرحمة” من تأدية وظيفتها في حركة الكون ونشاط الإنسان.

ومن ناحية أخرى فإن للعبادة مقاصد لا يحققها “التشدد والغلو”, الذي يبحث فيه البعض عن تحقيق المشقة لحاجة في النفس (ترضيها) أو (تشبعها) بحالة الرضا – عن قيامه أو انقطاعه أو زهده-ليست من السوية النفسية للإنسان، وربما يكون حال عدم توفر الشروط أو القدرة على الأداء لتحقيق المشقة – بصورة مستمرة وهو ما يخالف طبيعة الفطرة-  يكون عاملاً عكسيًا ضد الأداء جملة مثل الشعور بالذهب الوهمي – حال عدم تحققه-، فضلاً عما يسببه الأداء – حال تحققه- من الغرور والتعالي الإنساني وتضخم الذات وإفساد العلاقات بينها وبين الآخرين وهو ضد مقصد الاستخلاف والعمران.

وهكذا يقوم الإطار الفكري والمقصدي للشريعة الإسلامية على مبدئية “اليسر العملي” من خلال التأكيد على التيسير في مقابل العسر, ورفع الحرج في مقابل التضييق, والتخفيف في مقابل الإصر. وبُنيت أحكام الفقه (السلوك العملي للمكلف) على قواعد عدة ومتنوعة تستمد مبادئها من مثلت اليسر العملي: التيسير والتخفيف ورفع الحرج.

 

ركائز اليسر العملي في الشريعة

ومن الجدير هنا أن نشير إلى نقطة مفصلية في القضية المطروحة وهي “أن اليسر لا يعني الضعف كما أن التشدد لا يعني القوة”.. ينفي عبد المتعال الصعيدي أن تكون مبدئية “اليسر” في الإسلام مرادفًا للضعف أو الكسل، ولكن اليسر مضاد للإصر، وقد ارتبط الإصر الذي فرضه بنو إسرائيل على أنفسهم جراء مخالفتهم لأنبيائهم وتجرؤهم على حدود الله تعالى…هذا الإصر ارتبط بضعف هؤلاء القوم وتخلفهم عن تنفيذ أوامر الله بينما لم يكن المسلمون كذلك, فبينما قال بنو إسرائيل لموسى – عليه السلام – )فَاذْهَبْ( أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا.. قال المسلمون للنبي – صلى الله عليه وسلم – امض لما أمرك الله فو الله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون. والله لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.[7]

إن مبدئية اليسر تتفق مع طبيعة الدين الخاتم والشريعة السماوية التي تقوم على “الوسطية” بين الشدة واللين، لأن دين الله أريد به أن يكون صانعًا لكل الناس، ملائمًا لكل زمان ومكان، ليكون خاتمة الشرائع السماوية وينتهي به التشريع الإلهي. فلابد أن يكون ملائمًا للفطرة، داخلاً في حدود الطاقة البشرية للأفراد… والشرائع إنما تقاس بمقدار صلاحيتها للناس في ذاتها، لأن درجاتها في الرقي تابعة لمقدار صلاحيتها… وقد بلغت الشريعة الإسلامية الغاية في هذه الصلاحية، لأنها جاءت وسطًا في تكاليفها، فقربت من كل الفطر البشرية على اختلافها، وصارت في طاقة كل فرد من غير إرهاق وعنت[8].

إن أحد وجوه اليسر العملي للشريعة ما يتعلق بأحد أحكام الصوم وهذا الحكم هو “قضاء الصوم لمن لم يستطع القيام به في الوقت المحدد له في وقت آخر) أَيَّامٍ أُخَرَ (والآية توضح نوعين ممن يجب عليهم الصوم برخصة الإفطار حال توفر شروط الأخذ بها وهذه الشروط هي: المرض والسفر ) فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَر(، ويذكر القرطبي أن للمريض حالتان : إحداهما: ألا يطيق الصوم بحال، فعليه الفطر واجبًا. والثانية: أن يقدر على الصوم بضرورة ومشقة، فهذا يستحب له الفطر.. ويزيد القرطبي: ولا يصوم – في هاتين الحالتين – إلا (جاهل). واختُلف في تحديد ماهية المرض الذي يوجب / يرخص الإفطار.. فقيل:

– هو خوف التلف من الصيام،

– أو الخوف شدة المرض والزيادة فيه والمشقة الفادحة – وهذا صحيح مذهبه وهو مقتضي الظاهر، لأنه لم يخص مرضًا من مرض فهو مباح في كل مرض.

– وقال الحسن: إذا لم يقدر من المرض على الصلاة قائمًا أفطر.

– وقال النخعي: لا يفطر بالمرض إلا من دعته ضرورة المرض نفسه إلى الفطر ومتى احتمل الضرر معه لم يفطر.

– وقال أبو حنيفة : إذا خاف الرجل على نفسه وهو صائم إن لم يفطر أن تزداد عينه وجعًا أو حماه شدة أفطر.

أما حالة السفر: فقد اختلف فيه – أيضًا – والإجماع في حالتا السفر للطاعة أو الجهاد، ويتصل بهذين:

– سفر صلة الرحم.

– وطلب المعاش الضروري.

– أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنح والإجازة، والقول بالجواز أولى.

– أما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع والقول بالمنع أرجح.

نؤكد في الخاتمة أننا لسنا بصدد البحث في اختلاف الفقهاء حول “الأيام الأخر” لمن تكون؟  ومن يكون أصحابها؟، لأن كتب الفقه قد أفاضت في ذلك وطرحته تحت مسائل متعددة مثل:

– من يرخص لهم الفطر ويجيب عليهم القضاء.

– من يرخص لهم الفطر وتجب عليهم الفدية.

– من يجب عليه الفطر والقضاء معًا.,

ولكننا نؤكد هنا على أن أمر الشريعة – في ضوء مبدئية “اليسر” هو أمر وجداني كما هو أمر مادي وظاهري – أيضًا – فالإيمان أمر قلبي يظهر في “الامتثال” أي الطاعة وما لم يكن الإيمان مستقرًا في النفس لم تتحقق الطاعة بمقاصدها العليا، وأن الإسلام لم يَفرض على الناس من المشقة في ذاتها أو أحادية وسيلة “الطاعة” وفردانية أدائها، وإنما تتعدد الوسائل للطاعة كما تتعدد أحوال الإنسان، والذي يتجاوز حدود “الطاقة” وتكليف ذاته أو تكليف الآخرين بما يشق عليهم فقد أخرج الشريعة من وسطيتها التي تحقق العدل للناس أينما كانوا وكيفما كانوا. فالشريعة كما قال الفاسي “تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان لا على قوات السلطان”.


[1] الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن, ص 892.

[2] المعجم الوسيط ،ص 1078.

[3]  علال الفاسي: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص87.

[4] رواه البخاري (39) ومسلم (2816)

[5] عبد الله دراز: دستور الأخلاق في القرآن، ص73.

[6] البخاري , كتاب النكاح, باب الترغيب في النكاح.

* رواه مسلم والنسائي والترمذي.

[7] مدينة ساحلية على البحر الأحمر غرب شبه الجزيرة العربية.

[8] عبد المتعال الصعيدي: تعليل خاطئ ليسر الإسلام، مجلة رسالة الإسلام، س8, ع3، ص308.