قال تعالى : { إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } (البقرة: 170)
تكررت آيات شبيهة المعنى بالآية، وكل الآيات الشبيهة تستنكر التصاق الأبناء بإرث الآباء، وبالطبع ليس كل الإرث، وإنما ذاك المعاكس للحق. هذا إرث باطل يجب تصحيحه، وإلا فمحاربته أولى. هكذا كانت دعوات الأنبياء والمرسلين.
لقد دعا النبي ﷺ قومه إلى خير الدنيا والآخرة، وإلى نبذ الشرك وعبادة غير الله، فإذ بالقوم يتغنون بإرث أسلافهم وأجدادهم، وأنهم على دربهم سائرون. هكذا كان غالبية القدماء، وهكذا كانت عقلياتهم التي لوّثها الشيطان أيَّما لوثة.
المسألة لم تكن كامنة في العقول والألباب فحسب، بل في أعماق القلوب التي في الصدور؛ عناد وتحجر وتصلب بلا حدود. إن أيَّ عقل بشري سوي، حين يرى الحق والباطل واضحين أمامه، فإن فطرته تدفعه تلقائياً نحو الحق، وتبعده عن الباطل، إلا إذا اختار هو بنفسه فعل المكابرة والمعاندة، فهكذا كان الأوَّلون مع أنبيائهم.
بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا
قيل: الآية نازلة في مشركي العرب وكفار قريش الذين اقتفوا خطوات الشيطان، وقالوا على الله بدون علم ولا برهان. إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله من قرآن، أعرضوا عن ذلك وقالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة الأصنام والخضوع للرؤساء، كما في التفسير الوسيط للطنطاوي.
إذن، هو تقليد أعمى مذموم؛ فليس كل تقليد محموداً. إنَّ التقليد في أمور العقيدة والتوحيد، دون علم ودراية كافية بما كان عليه من يتم تقليدهم، أمرٌ مذموم يودي بصاحبه إلى التهلكة. ولهذا ردَّ الله على من قال ونادى باتباع الآباء من منطلق التقليد الأعمى غير السوي، المحاط بعناد وكِبْرٍ وجهل: { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } (البقرة: 170).
صم بكم عمي فهم لا يعقلون
التقليد الأعمى إذن، كما أسلفنا، يؤدي بصاحبه إلى التهلكة إن كان تقليد الآباء والأجداد في أمور العقيدة، وكان أولئك الآباء والأجداد أساساً على ضلالة وكفر. من هنا وصف الله تعالى هؤلاء المقلِّدين الذين ساروا في درب تعطيل العقول بأنهم مثل أغنام ينعق لها راعيها بالدعاء أن تأتي، أو بالنداء أن تذهب. أغنام لا تفقه شيئاً مما تسمع من الأصوات.
قال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون } (البقرة: 171).
إنَّ مثلك يا محمد ومثل الكفار في وعظهم ودعائهم إلى الله عز وجل، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم – كما قال البغوي في تفسيره – إذ الكافر لا ينتفع بوعظك، إنما يسمع صوتك فقط. إنها صورة زرية – كما يقول صاحب ظلال القرآن – تليق بهذا «التقليد» وهذا الجمود، صورة البهيمة السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا صاح بها راعيها سمعت مجرد صوت لا تفقه معناه. بل هم أضل من هذه البهيمة؛ فالبهيمة ترى وتسمع وتصيح، وهم صمّ بكم عُمي. ولو كانت لهم آذان وألسنة وعيون، ما داموا لا ينتفعون بها ولا يهتدون، فكأنها لا تؤدي وظيفتها التي خُلقت لها، وكأنهم إذن لم تُوهب لهم آذان وألسنة وعيون.
وهذه منتهى الزراية بمن يعطّل تفكيره، ويغلق منافذ المعرفة والهداية، ويتلقى في أمر العقيدة والشريعة من غير الجهة التي ينبغي أن يتلقى منها أمر العقيدة والشريعة.
ما فائدة الآذان التي لا تسمع الحق؟ وما فائدة العيون التي لا ترى البراهين الدالة عليه؟ وما فائدة الألسن التي لا تنطق به؟ وعذرهم في كل ذلك: {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}!.
فليس غريباً إذن أن يشبّههم الله بالأنعام، بل هم أضل.