ما إن شعر الخليفة باقتحام المجرمين للدار حتى سارع إلى المصحف لينظر فيه. ليس خوفا من القتل ، أو محاولة يائسة للنجاة باستدعاء قوى غيبية، وإنما استكمالا للرحلة التي دشنها قلب رحماني منذ طرق الإيمان بابه.
مشهد غير مألوف في زمان العسس والحرس، والعيون التي ترصد الصغيرة قبل الكبيرة، وتحذر من الخطر على بعد أميال. لكنه هنا تتويج لمسار رجال ألهمهم الدين تضحية فريدة بالنفس قبل المال، وحلق بعزائمهم في آفاق عجز التاريخ عن مواصلة السير فيها، فارتد إلى واقعه ليُقتل عثمان رضي الله عنه !
في شرحه لعجائب القلب يفرق أبو حامد الغزالي بين قطعة اللحم المودعة في صدر المخلوق، سواء كان إنسانا أو بهيمة أو ميتا لا فرق، وبين اللطيفة الربانية المتعلقة به والتي لأجلها عظُمَ شرف الإنسان. وحديثي هنا عن القلب الرحماني إنما يومئ للمعنى الثاني الذي حمل نخبة من فتيان قريش على مخاصمة القوم وتحمل أذاهم، وجعل من وردهم القرآني زمزمَ أرواحِهم، وفسحتهم اليومية للنظر والتفكر والاعتبار.
كان إسلام عثمان رضي الله عنه، كما نستشف من أخبار الرواة، موقفا متبصرا، وتفاعلا إيجابيا مع النظرة الثاقبة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه في كشف ضلال الوثنية، ومجافاتها للعقل. ومن دون شك فإن لطبيعته السمحة والهادئة دورا في تلك النقلة الفريدة التي كانت لتشكل حدثا لا يقل أهمية عن إسلام الفاروق وحمزة رضي الله عنهما، لولا حرص بعض رواة السيرة على تغليب حضور ذوي البأس والشدة ! كيف لا وقد أحدث جهاد عثمان بماله منعطفا في مسارات شتى زمن الرسالة !
دخل أبو هريرة رضي الله عنه على رقية بنت رسول الله ﷺ، وهي زوج عثمان رضي الله عنه وفي يدها مشط، فقالت: خرج من عندي رسول الله ﷺ آنفا، رجّلت رأسه فقال: ” كيف تجدين أبا عبد الله؟” يعني عثمان، قلت : كخير الرجال. قال:” أكرميه، فإنه من أشبه أصحابي بي خلقا”- رواه أحمد في فضائل الصحابة.رقم840- ولأن خلق النبوة هو القرآن فسيكون لفتى قريش لقاء عجيب معه، يشهد به الصحابة وتؤكده مجريات الأحداث !
اجتمعت في عثمان خصلتان لا يحتملهما إلا قلب رحماني، هما الحياء والسخاء. وكان لتعلقه بالقرآن أثر بالغ في اعتمادهما بوصلة للسلوك اليومي تجاه الناس عامة، والمحتاجين على وجه الخصوص. وهو القائل رضوان الله عليه : حُبب إلي من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن. وإكساب القلب صفة الرحمانية ليس بالأمر الهين، إن لم يكن لصاحبه شغل مع القرآن يملك عليه نفسه ووقته، وكذلك كان عثمان !
عرض القرآنَ على رسول الله ﷺ قبل وفاته.
وكانت يمينه أول يد تخط المفصل قبل أن يقطعها قاتله.
وخرّق مصحفه من كثرة التلاوة، وفرطِ ما أدام النظر فيه.
وروي من وجوه عديدة أنه صلى بالقرآن الكريم ركعة سميت بالبُتيراء.
و ستظل مفخرته للأبد أنه جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، ووأد بذلك خلافا في مهده.
وكان القرآن الكريم حجته البالغة زمن الفتنة، حتى أنه قال لبعض محاوريه: ” إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجليّ في قيود فضعوهما”.
وحين استشهد رضي الله عنه كان المصحف بين يديه، وانساح دمه الشريف على قوله تعالى: { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} البقرة:137.
إنها محطات وجدانية تستحث الدارس لشخصية عثمان رضي الله عنه كي يتوقف عندها ويتدبرها جيدا. لأن مدار النص القرآني على المعايشة القلبية، إن صحت فإنه يختلط بلحم القارئ ودمه، وإن لم تصح يصير حجة عليه يوم القيامة.
أبلغ تعبير لعثمان رضي الله عنه عن معايشته للقرآن قوله: لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف. وطُهر القلب هو تتويج لرحلة مع القرآن، ابتدأت بجمعه وتلاوته وكتابته، لتنتهي بالانغماس في معانيه حد الإعراض عن زخرف الدنيا، وإيثار الصيام والقيام على رغد العيش والترف. وهي الصورة التي حملت الصحابي الورع عبدالله بن عمر رضي الله عنهما على تفسير قوله تعالى:{ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} الزمر: 9، بقوله : هو عثمان بن عفان !
افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه”، هكذا أجيب عثمان رضي الله عنه وهو يستأذن بالدخول على النبي ﷺ. فحمد الله ثم قال: الله المستعان.
تلك إحدى صفات القلب الرحماني: ألا يكتفي بتوقع البلاء وإنما يستعد له. غير أنه استعداد لا يروم دفع البلاء وإنما تلقيه برضى كامل، وخضوع يليق بقلب عايش الوحي غضا طريا. وفي اللحظة التي تجمع فيها المشاغبون أمام بيته، مهر عثمان رضي الله عنه خضوعه للبلوى بتوقيع السخاء والحياء: سخائه بنفسه صيانة لكيان الدولة ووحدة الأمة، وحيائه من ربه أن يُسفك دم في الدفاع عنه.
رحم الله عثمان !