لعل هاتين الآيتين من سورة الكهف: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } ( 103- 104) هما من أصعب الآيات على المؤمنين عموما، حين يتفقد أحدهم نفسه ويراجع إيمانه وإخلاصه لله تعالى؛ فالمؤمن مطالَب بتفقد إيمانه ونيته، تماما كما يتفقد جسده وماله.
هما آيتان مخيفتان تهددان كل واحد منا؛ فقد يكون كل عمله غير مقبول، وهو يظن أنه يفعل الصحيح من القول والعمل. وهما لا تتحدثان عن الخسران فقط، بل الأشد خسارة، ويا له من موقف محرج حين يقف أمام الخلائق، يظن نفسه قد عمل خيرا، وإذا به مسرف في الخسران، فقد ضل سعيه، والضلال ضد الهدى، وكان يسير في الدنيا خبط عشواء، مكبا على وجهه، لا يهمه التحري والتأكد.
هي سورة الكهف التي تحدثت عن قصص نادر في القرآن لم يتكرر، تعالج أولها الفتنة في الدين، وما هو مطلوب من ثبات ويقين بالله تعالى؛ فكانت قصة أهل الكهف. ثم فتنة المال، وقصة صاحب الجنتين وجشعه وغروره وبغيه، وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان عموما والغني خصوصا من تواضع. فالمال لله، وأنت مستخلف فيه، وهو فتنة لك لتشكر الله تعالى عليه فتزكيه وتتصدق منه.
وفي الثالثة، كانت قصة آدم وإبليس، والتي جاءت مختصرة متوسطة القصص بشكل عام؛ وحيث الرد إلى أصل ما خُلق منه الإنسان، وطبيعة العداوة التاريخية بين الإنسان والشيطان. ثم كانت قصة موسى والعبد الصالح؛ حيث فتنة العلم وضرورة التواضع عند العلماء عموما، وبيان حقائق متعلقة بظاهر الأمر وباطنه، حين تبدو الأفعال وفق واقع ما، بينما حقيقتها أشياء أخرى. وفي هذا ما فيه من ضرورة التسليم بقضاء الله تعالى والرضى به. وكانت القصة الأخيرة المتحدثة عن القوة وأهميتها وضرورة نسبتها إلى الله تعالى، حيث قصة ذي القرنين وسعيه شرقا وغربا، وما فعله مع يأجوج ومأجوج، وكان الفضل في كل ما فعله لله تعالى.
في هذه الأجواء، يأتي الحديث عن الآخرة، والنفخ في الصور وجمع الخلائق، وعرض جهنم على الكافرين الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، وأسماعهم معطلة عن الحق. وحينها يأتي الحديث عن الأخسرين أعمالا؛ هؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. ومرة أخرى، فإن مدلول الضلال مهم، لأنهم لا تعنيهم حياتهم ولا دينهم ولا مصيرهم القادم الدائم، والأنكى من ذلك أنهم يقنعون أنفسهم بأنهم يحسنون صنعا؛ فهم الذين كفروا بآيات الله ولقائه، واضح منهم الاستهزاء وضعف العزيمة الحقيقية التي من خلالها ينتبهون إلى حقيقة أمرهم، فقد تبلدت أحاسيسهم وانطفأت جذوة الإيمان في قلوبهم، ولن يكون هذا إلا عقوبة على أمور فعلوها، وأهمها سوء ظنهم بالله تعالى.
ولم تترك الآيات المؤمنين في حيرة من أمرهم أمام هذه الأوصاف المخيفة لهذه الفئة، فهم الذين كفروا بآيات الله ولقائه، وجزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آيات الله ورسله هزوا. فالأمور ليست طارئة عليهم، بل هم منخرطون في سلسلة من الاعتقادات والأعمال التي أوصلتهم إلى هذا الحد.
والعجيب في الآية هو ذكر أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أجل، فإن هؤلاء من غرورهم يزعمون أنهم مصلحون محسنون مؤمنون، هكذا يروّجون لأنفسهم. والمصيبة ليست فيهم، بل فيمن يصدقهم، ممن يرون السراب ماءً، ينقادون وراءهم مطأطئين رؤوسهم. فالقوم واضحة أعمالهم وحججهم السخيفة، والعتب ليس عليهم، بل على من يعمي عينيه وقلبه عن مشاهدة أخطائهم، بل جرائمهم. فكم هي المغالطات التي وقع فيها حكام، من قتل وتشويه للدين والدعاة ونشر للرذيلة، ومع ذلك نحسن الظن بهم ونتبعهم على ضلالهم، فهذا لا بد أن ينتهي، ولا بد أن نقطع مرحلة في إزالة الغشاوة عن الأعين، وأن نرى ببصائرنا، ونعرض الأقوال والأفعال على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ومن رحمة الله تعالى أنه بعد أن أرشد لكل هذا، فإنه يبين لنا الخلاص والنجاة في آخر آية من السورة، فقال: { فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110)؛ وهما شرطا قبول الأعمال عند الله: الصواب والإخلاص.
الصواب، بأن يكون موافقا لما في هذا الدين، من قرآن أو سنة، وفق ما فعله الرسول ﷺ. فإن كان من الأمور المستجدة، فوفق المرجعية الإسلامية العامة. فأصول الدين ومقاصد الإسلام واضحة المعالم محددة الغايات. أما الأمر الثاني، فهو الإخلاص لله تعالى؛ فكل سكنات المسلم وحركاته ينبغي أن تكون لله تعالى، يبتغي بها وجه الله تعالى، وحينها يكتب الله له المباحات حسنات، ويا له من أجر عظيم.
كم هم المجرمون الذين يستهزئون بالإسلام باسم الإسلام، وبالدعاة وأهل الدين باسم الدين. وعجيب أمر هؤلاء حين يتحدثون باسم الدين وهم في الحقيقة يحاربونه. وليس بالضرورة أن تكون حرب الدين علنا، فهذه لا يفعلها أحد منهم، ولكنهم يحاربون القيم الإسلامية، والهوية الإسلامية والمنهج الإسلامي، وهم أبواق أو ببغاوات لما يفعله آخرون معروفون في حربهم الإسلام. وهنا التعجب من أشخاص لا بصيرة لهم، يأبون إلا النظر إلى الأمور من زاوية واحدة تخصهم.
لا بد لأحدنا من أن يكون على قناعة من منهجه وأعماله، ولا بد من يقين بالله تعالى لا يقبل التردد أبدا. فثقة المسلم بدينه ومنهجه مسألة عظيمة، تبعث فيه الطمأنينة والإيجابية، بينما القلق والتردد يبعثان عليه حيرة قد تؤدي به إلى الانتكاسة، ومن ثم تصديق مثل هؤلاء الذين ابتليت بهم الأمة؛ اللصوص المتغلبة على رقاب المسلمين، وأعوانهم من الملأ والمتنفذين، الذين لا همّ لهم في هذه الحياة إلا محاصرة الحق وأهله، وهم يروّجون أنهم الحريصون على الدين.
مطلوب من المسلم الحذر، وأن لا يكون إمّعة، وأن يعلم أن أعداءه لا يمكن أن يهدأ لهم بال ما دام هناك فكر إسلامي ووعي إسلامي. ونحن على ثقة بأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض، { وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } (يوسف : 21) .