أعجبني قول للشيخ عبدالعزيز الطريفي وهو يتحدث عن صراعنا التاريخي مع الغرب، قال:”صراعنا مع الغرب ليس صراع إسلام فقط، بل صراع فطرة. هم بحاجة لإعادتهم من حياض البهائم إلى حياض البشر، ثم بعد ذلك يأتي خطاب الإسلام”.
أوضح الغرب عبر بعض رؤوسه أو قيادته الحالية، نماذج من هذا الصراع، الذي لم يقتصر معنا فحسب، بل مع الأمم الأخرى من أعماق أفريقيا إلى أقاصي الأمازون، ومن أدغال أندونيسيا حتى قرى وأرياف سيبيريا الروسية الباردة.. ما ترك الغرب هذا بقعة إلا وأراد نشر قيمه وتصوراته، رغبة أو رهبة، مستخدماً كافة أسلحته ووسائله الإعلامية والثقافية والاقتصادية وغيرها.
جاء الحدث الكروي العالمي الذي نعيش أحداثه الآن ربما لأول مرة، وقد تم خلط الحابل بالنابل لحاجات في نفوس هذا الغرب، انكشفت سريعاً للقاصي والداني. فلقد اعتاد العالم في البطولات السابقة أن ينتظر الحدث الكروي بفارغ الصبر، يستمتع الجمهور المحب لرياضة القدم قبل بدء البطولة، بالتحليلات والآراء الرياضية وتوقعات النقاد والمراقبين للمباريات وغيرها من أحداث مرتبطة بها.
حتى إذا ما بدأت البطولة، انغمس الناس لشهر كامل في متابعة المنافسات، وتنشغل المجالس بأحاديث الكرة والمنافسات لا غيرها. لكن النسخة الحالية من هذه البطولة صارت فعلاً استثنائية، ليست في روعة التنظيم وجودة الخدمات والمرافق والملاعب، وسهولة الحركة من وإلى الملاعب وبقية الخدمات، بل حتى في الأحداث المفتعلة والمبرمجة التي سبقت البطولة، والتي زادت وتكثفت في الشهر الأخير قبل البدء. حيث تكثفت جهود مؤسسات وحكومات غربية لتشويه ما يمكن تشويهه، وتعكير أجواء الحدث بكل الطرق والوسائل الممكنة، كآخر ما في الجعبة من أفكار وخطط وبرامج. لكن خابت تلك المساعي وتلاشت مع صافرة بداية الحدث قبل أيام عشرة فائتة ولله الحمد.
المونديال ليس كرة فقط
هذا المونديال في نسخه الأخيرة، لم يعد حدثاً عادياً يلتقي الناس لمتابعة منافسات رياضية فحسب، بل صار حدثاً يجمع السياسة والاقتصاد والإعلام والرياضة والثقافة والتقاء الحضارات والشعوب. وفرصة لتمرير وتبادل رسائل متنوعة، وترسيخ مفاهيم وزرع قيم. ولأن الغرب هاله أن ينفرط هذا الحدث من بين يديه لثمانية أعوام متتالية، دون أن يتمكن من زرع قيم الغرب المعروفة، وجدته منتقداً هائجاً للنسخة السابقة لروسيا، وإن ليست بالكثافة الحالية، باعتبار أن روسيا في النهاية جزء من العالم المسيحي رغم بعض الاختلاف في القيم والرؤى بين الروس وبقية الغرب.
لكن زاد هذا الغرب هيجانه وفورانه أكثر تجاه النسخة الحالية في قطر، والتي اتضحت دواخله وانكشفت، وتبين أن مثل هذا الحدث سيعطي ميزة حضارية للشرق العربي المسلم، وربما أدى إلى انتباه الملايين لهذه البقعة الجغرافية من العالم، التي لا يعرفها العالم سوى بقعة حروب وكوارث وإرهاب وتخلف، أو هكذا أبلت آلات الدعاية الغربية سنوات طوال في تثبيت هذه الصورة الذهنية لدى الرأي العام العالمي.
تلويث البطولة
بعد أن يأس الغرب من جدوى سحب البطولة من هذه المنطقة، رغم كل الملايين التي صُرفت على مكاتب العلاقات العامة في الغرب لتشويه سمعة قطر، والمبالغة في تصوير أحداث يومية تقع في كل أطراف الأرض، جاءت المنظمات المشبوهة لتلعب دورها بدعم غربي واضح، حكومات ومؤسسات خاصة، وعلى رأسها تلك المرتبطة بالشواذ، تدعمهم وتحميهم وتنشر لهم في محاولة أخيرة لتلويث البطولة، والذوق العام العالمي بنواقض الفطرة السليمة، فخابت مساعيهم تارة أخرى ولله الحمد.
واضح إذن أن الغرب لا يريد أن يتقبل فكرة التخلي عن قيادة البشرية في أي ميدان. يريد أن يكون هو القائد والمنظّر والمتبوع. لا يريد أن يرى أحداً ينافسه في التنظير وقيادة البشرية وتعميم قيم الغرب المعلبة الجاهزة، على رغم أنه لا زال يمتلك أدوات تلك القيادة، وإن كان لا يعني حديثي هذا أنه فقدها. لكنه يعي أن ما يحدث أمامه، إنما إرهاصات على قرب زوال القيادة الغربية للبشرية، شأنها شأن بقية الحضارات والأمم السابقة، وكسنّة إلهية في الأرض. لكنه يريد تأخير هذا الزوال قدر المستطاع.
إن بقاء الغرب في القيادة رهن بتعديل فطرته المنتكسة. رهن بعودته إلى طريق الأخلاق والفضائل والقيم، قولاً وعملاً وليس تنظيراً فحسب. إن ما يحدث الآن من تعد واضح على الفطرة وبشكل متعمد، ومحاولة نشر ذلك المنهج في العالم، إنما إشارة إلى أن الغرب فقد بوصلته، وضاعت وجهته، ولم يعد قادراً العودة إلى جادة الصواب.
البقاء للأنظف
الحضارات بحسب المؤرخ البريطاني توينبي، تمر بمراحل خمس من البداية حتى النهاية، منها ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩ ﻭﺍﻟﻨﺸﺄﺓ، ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍلاﺯﺩﻫﺎﺭ ﻭﺍﻟﺘﻮﺳﻊ ﺍﻟﺴﺮﻳﻊ، ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﺠﻤﻮﺩ ﻭﺍﻟﻌﺠﺰ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﻄﻮﺭ ﻭﺍلإﺑﺪﺍﻉ ﻭﺍﻟﺘﺠﺪﻳﺪ، ﻣﺮﺣﻠﺔ ﺍﻻﻧﺤﻼﻝ ﻭﺍﻟﺘﺪﻫﻮﺭ ﺍلأﺧﻼﻗﻲ، وأخيراً مرﺣﻠﺔ ﺍﻟﺴﻘﻮﻁ ﻭﺍﻻﻧﻬﻴﺎﺭ. والحضارة الغربية تعيش المرحلة قبل الأخيرة بكل وضوح، بل تتقدم بشكل سريع وكأنما تريد الدخول إلى المرحلة الأخيرة، لتخلص نفسها والأرض من التلوث الفكري والقيمي والأخلاقي الناتج بسببها..
ابن خلدون يرى من جانبه أن السلوك الأخلاقي المنحرف هو طريق الانهيار الحضاري، وأن رقي الأمم ليس في توافر القوة المادية أو رقي العقل فحسب، ﺑل بتوافر الأخلاق الحسنة، وهو ما أشار إليه بالضبط الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون بقوله، إن الانقلاب يحدث في حياة الأمم ﺑﺎﻷﺧﻼﻕ ﻭﺣﺪﻫﺎ، ﻭﻋﻠﻰ ﺍﻷﺧﻼﻕ ﻳﺆﺳﺲ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ ﺍﻷﻣﺔ ﻭﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﺍﻟﺤﺎﺿﺮﺓ، ﻭﻋﻨﺪﻣﺎ ﺗﺬﻭﻯ ﺃﺧﻼﻕ ﺍﻷﻣﺔ ﺗﻤﻮﺕ ﻣﻊ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﻌﻘﻞ ﻭﺍﻟﻘﻠﺐ ﺍﻟﻠﺬﻳﻦ ﺭﺑﻤﺎ ﻳﻜﻮﻧﺎﻥ ﻣﺘﻘﺪﻣﻴﻦ ﻓﻲ ﻧﻮﺍﺡ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻛﺜﻴﺮﺓ.