في شرحه لآية “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” يحدثنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1393ه/1974مـ) عن أن الله – جل وعلا – أَجْمَلَ فيها “جميع ما في القرآن من الهُدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها”، وأن أَقوَمِيَّة القرآن تتجلى في أمور كثيرة منها: توحيد الله تعالى، وجَعْلُ الطلاق بيد الرجل، وإباحةُ تعدد الزوجات، وتفضيل الذكر على الأنثى في الميراث. ويستفيض الشيخ في جلب الحجج والبراهين على هذه المسائل؛ للرد على فكرة المساواة بين المرأة والرجل.
تفسير الشنقيطي هنا يطرح تساؤلاً مركزيًّا حول الرابط بين أقومية القرآن وتوحيد الله وكمال الذكورة ونقصان الأنوثة وما يتصل بذلك من أحكام تَوَسَّلَ بها لرفض فكرة المساواة وتكفيرها، فمنطقه في الحِجَاج يَقضي بأن المشكِّكين بالمسائل التشريعية المرتبطة بتنظيم العلاقة بين المرأة والرجل يشككون في أصل (التصديق) المرتبط بالإيمان، ولا يناقشون في “الأعمال” التي هي من آثار الإيمان، وهو ما يعكس خللاً جوهريًّا في منطق الخطاب السلفي عامة الذي يعاني من عَقْدَنة “جَعل كل شيء عَقَديًّا” كل المسائل والخلط بين التصديق (العقيدة) والأعمال (الفقه).
وهذا الخطاب حديثٌ على تفسير القرآن، فلو راجعنا كتب التفسير القديمة لن نجد أي إشارة لهذه المعاني التي يُقحمها الشنقيطي على النص القرآني بخطاب متوتر ومذعور من التغيرات الاجتماعية التي أصابت العلاقة بين الرجل والمرأة والتنظيمات المرتبطة بها، فمقاتل بن سليمان (150هـ) لا يزيد في شرحه للآية نفسها على القول: “أَقْوَمُ يعني أصوب”، ويحدثنا الماتريدي (333هـ) عن ثلاثة معانٍ تدور على أن القرآن يهدي إلى “أقوم الملل وأعدلها، والملة هي الدِّين”، وأنه يجوز أن يكون قوله “يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” بمعنى “للأعمال الصالحات وللخيرات”.
أما الطبري (310هـ): فيوجز القول بأن “هذا القرآن يهدي عباد الله المهتدين به إلى قَصْد السبيل التي ضلّ عنها سائر أهل الملل المكذِّبين به”. ولكن الفخر الرازي (606هـ) يُثير مسألتين: الأولى هي إشكال لا يخطر على بال الشنقيطي، ذلك أن الآية “تدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان”، وأن “قولنا: هذا الشيء أقوم من ذاك، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية”. والمسألة الثانية هي أن نَظْم الآية وسياقها يدل على أن “الأقوم ليس إلا ذِكْر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة”، أي إن كل النقاش الفقهي والتشريعي الذي خاض فيه الشنقيطي هو خارج سياق الخطاب القرآني أصلاً.
فتفسير الشنقيطي هنا اصطبغ بتحيزات سابقة على النص ومُقحمة فيه، فهو تفسير خَطَابي لا يناقش الخِطاب القرآني نفسه الذي يدّعي أنه يُفسره، ولا يتوسل بالتحليل اللغوي والبياني، ولا يحلل بنية الخطاب القرآني إلى عناصرها الأساسية؛ لأنه مشغوفٌ بسجال حديث من خارج النص القرآني يبحث له عن دليل، أي أن النص هنا تابع لا متبوع.
الأمر الأشد استنكارًا في تفسير الشنقيطي أنه يخلط بين الثقافي (بما هو نسبي ومتغير) والديني (الذي يؤسَس له النص/الوحي)، ويعكس توتره تجاه التحولات التي تحصل والتي تُفقده بعض سلطته، فالشنقيطي يتبنى تصورًا “أداتيًّا” عن المرأة ويجعله من التي هي أقوم (أي تصورًا قرآنيًّا!)، فالنساء عند الشنقيطي “مزارع وحقول تُبْذَر فيها النُّطَف كما يبذر الحب في الأرض”، و”الأنثى متاع” كما هو معلوم عند عامة العقلاء (كذا!)، وأن “النهي عن قتل النساء والصبيان في الجهاد؛ لأنهما من جملة مال المسلمين الغانمين”. فالمرأة متاعٌ، ومالٌ، ومزرعةٌ، وتشبه الطعام والفاكهة (يورد خلافًا حول هل الزواج قوتٌ أو تَفَكُّه)، وهي مقدماتٌ يريد أن يَخلص من خلالها إلى إثبات قاعدة هي أن “الأنوثة نَقْص خلقي، وضَعف طبيعي” ليسوّغ أن “الناقص الضعيف بخلقته وطبيعته يَلزم أن يكون تحت نظر الكامل في خِلْقته القويِّ بطبيعته”، وهي قاعدةٌ يَحكم بها “العقل الصحيح الذي يدرك الحِكَم والأسرار”!
لا يدرك الشنقيطي أنه بهذا الخطاب يحوّل المرأة إلى “شيء”، وبذلك يعبر عن خطاب فقير أخلاقيًّا؛ لأن القاعدة الأخلاقية الحديثة تنظر إلى الإنسان في نفسه على أنه غاية وأنه لا يجوز أن يُجعَل غَرَضًا أو وسيلة، وهو معنىً مبثوث في خطاب الوحي. المشكلة الأخرى أن خطاب الشنقيطي وعامة المشايخ يختزل مفهوم الأخلاق في حدود التصورات الخاصة بدور المرأة ووظيفتها وعلاقتها بالرجل، “فالانحطاط إلى درجة البهائم” يكون “في عدم الصيانة، والمحافظة على الشرف”، و”ضياع المروءة والدين” يكون في “خروج المرأة وابتذالها”، ولكن تشييء المرأة نفسها وجعلها متاعًا ومالاً وهدر كرامتها وإرادتها الحرة وكينونتها لا يُخل بأي نظر أخلاقي
الطريف أن الشنقيطي الحريص على عدم ضياع الأخلاق يعتبر تسوية الأنثى بالذكر “فكرة كافرة خاطئة خاسئة مخالفة للحس والعقل وللوحي السماوي”، ذلك أن “الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها: صالحةً لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني صلاحًا لا يصلح لها غيرُها: كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد، وخدمة البيت، والقيام على شؤونه: من طبخ وعجن وكنس ونحو ذلك”، فخطاب الشنقيطي يناهض خطاب المساواة المطلقة بين الجنسين بخطاب ذكوري مفرط تغيب فيه كل صور التساوي بينهما حتى التي تَرِد في النص القرآني نفسه، كما أنه يجعل من الوظائف الاجتماعية والثقافية جَعلاً إلهيًّا، وهو خطاب يكشف عن خلل أخلاقيّ جوهري لا يستشكل غياب قيم العدل والكرامة والمساواة!
وفي الوقت الذي يَعيب فيه الشنقيطي الانحطاطَ إلى مستوى البهيمية، فإنه يَحصر رؤيته للمرأة في إطار “المتاع” ما يعني أنه خطابٌ لا يغادر البعد الشَّهويّ أو الغريزي وهو الجزء البهيمي من الإنسان، في حين أن المقصد الأعظم من الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه ليكون عبدًا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارًا، ولكن هذا النوع من الخطاب الفقهي يُضيّق أفق النص القرآني إلى مستوى الغرائز “الجسدية” ما يَهدر الرسالة القرآنية نفسها التي أرادت أن تهذب النفس الإنسانية وترتقي بها إلى أفق أخلاقي وألا تبقى في إطار الغريزة. وتغليب الجانب الغريزي حَكَم العديد من الأحكام التي تنظم العلاقات بين الجنسين في المنطق الفقهي، فلم يَسعَ الفقيه إلى الواجب واكتفى بالواقع أو ما يراه هو واقعًا وحوّله إلى خَصيصة إنسانية حاكمة ومطلقة، واختزل الإنسان ذا الأبعاد المركبة والمتعددة في بُعد واحد!
إن أي تفكير نقدي في مسائل المرأة وأدوارها يجب أن يتناول المفاهيم المركزية الحاكمة لباقي التفاصيل التي تدور حولها المعارك باستمرار (الميراث، الطاعة، القوامة…)، وهو ما يعني إعادة التفكير في المنظومة ككل لا في بعض مفرداتها، وهو جزء مما أسميه في دراساتي خلال السنوات العشر الماضية “النظام الفقهي” وقد شرحت منهجيته في كتابي “العنف المستباح”.
اللافت أن هذه القناعات والمسلّمات التي يزخر بها تفسير الشنقيطي ليس مستندها النص نفسه، ولذلك يلجأ إلى “بدهيات العقول” المزعومة؛ لإثبات تلك القناعات المطلقة، ولكن حِجَاجه يكشف عن فقرٍ مدقع في المعقولية تجعله يُغَيّب العقل باسم العقل، فهو لا يفرّق بين العقلي البدَهي الذي لا يحتاج إلى برهان، والعقلي النظريّ الذي يحتاج إلى برهان ونظر. تأمل مثلاً حججه العقلية لإثبات أَقْوَمية تعدد الزوجات التي وقعت إباحتها “لأمور محسوسة يعرفها كل العقلاء”، وتتلخص في
أولاً: أن المرأة الواحدة تحيض وتمرض، وتَنْفُس “وهي عوائق مانعة من قيامها بأخص لوازم الزوجية”.
ثانيًا: أن الرجل “لو حُبس على المرأة الواحدة في أحوال أعذارها لعُطِّلت منافعه باطلاً في غير ذنب”.
ثالثًا: أن الله أجرى العادة بأن الرجال أقل عددًا من النساء في أقطار الدنيا، وأكثر تعرضًا لأسباب الموت منهن في جميع ميادين الحياة، فلو قُصر الرجل على واحدة لبقي عدد ضخم من النساء محرومًا من الزواج، فيضطرون إلى ركوب الفاحشة.
رابعًا: أن الإناث كلهن مستعدات للزواج، وكثير من الرجال لا قدرة لهم على القيام بلوازم الزواج لفقرهم، فالمستعدون للزواج من الرجال أقل من المستعدات له من النساء؛ لأن المرأة لا عائق لها، والرجل يعوقه الفقر وعدم القدرة على لوازم النكاح.
والنتيجة اللازمة عن هذه الحجج: أن “الذكورة كمال خلقي، وقوة طبيعية، وشرف وجمال، والأنوثة نقص خلقي، وضعف طبيعي، كما هو محسوس مشاهد لجميع العقلاء، لا يكاد ينكره إلا مكابر في المحسوس”.
كل هذه الحجج المسلّمة عند جميع العقول -كما يزعم- مبنية على مقدمة بدهية عنده وهي اعتبار المرأة متاعًا (موضوعًا جنسيًّا) وهي مقدمة تتفرع عنها كل هذه الإشكالات المفترضة وتكتسي مسحة أخلاقية سواءٌ لجهة غياب العلاقة الجنسية الشرعية أم لجهة الحديث عن حقوق الزوج الذكر، وهو جوهر الإشكال الأخلاقي الذي يعاني منه الخطاب السلفي والمشيخي عامة، فلا حديث هنا عن طرفين بل عن طرف واحد؛ لأن الطرف الثاني مجرد موضوع أو أداة!
الغريب أن هذه القناعات المطلقة التي يستند فيها إلى ما يُفتَرض أنه واقعٌ مشاهدٌ ومحسوسٌ لكل العقلاء، تأتي في سياق تفسير يَنسب لنفسه أنه “أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن”، وفي الوقت نفسه يُغيّب الوظيفة الأساسية للقرآن الذي جاء لا لإقرار الواقع المشاهد المحسوس بل لترقية حال الإنسان ليتحقق بالفعل بما هو أقوم، ويترقى في معارج الكمال الأخلاقي والديني.
ويمكن تلخيص المشكلات الأساسية التي يعاني منها هذا الخطاب السلفي متمثلاً بالتفسير الذي يقدمه محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أنه:
1- يخلط الثقافي الذي هو نسبي ونتاج البيئة المتغيرة بالديني وهو مطلق ومبني على النص/الوحي.
2- يسخّر النص القرآني نفسه لخدمة قناعات مسبقة وتحيزات لا صلة لها بالنص.
3- يتوسل بالعقل لإلغاء العقل نفسه؛ ذلك أن مفهومه للعقل ودورِه معطوب.
4- خطاب يفتقر إلى وجود بنية أخلاقية؛ ذلك أن مفهومه للأخلاق يُختزل في حدود ضيقة للغاية وتأتي تبريرية أو ذرائعية لا أكثر.