لا زالتْ أسئلة الغيب وما خفي عن الإنسان تشغل عامة الناس وتلاحق عقول المفكرين بين وقت وآخر منها مفهوم “كارما” والقدر، ويأتي الدين لبيان أسرار ذلك وفق فلسفة فريدة يتميز بها كل دين عن الآخر.
لماذا يولد هذا وفي فمه ملعقة من ذهب، وذاك في قلب معمعة الحرب والفقر؟
ولماذا يجبر هذا على الالتحاق بأحسن المؤسسات التعليمية حفاظا على مكانة وسمعة العائلة، بينما يحلم ذاك بالحصول على كرسي في أي مكان يسمى بمؤسسة تعليمية؟
وهل الوضع الذي يجد الإنسان نفسه عليه هو نتيجةٌ لعمله وجهده فهو جزاؤه أم هو أمر محتوم عليه؟ وكيف يتنعم الشرير بالخير، ويعيش الخيّرُ في جحيم الشر، بل كيف يمكن تحديد حقيقة الخير وطبيعة الشر؟
فهل الفقر والمرض شر بالذات والصحة والعافية والغنى خير؟
أسئلة تجيب الأديان عليها لأنها واقعية تلامس حياة من لم يهرب منها، وأتباع كل دين يفرحون بأجوبة أديانهم -سواء أجيب عليها بأثر أو برأي- رغم أنهم لم يطلعوا على أجوبة الأديان المغايرة، ولا يرون المنطقية إلا في الجواب الذي يقدمه لهم الدين الذي وجدوا آباءهم ومجتمهم عليها في الأغلب!
بين “كارما” والقدر
كلمة “كارما” من المصطلحات التي أصبحت معلما من سمات الفكر الديني الهندي وما تأثر به من أديان أخرى، وهو معلم لمسمى الأديان الوضعية التي تستمد تعاليمها من التنوير والفيض لا من الوحي.
كارما هو المعيار الذي يحدد وضع الإنسان من غنى وفقر وحال اجتماعية ويحدد الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. فالحياة عبارة عن سراب، تجري أحداثها في شكل سلسلة متواصلة لا نهاية لها إلا إذا استطاع الإنسان أن يتسرّب ويتخلص من هذه الدوامة “الخلاص” فيعيش في سعادة أبدية لا شقاء معها مع الحقيقة المطلقة وهي الحقيقة الوحيدة، “نيرفانا”، وإلا فهو عرضة للتنقل من حياة إلى حياة، ومن مرحلة إلى أخرى ومن رحلة إلى أخرى “التناسخ”، ويجازى في حياته القادمة وفي رحلته المستقبلية وفق عمله في رحلته السابقة؛ إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
يأتي في مقابل لفظة “كارما” مصطلح “القدر”، وهو من المصطلحات المعروفة والمشهورة في الفكر الديني القائم على الوحي، وهو ما يعرف بالأديان السماوية أو الإبراهيمية. فليس جهد الإنسان السابق ما يحدد مكان ميلاده وبلده وجنسيته ودينه، وما يجد الإنسان نفسه عليه من غنى وفقر، ومرض وصحة فهو نصيبه الذي اختاره الله له ليكون ذلك ابتلاء له.
فالحياة قصيرة، تنتهي بموت الإنسان وسيأتي يوم آخر يختلف النظام فيه عن النظام الكوني، وهو اليوم المعدّ للحساب والجزاء. فليسن الحياة سرابا، ولا هي سلسلة متواصلة إلى ما لا نهاية، ولا يرجع الإنسان إلى الحياة الدنيا مرة أخرى بعد موته، ويجازى لا بــ “نيرفانا” إذ الإله والكون حقيقتان منفصلان يمنع الفكر التوحيدي -الذي يعتبر من أهم معالم الرؤية الدينية للأديان السماوية- من إمكانية اتحاد المخلوق مع الخالق، وعليه يجازى لا بــ نيرفانا والخلاص، بل بالجنة أو النار في يوم أعدّ لذلك نتيجة عمله في دار الابتلاء.
فلسفة العدل في “كارما” والقدر
يجنح كلا المصطلحين ويتطلعان إلى العدل، وأن حال الإنسان أو مآله ليس إلا نتيجة ما اقترفت وكسبت يداه. وأنه ليس من العدل الإلهي ولا من الحكمة الإلهية التفريق بين العباد ومحاباة فريق على فريق، كما أن العدل الإلهي يتنافى مع أن يصيب الخيّر الشر وأن يتنعّم الشرير دون محاسبة!
فغناك وفقرك وحالتك المادية والاجتماعية وفق فلسفة كارما، وكذا عملُك وكسبك هو ما جعلك تقيم فيما تقيم فيه، كله عدل، فالمعيار هو أنت والضابط عملك وليس شيئا خارجيا. لكنه ليس العمل الحالي في المرحلة الراهنة بل العمل السابق في حياة سابقة. وذاك عين العدل. فلا جرم أن يروا المنطق والانسجام في تقسيم الناس إلى أربع طبقات: طبقة رجال الدين الهندوس، وطبقة الملاك والتجار الهندوس، وطبقة أصحاب الحرفة الهندوس، وما عدا ذلك من الهندوس، وباقي الطبقات لكل من لم يصنف في الطبقات السابقة. وتعرف هذه الطبقات بــ طبقة البراهمة، وطبقة الكاشترى، وطبقة الفيتشة، وطبقة الشودرا، وطبقة الآخرين.
وفي مقابل هذا يفسَّرُ القدرُ بالعدل، وذلك بالعودة إلى سبب الخلق وبتقسيم الحياة إلى حياتين، وذلك بعد الجزم بأنه ليس عدلا التفريق بين العباد، فكلهم من آدم وآدم من تراب، ولا فضل ولا محاباة إلا بالعمل والتقوى، فالناس ذكر وأنثى وشعوب وقبائل. وأن ما يراه الناس من تباين في الأرزاق والحالة الصحية والاجتماعية تنوّع لا يعني أن هذا أفضل من ذاك، ولا أن الله يحب هذا أكثر من هذا، ولا يعني هذا التنوّع التفاضل.
وإن تفسير العدل يكون بإدراك سبب الخلق وبتقسيم الحياة إلى حياتين؛ خلق الله الإنسان ليبتليه، ويقتضي الابتلاء التنوع وإعطاء فرصة الاختيار للناس، ويكمن هذا التنوع في الثنائية الموجودة في الكون من فقر وغنى، وصحة ومرض، ويتطلب أحدهما الصبر والآخر الشكر. كما أن الحياة حياتان: دار الابتلاء ودار جزاء، وأن العبرة بالنهاية والمآل، لا الوضع القائم الآن في الحال. وهكذا فالعدل أن يجازى الغني الشاكر والفقير الصابر بالجنة، لأنهما نجحا في الابتلاء. ويكون من العدل أن يجازى الغني الكفور والفقير غير الصبور بالنار، فالعاقبة للتقوى، وإن الدار الآخرة لهي الحيوان.
أخيرا، ارتبط الفكر الديني الوضعي في جوابه عن قضية الرزق والتباين في الكون بثلاث مصطلحات: نيرفانا، “كارما”، والتناسخ، بها تتكون الرؤية الكونية لهذا النظام الديني. أما الفكر الديني السماوي فبيّن الأمر بالقدر، والابتلاء، والجنة. وبين هذا وذاك نجد المدنية المعاصرة يتحدث عن الرؤية والرسالة والهدف والتخطيط والاستراتيجية فالتقييم والمراجعة. على أن كلا من الأديان الوضعية والأديان السماوية يشجعان على العمل الصالح والتزام تعاليم الدين وأن يتحلى الإنسان بالأخلاق الحميدة ويبتعد عن الأخلاق الذميمة، وكل هذا يدخل في مفهوم “العبادة” في كلا النظامين الدينيَّيْن. ويتم ربط عمل الإنسان وعبادته بمستقبله، الأول بالكرما والثاني بيوم الجزاء. واتخذ من هذا النظام المعقد تفسير الخير والشر والعدل، ومحاولة فهم عالم الشهادة بعالم الغيب.