اختار المنظمون لمعرض القاهرة الدولي للكتاب عام 2023م، الدورة 54- الكاتب الراحل “كامل كيلاني” ليكون شخصية المعرض عن كتاب الطفل. للأسف فإن هؤلاء المنظّمين لم يعرّفوا بهذه الشخصية العظيمة، ولم يقدموها للأجيال الجديدة، مع أنها صنعت وجدان الملايين إسلاميا وثقافيا وتربويا منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، فقد كان الرائد الذي قدم للأطفال على مدار عقود طويلة، القيم والأخلاق والمعرفة والسلوك والتاريخ والجغرافيا والأدبين العربي والعالمي، في قالب فني رائق وممتع، ومهد الطريق لأدباء مشاهير ساروا على نهجه وخدموا أدب الطفولة الإسلامية والإنسانية خدمة جليلة. بوصفه جنسا أدبيا جديدا، لقد قاربت أعمال كامل كيلاني للأطفال ألف عمل، نشر منها قبل وفاته نحو مائة عمل، وتولى من بعده ابنه “رشاد” نشر مزيد منها، وأظن أن عددا كبيرا منها لم ينشر حتى اليوم.
كامل .. ونجيب
ولأن الرجل- رحمه الله- لم يلق الاهتمام الأدبي المفترض في حياته وإلى وقت غير بعيد، فقد فوجئت ذات صباح قبل نحو عقدين من الزمان باتصال هاتفي من نجله البار “رشاد”، رحمه الله، يسألني إن كنت كتبت عن أبيه شيئا. شعرت بحرج شديد وتقصير أشد، فقد نُقِل إليه خطأ أنني تناولت والده في بعض ما كتبت، كان الذي اهتممت به هو الدكتور نجيب الكيلاني الذي يتشابه معه في اللقب، وقد أخرجت عنه كتابين، ومجموعة من الدراسات والمقالات، نشرتها في الدوريات والصحف السيارة. وضحت له اللبس، وشعرت أن الرجل أصابه الإحباط. فعزمت أن أتناول أدب الرجل وكتاباته في أدب الأطفال والألوان الأدبية الأخرى، وعلمت بإجازة بعض الأبحاث الأكاديمية عنه مما أسعدني، ثم شغلتني موضوعات شتى فلم أفرغ للكتابة عنه.
وجاءت مناسبة معرض الكتاب المشار إليها، فأعادت الرغبة بالتعريف بالرجل، بعد أن أهمل القائمون على تنظيم معرض الكتاب التعريف به، وعقد ندوات حوله مثلما يفعلون مع غيره.
مقال قديم
حاولت جريدة الأهرام تعويض بعض القصور في التعريف بكامل كيلاني فعرضت في 3/2/2023م لمقال قديم تناول كتابه الأول “حكايات للأطفال” الذي صدر عام 1931م، ولقي في حينه حفاوة ملحوظة من الكتاب والنقاد، توالى بعده إصدار عدد كبير من الكتب والدراسات الأدبية وقصص الأطفال. المقال القديم نشر في صدر الصفحة الأولى للأهرام يوم 4/4/1931، وحمل عنوان « فتح جديد فى التأليف». وقال كاتبه الشاعر والأديب اللبناني سليم خورى: «بين يدى كتاب قيم نفيس حملني على كتابة هذه السطور وما هو من المجلدات الضخمة التي جمعت .. فاستنفذت ذوات الدماغ أو استنفدت مباحث العلم، ولا هو من كتب معجزات اللغة، إنما هو كتاب بُذل فيه الشيء الكثير من المجهود الفني، هو كتاب (حكايات للأطفال) بقلم الأستاذ الظريف كامل كيلاني..».
مظاهر البهجة
ويوضح خورى أبعاد تجربته مع كتاب كامل كيلاني: «ولما كان هذ الكتاب خاصا بالأطفال، رأيت أن خير من يقرأه طفل، فأخذته ووضعته بين يدى ولد لي في السادسة من عمره لم يكد يتلقى مبادئ القراءة والتهجئة لأرى تأثير الكتاب في نفسه الصغيرة. فما كاد نظره يقع عليه حتى أشرق وجهه وتناوله بلهفة وأخذ يقلب صفحاته ويتأمل صوره ويصفها وصفا لطيفا، وهو يحاول قراءة الكلمات المكتوبة تحتها ويستفهم عنها باهتمام. فقرأت له حكاية من هذه الحكايات، فكان مصغيا كل الإصغاء وقد بدت فى ملامحه مظاهر البهجة والارتياح وازداد رغبة في الدرس فوق رغبته».
ويحلل خوري تأثير كتاب كيلاني على ولده، فيقول: « أدركت من تأثير الكتاب فى ولدى، أنه من الكتب الجديرة بالتقريظ فتصفحته واطلعت على كل ما فيه، فأعجبت به أي إعجاب وارتحت إلى تبويبه وصوره وحكايته وأسلوبه، وتعجبت من مجهودات المؤلف والناشر، فالكتاب يقع فى مئة وعشرين صفحة من القطع المتوسط. وفى كل صفحة صورة ومواد القراءة مكتوبة بخط ضخم واضح بديع. وكل صفحاته محفورة بالزنكوغراف (التصوير على الرصاص) وفيه عدة صور مطبوعة بمختلف الألوان. والكتاب مُهدى إلى الملك فاروق (عندما كان أميرا)، ومصدّر بصورته الرائعة مع قصيدة نظمها المؤلف بأسلوبه السهل الممتنع ليتسنى للأمير فهم كل كلمة منها (كان فاروق وقتها فى عمر الـ 11 عاما تقريبا).
طريقة التكرار
ويكمل خوري موضحا المزيد من حسنات النص الذى وضعه كيلاني، وإن جاءت مصحوبة بشيء من الملاحظات، فيقول: «وقد توخى المؤلف طريقة التكرار فى الجمل محاكيا أسلوب الطفل عندما يقصّ خبرا. وقال المؤلف فى مقدمته إنه فعل ذلك لتثبيت المعاني في ذهن الطفل، ولكى تسهل عليه القراءة ولكنى أخشى أن ينتقد عليه البعض أن ذلك ربما يربى فى الطفل ملكة التكرار ويعلمه الثرثرة. على أن الأستاذ كيلاني استدرك ذلك، فأخذ يقلل من التكرار تدريجيا كلما تقدم الطفل فى الكتاب حتى يصل إلى الأسلوب الموجز…
ثم يضيف: «وحذا المؤلف حذو كُتّاب الفرنْجة، فاستعمل كلمات محدودة تقع فى عبارات مختلفة الوضع والمعنى، وجعل الحكايات قريبة من فهم الطفل مثقفة لا تخلو من مغزاها الأدبي وفوائدها العلمية. فالحكاية الأولى فى هذا الكتاب، هي عن الدجاجة الصغيرة الحمراء، وخلاصتها أن هذه الدجاجة عثرت بحبة قمح، فأرادت أن تزرعها وشاورت رفيقاتها من الطيور الداجنة فكانت تنفر من مساعدتها، فزرعت الدجاجة حبة القمح ولما أخرجت قمحا كثيرا، ذهبت الدجاجة به إلى الطاحون وعجنت الدقيق وخبزته ولما جاءت بالرغيف، تهافتت عليها رفيقاتها التي أبت مساعدتها لتشاركها فى أكل الرغيف، ولكن الدجاجة لم تسمح لها وأكلت ما جنته هي وفراخها الصغار”.
ويختتم خورى بتقديم الشكر للأستاذ كامل كيلاني على مجهوده العظيم، ويلفت نظر وزارة المعارف ولجنة تقرير كتب الدراسة إلى هذا الكتاب، لأنه من أفضل كتب المطالعة للأطفال.
استحسان عام
تداخل الشاعر محمود أبو الوفا (1900- 1979) ليقف بجانب كامل كيلاني ويشيد به، ويرد في عدد «الأهرام» الصادر بتاريخ 18 أغسطس 1931على المآخذ التي طالت كتابه، وخاصة ما قيل عن التكرار ، واستخدام اسمي الموصول الذي والتي، وبعض الأخطاء الخطية. ويشير إلى أن كتاب كامل كيلاني صار مقررا دراسيا فى بعض البلاد وجمعيات التعليم الأجنبية، وهذا برهان كاف على “الاستحسان العام.
رافق كامل كيلاني الأديب نجيب محفوظ في العمل بوزارة الأوقاف، وكانا مشغولين بالقراءة والكتابة، الأول يهتم بالجنس الجديد وهو أدب الأطفال، بالإضافة إلى الترجمة والدراسة الأدبية، والآخر يعبر عن القضايا الاجتماعية والعامة من خلال الرواية والقصة القصيرة. وأظن أن التأثير بينهما كان متبادلا، فأنتجا أدبا رفيعا في أجناس أدبية متعددة، وقد وقف كيلاني بجوار محفوظ عندما أصدر رواية “القاهرة الجديدة 1945م”، وأثارت ضجة كبيرة في وزارة الأوقاف، وحقق معه شقيق طه حسين، حيث تم تأويل الرواية أنها تقصد أشخاصا بأعينهم في وزارة الأوقاف في فترة الأربعينيات,
وأذكر أن جيلي الذي شهدت الخمسينيات مرحلته الابتدائية تربى على قصص كامل كيلاني، وكانت في تلك الفترة متاحة مجانا في المدارس بمراحلها المختلفة، وقد أحسنت بعض المنصات الإلكترونية بإعادة نشر مجموعات من قصصه بطريقة جديدة، ومنها، على سبيل المثال:
أَضْوَاءٌ مِنَ الْمَوْلِدِ السَّعِيدِ: مِنْ حَيَاةِ الرَّسُولِ –ﷺ
وتقع في ٣,٤٣٣ كلمة، وسَبْعٍ وثلاثينَ حَلْقةً مختلِفة؛ وتمثل رحلةٍ شائِقةٍ للتعرُّفِ على السِّيرةِ النبويَّةِ المباركة، بتسلسُلٍ زمنيٍّ وبأسلوبٍ قَصصيٍّ فريد، وتَأْتِي على لسانِ الأصدقاءِ الثلاثة: «سعيدٍ» و«صلاحٍ» و«رشاد»، في حوارٍ مُمتِع. عندما يَجتمعُون للاحتفالِ بالمَوْلدِ النبويِّ الشَّرِيف، ويَتبادَلونَ أطرافَ الحديثِ حولَ تلك الذِّكْرى العَطِرة،
الْحِمَارُ الْقَارِئ
وعدد كلماتها١,٦٩٣كلمة، وفيها يعهد «سلطان الزمان» إلى «جحا» بحمار أهداه له بعض الأمراء ليعلمه القراءة، وقد أغراه السلطان بمكافأة مالية كبيرة إذا استطاع ذلك، وتكشف القصة عن تصرف جحا في مواجهة هذا الموقف الحرج.
أبو الحَسَن
وكلماتها ١,٣١٥ كلمة وتحكي قصة أبي الحسن الذي ورث عن أبيه مالاً كثيرًا، قسّمه إلى نصفين، نصف لأصدقائه وقد أنفقه سريعًا، فهجروه حين خُيّل إليهم أنه أصبح فقيرًا، أما النصف الآخر فنصحته أمه أن يحافظ عليه من أصدقاء السوء، ويقابل أبو الحسن الخليفة هارون الرشيد الذي تخفي في ثياب تاجر، وتتصاعد الأحداث حين يخبره عن أمنيته أن يصبح خليفة ولو ليوم واحد..
أَبُو صِيرٍ وَأَبُو قِيرٍ
كلمات القصة تبلغ٢,٠٨٨ كلمة، وتحكي عن «أبي صير» الحلاقً الذكيًّ، الذي يتحلى بحُسن الخُلق وطِيب القلب، و السيرةٍ الحسنةٍ بين الناس، و«أبي قير» الصبَّاغ الماهرً في عمله، والماكر سيئ السُّمعة، الذي خان صديقَه، ولكن أخلاق «أبي صير» النبيلة تنجَيه من الخيانة.
الشاعر الرقيق
كان كامل كيلاني شاعرا أيضا، وشعره يقترب من شعر الرومانتيكيين من حيث العاطفة والرقة والوطنية، ومنه على سبيل المثال، نشيد النيل الذي يقول فيه:
سماؤك يا مصر أصفى سماء وأرضك أرض الغنا والرخاء
ونيلك يا مصر جم العطاء فمنه الغذاء ومنه الكساء
على ضفته نما مجدنا ومنه عرفنا فنون الوفاء
يفيض علينا بخيراته فيروى الغراس وتروى الظماء
وتسرى الحياة فيزكو النبات وتحيا الموات ويحيا الرجاء
أعز الغوالي: حياتي ومالي وأهلي جميعا، لمصر فداء
لقد تنوعت أعمال كيلاني الأدبية، فكتب النقد الأدبي ومارس الترجمة وحقق التراث، واستوحي التاريخ في قصصه، ومن أعماله: مصارع الخلفاء، ومصارع الأعيان، وملوك الطوائف، ونشر «رسالة الغفران» للمعري، وشرح ديوان ابن الرومي، وترجم الأدب الأندلسي، وكتب «نظرات في تاريخ الإسلام»، و«روائع من قصص الغرب» و «فن الكتابة» و«موازين النقد الأدبي» وكتب في أدب الرحلات: «ذكريات الأقطار الشقيقة» (فلسطين ولبنان وسوريا). وبدأ في عام 1927م تأسيس أدب الأطفال الذي ركز جهده فيه حتى رحيله، وخدم اللغة العربية حين جعل الحوار في قصص الأطفال بالفصحى، ويذكر أنه أول من خاطب الأطفال عبر الإذاعة المصرية. وقد ترجمت قصصه إلى اللغات الصينية والروسية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية..
طرف من حياته
ولد كامل كيلاني بحي القلعة في القاهرة (20 أكتوبر 1897م)، وكان والده من أشهر المهندسين في عصره، ويتصل نسبه بالشيخ عبد القادر الجيلاني. حفظ القرآن الكريم في الكتّاب، ثم التحق بمدرسة أم عباس عام 1907، وحصل على شهادة البكالوريا من مدرسة القاهرة الثانوية، ونال الشهادة الجامعية من كلية الآداب بالجامعة المصرية- قسم اللغة الإنجليزية. وأجاد النحو والصرف والمنطق من خلال الدروس التي حضرها في الأزهر الشريف.
بعد تخرجه عمل مدرسا للإنجليزية والترجمة في المدرسة التحضيرية، ومدرسة الأقباط الثانوية بدمنهور سنة 1920. وفي سنة 1922 عيّن موظفا بوزارة الأوقاف لتصحيح الأساليب اللغوية. وترقى حتى وصل إلى منصب سكرتير مجلس الأوقاف الأعلى، وترك الوزارة سنة 1954.
في أثناء عمله الوظيفي، كان يكتب في الصحف، ويعبر عن مواهبه في المجال الأدبي والفني، فكان رئيسا لنادي التمثيل الحديث (1918)، ورئيسا لجريدة «الرجاء» (1922)، وسكرتيرا لرابطة الأدب العربي بين (1929 و 1932)،
وصدر عن أدبه كتابان، أولهما: كامل كيلاني وسيرته الذاتية، عبد الرحمن محمد بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999م، والآخر: مقالات في الأدب والسيرة الذاتية: كامل كيلاني (1897- 1959)، وليد عبد الماجد كساب، كتاب المجلة العربية، الرياض، ربيع الأول 1442 هـ= نوفمبر 2020م.
وبعد ثلاثة وستين عاما صعدت روحه إلى الرفيق الأعلى مساء السابع من ربيع الآخر 1379 هـ= التاسع من أكتوبر 1959م، وكانت وصيته كتابة البيتين التاليين على قبره:
أنفع الناس وحسبي أنني أحيا لأنفع
أنفع الناس ومالي غير نفع الناس مطمع