هذا العنوان ” كبرياء التفاهة “من كلمات أستاذي الكبير: السيد حافظ – متعه الله بالصحة والعافية -، كتب ذلك في سبعينيات القرن الماضي، ولا أدري أهذه نبوءة أم توقع أم حقيقة يعيشها الجميع الآن؟! هذه آفة الأمم التي لا تستشرف المستقبل ولا يكون لها في التاريخ عبرة.
هذا مهاد تأسيسي لقضية هامة نشاهدها في كل وقت من حولنا، تُفرَض علينا في كافة الأوقات، ويُرَادُ لها أن تكون نمط حياة.
صناعة التفاهة أو تأسيس أجيال من التفاهين، تسطيح كافة المسائل، وتحويل كل شيء إلى مسار من السخرية والضحك، وعدم الجدية في أي شيء.
إن فكرة الفُكاهة أو الضحك ليست مرفوضة بالكلية، فإن هذا نوع من الكبت والاكتئاب؛ لكن أيضًا ليست التفاهة أو الاستهتار نمط حياة بحال من الأحوال .
تَحوُّل الأجيال الحالية والقادمة إلى مجموعات من التافهين مصيبة ستَطرَح ثمارها المُرَّة في وقتها، قَصُر الزمان أم بَعُد، وحينها ولات حين مناص.
إننا في ظل التقدم التقني الرهيب والتحول في نمط الحياة، بدلا من الاستفادة الجدية والنافعة من ذلك، أصبحت التفاهة هي المسيطرة علينا وتمارس سُلُطاتِها على كل شيء.
إننا عندما ننظر إلى نظام التفاهة نجد أنه ” نظام مكين، يضرب جذورَه في تربة المجتمع شيئًا فشيئًا، بشيء من المنهجية والاستقرار المرعبين؛ لقد طالت التفاهة جميع مناحي الحياة بدءًا من أبسط الأمور حتى أعقدها، فنحن اليوم نرى أشخاصا تافهين يتصدرون وسائل التواصل الاجتماعي و”السوشيال ميديا”، وهم لا يملكون محتوى مفيدًا ولا قيما عليا، أو مبادئ ومُثل كبرى، في حين أنه يتم تجاهل أي محتوى مفيد قيّم و يُعرَض عنه” .
ومن ذلك فإنه يمكننا القول أن صناعة التفاهة تعتمد ” على المحتوى السطحي والسهل الممتنع، الذي يستهوي الأفراد بسرعة، مثل الأخبار الجديدة عن المشاهير والأحداث العابرة – ما يسمى هاشتاغ -، وذلك بدلاً من تناول المواضيع الحقيقية والهامة التي تؤثر على المجتمعات.
يتم تصميم هذا النوع من المحتوى ليكون قابلاً للانتشار بسرعة ويجذب الجماهير مثل تطبيق التيكتوك، مع تجاهل الأخبار والأحداث الحقيقية التي يمكن أن تساعد على نمو المجتمعات وتطويرها بالشكل السليم.
يؤدي اهتمام الجماهير بالتفاهات إلى تحطيم المجتمعات بطريقة عديدة، فالتركيز المفرط على الأخبار التافهة والأحداث السطحية يؤدي إلى إهمال القضايا الحقيقية التي يجب التركيز عليها، مثل: القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفقر والبطالة، ونتيجة لذلك، يمكن أن تؤدي صناعة التفاهة إلى تقليل الوعي العام والمعرفة المهمة التي يحتاجها المجتمع للتطور والتقدم.
إن الكتابات حول التفاهة بدأت منذ فترة طويلة، وأول من كتب في ذلك ” آلان دونو” أستاذ العلوم السياسية جامعة كيبيك كندا، وقام بترجمته “مشاعل عبدالعزيز الهاجري”، نشرته دار سؤال – بيروت لبنان 2020م، يقول في كتابه (نظام التفاهة)، ويُعرّف فيه نظام التفاهة بأنه: “النظام الاجتماعي الذي تُسيطر فيه طبقة الأشخاص التافهين على جميع مناحي الحياة، وبموجبه تتم مكافأة الرداءة والتفاهة عوضاً عن العمل الجاد الملتزم”، من صفاته: تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، واعتبار الإنسان مجرد شيء وسلعة بدون كرامة، وسيادة منطق الرأسمالية المتوحشة التي أحالت البشر إلى مجرد آلات مُسخّرة لتحقيق فائض الإنتاج…
كما عبر عن تلك الفكرة “ماريو باراغاس”، في كتابه “حضارة الفُرجة”، تحدّث فيه عن صناعة الرموز الرخيصة، وثقافة الاستعراض، وفكر التسطيح، وفن التهريج واللهو، وحلّل فيه الثقافة الاستهلاكية كمنتج للرأسمالية، وانتقد التركيز على التسلية والموضة والجنس والإثارة في الإعلام، وهاجم من يقيّم وجوده ودوره ونجاحه بظهوره في منصات التواصل الاجتماعي وعدد المتابعين والمشاركين والمعجبين. “.
إن كلمة (تفاهة) تعني ” الانشغال بالتوافه، وهي الصغائر التي لا ترتقي بالإنسان، وتعني التفاهة أيضا: النقص في الأصالة أو الإبداع أو القيمة، وحين يُقال أن فلانا يَشْتَغِلُ بِتَوَافِهِ الأُمُورِ، فهذا يعني أنه منشغل بِمَا لاَ أَهَمِّيَّةَ لَهُ، وقد وصف فلاسفة ومفكرون عالَم اليوم بأنه مسيَّر بآليات (نظام التفاهة)، وهذا عنوان كتاب الفيلسوف الكندي المعاصر “آلالان دونو.
إن كتاب آلان دونو (نظام التفاهة ) ” صُنِّف هذا الكتاب بحسب بعض النقاد في خانة أدبيات “ما بعد الحداثة” كاتجاه فكري يُعنى بنقد مآلات وصيرورة الحداثة الغربية التي استحالت إلى تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، بدلا من تحرير الإنسان وصَون كرامته ” .
وإذا كانت فكرة التفاهة مركوزة ومؤسسة في ثقافتنا بصورة كبيرة، فإنها تقف خلفها دوافع نفسية واجتماعية وغير ذلك من الأسباب والدوافع التي تسعى إلى تحقيق ذلك “، فهذه الأشكال من مُخرجات صناعة التفاهة تقف وراءها دوافع نفسية عديدة لاسيما في المجتمعات الأقل عملاً وإنتاجاً وإبداعاً، والأكثر إحباطاً وإخفاقاً وبؤساً، وأهم هذه الدوافع النفسية اللاشعورية (التفريغ الانفعالي)، ليخرج الإنسان المقهور من باطنه طاقة الغضب المقموعة، ومخزون الغرائز المكبوتة، وطبقات العقد المدفونة، وأكوام الإحباطات المكدسة، وكم الأحلام الموءودة… يساعده في هذا التفريغ الانفعالي توهّمه بأنه فعل الشيء المرغوب لمجرد أنّه قاله، واكتسب الصفة الحسنة لمجرد أنه ادّعاها وانتقم من خصمه لمجرد أنه شتمه، وهذا كله يُعطيه شعوراً وهمياً بالراحة، ويمنحه إحساساً خادعاً بالسعادة.
ومن الدوافع النفسية اللاشعورية التي تقف وراء حب الناس لنشر الفضائح ومتابعة الإشاعات والأخبار التي تكشف عورات الناس وتهتك أعراضهم وتُسيئ إلى سمعتهم، هي راحة الشماتة بالآخرين، كما يقول “أنيس منصور” في كتابه (كيمياء الفضيحة): “الناس تسعدهم الفضيحة، فهي فرصة للشماتة بالآخرين، الفضيحة هي الصرف الصحي للعلاقات الإنسانية”، وفضائح الناس تُعطي الشخص إحساساً بالأفضلية والتعالي على الآخرين، كما أنَّ مصائب الناس تُعطي شعوراً خفياً بالراحة؛ لأنَّ تلك المُصيبة تخطتنا وذهبت إلى الآخرين.
إن التحولات التي نعيشها ونشاهدها من حولنا في المجتمع، من بروز ظاهرة التفاهة في كافة الأوساط، لابد وأن يترتب عليها أثار سلبية لا محالة، وهذا نتاج طبيعي في كل الأحوال؛ فلا يمكن أن يكون هذا الكم من التفاهة والزيف والتسطيح للمسائل ثم تكون المخرجات إيجابية، فهذا يخالف قواعد العقل والتفكير.
ولهذا فإننا نرى أنه “منذ أن نشر “لويس إلكسندر” كتابه (الكمبيوتر الرهيب)، وخلال نصف قرن من الزمن، تطوّرت أجهزة الكمبيوتر وشبكة الإنترنت ومنصات السوشيال ميديا، وتطورت معهم الحياة البشرية إيجابياً في كثير من المجالات، ولكنها تغيّرت سلبياً في مجالاتٍ أُخرى، أفرزت صناعة التفاهة والتافهين، وهذا ما تنبأ به رسول الله وخاتم النبيين محمد – ﷺ – في حديث السنوات الخدّاعات التي ستأتي على الناس عندما تندثر الثقافة الأصيلة، وتضعف القيم الأخلاقية، ويغيب الإبداع الحقيقي، فذكر من خصائصها: “ينطِق فيها الرويبضة”، وعندما سُئِل عن الرويبضة، قال: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة” (حديث صحيح أخرجه ابن ماجه).
وهذا، بالتأكيد، لا ينطبق على صانعي المحتوى المُفيد والثقافة الجادة، التي تُساهم في تثقيف الأفراد، وتقوية الأُسَر، وبناء المجتمعات، وتعزيز القيم، وتهذيب الأخلاق، وتشييد الحضارات” .