أرسلتُ لمجموعة العائلة على تطبيق “الواتس اب “، مقطعاً فنياً من مسلسل قديم للفنان القطري القدير غانم السليطي … فتساءَلَت “إحداهنّ ..” قائلة: إيش طرأ عليك ؟؟ أي من إرسال المقطع ..
أجبتها: زمن جميل؛ كان التلفزيون والأعمال الفنية لها طعم ومعنى ومضمون قيّم … والحلقة كانت عن الأغنية الهابطة…!
أجابت الأخت بقولها : بحسب رأي إحداهن؛ ( أهم شئ في الحياة الثقة )؟؟
“التافهون” عندهم ثقة في النفس عجيبة !!
وتقصد أصحاب الفن ورواد الإعلام الرخيص التافه الذين يتكلم عنهم ويشخّص نتاجهم المتهاوي بأسلوبه الكوميدي الساخر (غانم السليطي).
( فكتبتُ للمجموعة) …. يا دكتورة .. – وأنا أتكلم هنا بشكل عام ولا أقصد مجتمعاً بعينه – : كل الأحوال والظروف والسياقات من حولنا في هذا الزمن العجيب، بدءًا من الأوضاع المعاصرة، وما يُحدّده ويتدخل فيه أصحاب القرار على مستوى الأمة – وكثيرٌ منهم بالمناسبة -كما يقرر ميكاڤيلي هم من التافهين – إلا من رحم الله –
ومروراً بما يُلقونه على “زبانيتهم وأتباعهم” وما يصدر عنهم من القوانين والبرامج والخطط ليُنفّذوها وينزلوها على أرض الواقع ويروّجوها بين الجماهير ، ومن ذلك ” تقريب من يشتهون من الناس ومن شابههم في التفاهة ، وصرف وإقصاء من لا يوافق التوجهات من الناصحين والمصلحين ” … وصولاً إلى “وسائل التهافت التواصلي” عابرة المحيطات والدول والمجتمعات (وهي الأداة الرائجة في عصرنا لترويج التفاهات) ..
كل ما ذكرته جعل من التافهين والتافهات، والمتصدرين على منصات التواصل، والمتهافتين المتكالبين على حطام الدنيا، والمنافقين الوصوليين، والكذابين المخادعين، جعلهم يتعالون ويتصدّرون المجالس والمنابر والشاشات، ويَبنُونَ لأنفسهم امبراطوريات مالية وشهرة خاطئةٍ ماجنةٍ كاذبة، عن طريق إشعارات الإعجاب (اللايكات) الخدّاعة التي تخطّت الآفاق !!
روى الترمذي وأحمد؛ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بِالدُّنْيَا لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ ” .. – وحسنه الترمذي، وصححه الألباني ..
وقوله: ( لُكَعُ ابْنُ لُكَعٍ ) هو اللئيم الخسيس، في ذات نفسه، وفي حسبه ونسبه .
” اللُّكَع عِنْدَ الْعَرَبِ: العَبد، ثُمَّ اسْتُعمِل فِي الحُمق والذَّم. يُقَالُ للرجُل: لُكَعُ، وَلِلْمَرْأَةِ لَكَاعِ. وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ فِي النِّدَاءِ، وَهُوَ اللَّئيم. وَقِيلَ: الوَسخ، وَقَدْ يُطْلق عَلَى الصَّغِيرِ، فإنْ أُطْلِق عَلَى الْكَبِيرِ أُرِيد بِهِ الصَّغيرُ العلم والعقل ” انتهى .
ولهذا الواقع المخيف نظائر سالفة في تاريخنا ، سيأتي الكلام عن بعضها في موضعه ..
قال الشاعر النبطي:
دنياً بَهَا البومْ وُلْدَ البومْ عاشْ ابها والحُرّ يَسْقَى مَرايرْها بغربالِ !!
وقال المتنبي:
ذو العقلِ يشقى في النعيمِ بعقلِهِ وَأخو الجَهالَةِ في الشّقاوَةِ يَنعَمُ !
وفي حديث آخر، يُخبرنا النبيّ عليه الصلاة والسلام مصداق ذلك؛ عن أبي هريرة – رضي الله عنه -أن النبي- ﷺ – قال: “إذا مشت أمتي المُطَيْطاء وخَدَمْتهم فارس والروم، تسلَّط بعضهم على بعض”.
والمُطيطاء: بالمد والقصر، مِشيةٌ فيها تبختر ومدُّ اليدين. والحديث رواه الطبراني في الأوسط، وإسناده حسن.
وفي رواية: “إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمها أبناء فارس والروم ‘ سُلِّط شرارها على خيارها”. أخرجها الترمذي وابن أبي شيبة، والبزار .. وغيرهم.
وعن أبي هريرة وأنس بن مالك وغيرهما: قال رسول الله ﷺ: “ستكون -أو قال: سيأتي على الناس، أو قال: قبل الساعة، أو: إن بين يدي الساعة- سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة”.. قيل: وما الرويبضة ؟؟ قال: ” الرجل التافه يتكلم في أمر العامة. وفي لفظ عند أحمد “الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ”. وفي رواية: “الرجل السفيه يتكلم في أمر العامة”.
قلت للأخت: ثقةُ التافهين والسفهاءِ -أو الرويبضة- زادت بأنفسهم ؛ لأن الدول والأنظمة والإعلام المأجور وأبواق الحكام ومنابر الظلمة المتْرَفين (والمفسدين في الأرض الداعين للتفسّخ والانحلال)؛ دفعوا بكل الوسائل وبكل إمكانياتهم في هذا الاتجاه، ومكّنوا للأتباع التافهين المتهافتين، وأشاعوا تفاهاتهم في الأجواء المُكَدّرة أصلاً ، فزادوا الناس خَبالاً وانتكاساً وبُعداً عن القيم والفضائل.
ولأن التفاهة والسخف هي من بضاعة وصفة المذكورين هنا، فهم يتداولون بضاعتهم ويسوقونها لمصالحهم وغاياتهم .
صورة من التاريخ المُشابه
كتب الشيخ الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه القيّم (تراثنا الفكري في ميزان العقل والشرع) فصلاً تحت عنوان: ” كيف نكتب التاريخ؟” نقل فيه ما كتبه الدكتور أحمد صبحي منصور، واصفاً إياه بقوله : أنقل هذا الفصل النفيس فى النقد الذاتي للتاريخ الإسلامي.
يقول الشيخ نقلاً عن كلام الدكتور الدكتور صبحي منصور، وأُثبته بشيء من الاختصار … قال : “من بين عشرات السفاحين الذين أهلكوا الحرث والنسل يتمتع “هولاكو” بمكانة خاصة فى تاريخنا الإسلامى والعربى، فهو السفاح الذى أطاح بالدولة العباسية، والذى قتل فى بغداد سنة ٦٥٦ هـ ما يقرب من ٢ مليون نسمة.
ولكن المسؤولية لا يتحملها هولاكو وحده ..! اللوم ينبغي أولاً أن يُوجّه إلى أمير المؤمنين المستعصم بالله العباسي، الذى حَملَ أمانة المسلمين ففرط فيها …
ثم قال: وقد وصفه -أي الخليفة العباسي-ابنُ كثير في تاريخه ، يقول عن المستعصم: “كان محباً لجمع المال، ومن ذلك أنه استحل الوديعة التى استودعها إياه الناصر داود المعظم، وكانت قيمتها نحواً من مائة ألف فى دينار .. وأدى نَهَم الخليفة بالمال وحرصه عليه إلى أن عرّض الخلافة للخطر حين هددها المغول .
يقول ابن كثير إنه: “صرف الجيوش، ومنع عنهم أرزاقهم حتى كانوا يتسوّلون على أبواب المساجد وفي الأسواق … وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله”. انتهى .
وهنا موضع الشاهد الذي يتصل بمضمون هذا المقال، وهو قوله: على أن شُحّ الخليفة المستعصم بالأموال على الجند في وقت حاجته لهم، يقابله في الناحية الأخرى إسرافه الشديد فى الإنفاق على (خدمِهِ وأتباعهِ من الظلمة) -أي التافهين المنحطّين- الذين يأكلون أموال الناس، وكان أولئك الخدم من الجهال وأراذل العامة والمماليك الذين صعد بهم الزمن الرديء، فى عصر انحلال الدولة العباسية، فاحتكروا الثروة، بينما عاش العلماء والأشراف يتضوّرون جوعاً ..
ثم يضرب أمثلة تاريخية على ما جرى، حين أُغدقت الأموال على الخدم فأصبحوا أعجوبة فى الثراء، ومنهم:
– مجاهد الدويدار، قيل عن أملاكه: إنها كانت “مما يتعذر ضبطه على الحساب”. وفى ليلة زفافه حصل على هدايا من الجواهر والذهب ما يزيد على ٣٠٠ ألف دينار، وفي صباح زواجه أنعم عليه الخليفة المستعصم بـ ٣٠٠ ألف دينار، وكان إيراده السنوي من مزارعه وأملاكه أكثر من ٥٠٠ ألف دينار ….. الخ .
ومنهم: عبد الغني بن فاخر، شيخ الفراشين فى قصر الخلافة، كانت داره تشمل عدة حجرات، وفى كل حجرة جارية وخادمة وخادم، ثم رتب لكل جارية عملاً ، فواحدة لطعامه، وأخرى لشرابه، وأخرى لفراشه، وأخرى غسالة، وأخرى طباخة …
ويتابع الدكتور كلامه بقوله: وفى المقابل كان أعظم العلماء وقتها لا يتقاضى أحدهم أكثر من ١٢ ديناراً شهرياً فحسب! وذلك هو المرتّب الذى كان يأخذه علماء المدرسة المستنصريه!! وابن القوطي وابن الساعي -أشهر مؤرخي هذا العصر- كان كلاهما يأخذ راتباً شهرياً قدره عشرة دنانير!!
فأين أولئك من شيخ الفراشين فى قصر الخليفة ؟!
وأقول ؛ أليس هذا المشهد التاريخي المؤسف يحكي واقعنا اليوم في العديد من الدول ؟؟! وهل سيكون المصير هو المصير ؟؟
أعود لكلام الدكتور : وفي ذلك الوضع المقلوب لا بد أن تكتمل الصورة المقيتة لأي امبراطورية على وشك السقوط بغض النظر عن اللافتة التى ترفعها، سواء كانت امبراطورية فارسية، أو بيزنطية أو رومانية أو عباسية، لا بد أن تتفشى الرشوة، وتكثر مصادرة الأموال، وتتفاقم الاضطرابات الداخلية، مع الانحلال الخلقي، والانشغال بالتوافه عن الخطر الذى يدق الأبواب.
يقول الغساني صاحب كتاب “العسجد المسبوك” ، يصف السلطة العباسية فى أواخر أيامها: ” واهتموا بالإقطاعات والمكاسب، وأهملوا النظر فى المصالح الكلية، واشتغلوا بما لا يجوز من الأمور الدنيوية، واشتد ظلم العمال-أي الحكام- واشتغلوا بتحصيل الأموال،، والملك قد يدوم مع الكفر، ولكن لايدوم مع الظلم “.
صدقت يا غساني: الملك قد يدوم مع الكفر لكن لا يدوم مع الظلم..” .
فالقاعدة الإلهية تقول: ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ” ولا يمكن أن يحل التدمير إلا إذا استشرى الظلم “وماكان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”.
ولكن أمير المؤمنين المستعصم العباسي لم يستوعب الدرس، ولم يعرف أن عقوبة الفساد مستمرة، وإن تنوعت أساليبها.. وقد رأى الخليفة المستعصم بنفسه طرفا من ذلك قبل أن يقتله المغول رفساً بأقدامهم..!
يقول الهمذاني فى كتابه: “جامع التواريخ” إن هولاكو بعد أن اقتحم بغداد، دخل قصر الخلافة، وأشار بإحضار الخليفة المستعصم وقال له: ” أحضر ما يليق بنا من الضيافة .. فأحضر الخليفة وهو يرتعد من الخوف صناديق المجوهرات والنفائس، فلم يلتفت إليها هولاكو، ومنحها للحاضرين، وقال للخليفة: إن الأموال التى تملكها على وجه الأرض ظاهرة، وهى ملك لعبيدنا، لكن اذكر ما تملكه من الدفائن، ما هي وأين توجد ؟؟” . فاعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب فى ساحة القصر، فحفروا الأرض حتى وجدوه، كان مليئاً بالذهب الأحمر، وكان كله سبائك، تزن الواحدة مائة مثقال “. واستحق الخليفة احتقار هولاكو السفاح الدموي، إذ تعجب هولاكو، كيف يكون للخليفة كل هذه الكنوز ثم يبخل على الجنود بأرزاقهم؟!!
يقول الهمذاني: “وقصارى القول، إن كل ما كان الخلفاء العباسيون قد جمعوه خلال خمسة قرون، وضعه المغول بعضه على بعض فكان كجبل على جبل”. وبسبب ذلك الكم الهائل من الكنوز التي ورثها هولاكو من الخليفة العباسي، فإنه صهرها جميعاً فى سبائك وأقام لها قلعة محكمة في أذربيجان.
لقد كان هولاكو- ذلك الهمجيّ السفاح- يعي تماماً أنه عقاب إلهي للخلافة العباسية وحرص على إبراز هذا المعنى في رسائله إلى الحكام..
ثم يختم ذلك الفصل القيّم المؤثّر بتقرير نتيجة مفصلية، قال: هكذا تقوم الدول وتنهار، وأساس الانهيار يبدأ من الداخل، وقد يأتي تدخل خارجيّ ليعجّل بالسقوط ولكن يظل الانهيار الداخلي هو بداية النهاية وعاملها الأكبر.. ويأتي الانهيار الداخلي ( حين تتكون طبقة مترفة تتحكم فى الثروة وفى الجماهير ) فتنشر الظلم والانحلال وتُحيل حياة الأكثرية إلى جحيم تهون فيه الحياة، وتتضاءل فيه الفوارق بين الحياة والموت.
لقد أساء المستعصم فى تعامله مع خدمه وأتباعه، فأغدق عليهم فى المناسبات بمئات الألوف من الدنانير، فى وقت يتضوَّر فيه العلماء والشرفاء جوعاً..
أبَعدَ هذا نظل نلعن هولاكو وحده “؟!! -انتهى-..
فهل ينتظرُ “هؤلاء” في أنظمة دول المنطقة في واقعنا، إلا مثل أيام الذين خَلَوا … ؟؟ وهم على خطى الغابرين من أمثال الخليفة العباسي وحشمه سائرون !
وأختم القول ببيتٍ من الشعر، هو حكمة خالدة من حكم “أبي الفتح البُستي” في نونيته الشهيرة التي مطلعها :
زيـادَةُ المَرء فـي دُنيـاهُ نقصـانُ وربْحُـهُ غَيرَ محض الخَير خُسـرانُ
الشاهد قوله :
والناسُ أعـــــوانُ من والتهُ دولتُهُ وهـــم عليـــــه إذا عادتـــــهُ أعـــــوانُ !!
وفي نفس السياق يقول الجواهري رحمه الله ؛
رأيــــتُ بعيـــــني حـــــيـنَ كَـــذَّبْـــــتُ مَسْمَـــــعـي سمـــــاتِ الجُـــــدودِ فــــي الحـــــدود الضَّـــــوارعِ
وأمعـــــنـتُ بحـــــثـاً عــــن أكُــــفٍ كثــــيـرةٍ فألفـــــيـتُ أعــلاهُــــنَّ كَـــــــفَّ المُـــبايـــــعِ