شهدت الحضارة العربية في قرونها الأولى نشاطا علميا واسعا فما من علم من العلوم المتداولة في ذلك الزمان إلا وكان للأسلاف صنفوا فيه مصنفات قد تزيد أو تكثر بحسب أهمية العلم ومدى الحاجة إليه، ومن ضمن هذه العلوم علم الاقتصاد الذي كان يظن أنه من وضع الحضارة الغربية. وبصفة عامة، اتخذ التصنيف المتخصص في علم الاقتصاد في الحضارة الإسلامية أحد شكلين:
الأول: كتب الفقه الاقتصادي، وهي كتب تناقش الموضوع الاقتصادي من أرضية فقهية شرعية، ولدينا تراث عريض من هذه الكتب التي افتتح التصنيف فيها منذ وقت مبكر للغاية مؤسسي الفقه الإسلامي كأبي يوسف في كتابه الخراج والحسن الشيباني في كتابه الكسب، وتندرج ضمن هذا القسم كل كتب الحسبة والأموال.
والثاني: كتب أصول الاقتصاد، وهي كتب تؤصل لعلم الاقتصاد بمعزل عن العلوم الأخرى أو تناقش بعض الظواهر الاقتصادية، وهي أقل من سابقتها ومن أمثلتها: التبصرة بالتجارة للجاحظ، والإشارة لمحاسن التجارة لأبي جعفر بن علي الدمشقي، وهو واحد من المصنفات التي حظيت بعناية الدارسين والمستشرقين بحسبانه أكثرها نضجا واكتمالا.
جعفر بن علي الدمشقي وكتابه
هوية جعفر بن علي الدمشقي ليست معروفة لنا إلا من خلال بعض الشواهد البسيطة المتضمنة في كتابه الذي يحمل عنوان “الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض ورديئها وغشوش المدلسين فيها” والمتضمنة أن الانتهاء من نسخه تم في السادس من رمضان سنة سبعين وخمسمائة، أي أنه عاش في القرن السادس، وقد فسر الدكتور رفعت العوضي عدم وجود ترجمة له ضمن كتب التراجم والببلوغرافيا مرجعا ذلك إلى اشتغاله بالتجارة في الأسواق كما أشار في أحد مواضع الكتاب، وهو ما حال دون وضعه ضمن كتب التراجم التي عنيت إما بأهل العلم أو الأدباء أو المهنيين.[1]
صدر الكتاب للمرة الأولى عن مطبعة المؤيد بالقاهرة عام 1901 وعلى نفقتها، وهذه الطبعة تستبق طبعة المستشرق الألماني هيلموت ريتر ( 1892-1971) للكتاب وترجمته له، ويقع الكتاب في ثلاثين فصلا تتفاوت من حيث الإيجاز والتطويل فبعضها لا يتجاوز صفحة وبعضها يبلغ تسعة عشر صفحة وأعني به فصل (جيد الأعراض ورديئها).
تناول الدمشقي في كتابه قائمة طويلة من الموضوعات من قبيل: تعريف المال وتقسيماته، الغنى، نسبية قيمة الأموال، الحاجات وتعددها، الثمن، وظائف النقود، العرض والطلب، كيفية اكتساب الثروة، وأنواع الملكية، وبيان بالبضائع المتداولة في الأسواق وكيفية التمييز بين رديئها وجيدها، أنواع التجار وما يلزم كل تاجر، وسائل حفظ المال وسبل تنميته، والمال وعلاقته بالأخلاق، والمال والعلم، والنهي عن إضاعة المال، وما إلى ذلك من موضوعات جلها يندرج في صلب علم الاقتصاد.
وهذه الموضوعات يمكن تصنيفها تصنيفات متعددة؛ فبعضها يتعلق بالتاجر وبعضها الآخر يتعلق بالبضائع كما تفترض دائرة المعارف الإسلامية، وبعضها يتعلق بالتصنيف الفني لموضوعات الكتاب والذي يقترحه شوقي دنيا الذي وضع موضوعات الكتاب ضمن ثلاث مجموعات: المسائل الاقتصادية، والمسائل الإدارية، والمسائل الفنية المتعلقة بصنوف الأموال. وبغض النظر عن هذه التقسيمات فإن الكتاب تناول عددا من القضايا التي ربما لم يسبقه أحد في تناولها بهذا العمق والتخصص كتعريف المال وأنواعه، وسبل التعامل معه، وذكر أنواع التجار والقواعد الواجب عليهم اتباعها.
المال وتقسيماته
عرف الدمشقي المال بأنه اسم لكل ما يقتنى الجليل منه والحقير، وقسمه إلى أربعة أنواع.
- المال الصامت: وهو الذهب والفضة.
- العرض: وهو البضائع والسلع على اختلافها.
- العقار: وهو صنفان مسقف كالحوانيت والفنادق، ومزدرع كالبساتين والحقول.
- المال الناطق: وهو الحيوان.
ويرى الدمشقي أن الأموال كلها نافعة إذا دبرت كما يجب، وبعضها يفضل بعض، وأفضل أنواعه المال الصامت أي الذهب والفضة لسرعة وسهولة سبكهما وتشكيلهما، وعدم إمكانية فسادهما وتغيرهما، وقابليتهما للحمل.
والأموال كما يعتقد الدمشقي ليست محتقرة في ذاتها بل هي محمودة، والغنى يفضل الفقر ذلك أنه لو كان الغنى موروثا لأخبر عن عراقة أصل وإن كان مكتسبا طارئا لأخبر عن همة عالية وعقل وافر ورأي كامل، ويبلغ مدح الدمشقي للغنى مبلغه حين يقول: ولو لم يكن في الغنى إلا أنه من صفات الله تعالى لكفى فضلا وشرفا عظيما[2]، وبهذا المعنى فإن الدمشقي يعد صوتا من التراث يؤمن أن الإسلام يحبذ الغنى ولا ينحاز للفقر وذلك خلافا للفكرة الشائعة أن الإسلام يقف في صف الفقر.
اكتساب المال وسبل حفظه
يعتقد الدمشقي أن اكتساب جميع الأموال يتأتى من سبيلين هما:
- سبيل القصد والطلب: وهو يقع على ثلاث صور؛ إما اكتساب عن طريق القيام بالصنائع العلمية كالعلوم الدينية أو الصنائع العملية كالفلاحة والحياكة أو ممارسة التجارة، وإما اكتساب بطريق القوة والغلبة كالسرقة والنهب وفرض الرسوم المالية من قبل السلطان، وإما اكتساب مركب من النوعين السابقين كتجارة السلطان حيث لا يقوى أحد أن يزيد عليه في حال الشراء أو يمنع تحكمه في البيع.
- سبيل المصادفة والعرض: وهو الاكتساب الذي يتحصل عن طريق غير السعي، كالإرث أو العثور على كنز مخبوء أو ما شابه[3].
ويترتب على اكتساب المال مسألة أخرى هي كيفية الاحتفاظ به وتنميته، ويبسط الدمشقي خمس قواعد في ذلك يمكن إجمالها على الوجه التالي:
- ألا ينفق الإنسان أكثر مما يكتسب؛ فإنه إن فعل ذلك لم يلبث المال أن يفنى ولا يبقى منه شيء البتة.
- ألا يكون ما ينفق مساويا لم يكسب بل دونه ليبقى ما يكون عنده لأي نازلة تحل به.
- أن يحذر الإنسان أن يمد يده إلى ما يعجز عنه وعن القيام به؛ كأن يبعث بماله إلى ضياع يتعذر عليه الوصول إليها.
- ألا يضع ماله فيما لا يحتاج إليه عامة الناس كأن يشتري كتب الحكمة التي لا يتداولها إلا عدد محدود من طلاب العلم.
- أن يكون الرجل سريعا في بيع تجارته بطيئا عن بيع عقاره وإن عظم الربح فيه[4].
صنوف التجار وما يلزمهم
ومما يميز كتاب الدمشقي عن سائر المصنفات الاقتصادية تمييزه بين صنوف التجار وما يلزم كل تاجر منهم، وهم حسب تصنيفه:
- التاجر الخزان، أي تاجر الجملة وهو الذي يحاول أن يشتري بضاعته في أشد الظروف ملاءمة كي يبيعها عندما تندر ويرتفع ثمنها، ولذلك فهو أحوج الناس إلى تقديم المعرفة بأحوال البضائع في أماكنها وبلادها كي لا تفوته خير الأوقات للشراء والبيع، ويجب عليه أن يعرف أحوال السلطان الذي يعيش في كنفه هل هو عادل قوي أم ضعيف خائر، فهذا مما يؤثر في تجارته.
- التاجر الركاض، ويعني به التاجر المتجول، وينبغي له التزام الحيطة، إذ ربما تأخر مسيره إلى البلد الذي يقصده، لسبب ما كخوف الطريق فيضطر لبيع بضاعته في البلد الذي اشترى منه ويخسر، ويستحب له كذلك أن يستحضر رقعة بأسعار جميع البضائع في البلد الذي يريد العودة إليه، وأن يعرف المكوس وإلا خسر ربحه.
الثالث: التاجر المُجهز، أي المصدر للسلع ويجب عليه أن ينصب له وكلاء أمناء في البلد الذي يريد أن يرسل إليه بضاعته، وأن يتعامل مع أفضل الوكالات التجارية[5].
مما سبق يتبين أن كتاب الإشارة إلى محاسن التجارة لأبي جعفر الدمشقي يعد أحد المصنفات التأسيسية في علم الاقتصاد، وإذا كانت بعض موضوعاته لا تندرج ضمن علم الاقتصاد الوضعي فما ذلك إلا لأن صاحبها أراد أن يقدم علما لا ينفصل عن المبادئ الدينية والقواعد الأخلاقية.
[1] رفعت العوضي، تحليل اقتصادي لكتاب الإشارة إلى محاسن التجارة للدمشقي (القرن السادس الهجري)، القاهرة: مجلة الدراسات الإسلامية التجارية، يناير أبريل 1985، مج 2 ع 5-6، ص 161.
[2] أبو الفضل جعفر ابن علي الدمشقي، الإشارة إلى محاسن التجارة، القاهرة: مطبعة المؤيد، 1318هـ، ص2-3.
[3] نفسه، ص 38-41.
[4] نفسه، ص57-58.
[5] نفسه، 48-52.