يحفر كتاب (الحضارة ومضامينها للمؤرخ الأمريكي بروس مازليش) حفرا عميقا حول مفهوم “الحضارة”، مناقشا جملة أمور ذات أهمية بالغة بدء بتوضيح أصل هذا المفهوم وأهميته ومرورا باعتباره إيديولوجية استعمارية أو أوروبية، ومناقشا العملية التحضرية ذاتها وما تعنيه وكذا أبعادها الاجتماعية والثقافية والدينية، ولم ينس الكاتب أن يتعرض لمصطلح “حوار الحضارات” الذي رأى أنه قديم قدم الإنسان.
يقوم الكاتب منذ أول وهلة بمحاولة هدم المسلمات الذهنية حول الحضارة، حيث أوقع التداول الواسع للفظ “حضارة” ضمن سياقات لا تعد ولا تحصى في الظن بأن هذا اللفظ موجود منذ فجر الإنسان، و”لكن الحقيقة المذهلة التي يجب إدراكها هي أن الوجود المادي لاسم حضارة باعتبارها مفهوما لم يظهر قبل عصر التنوير، بل كان لفظة جديدة في ذلك العصر”، ومن الواضح أن المؤلف يعني ظهور هذا اللفظ في السياق الأوروبي الغربي، وإلا فإن لفظ الحضارة استخدمه العرب في القرن الهجري الأول، وكانوا يرونه مقابلا للبادية، يقول القطامي الشاعر:
ومن تكن الحضارة أعجبته***فأي رجال بادية ترانا
ومن أجل معرفة كيفية حدوث هذا المفهوم يقوم الكاتب بالتفريق بين كلمة “متحضر” (civilized) باعتبارها صفة، وكلمة “حضارة” باعتبارها اسما، حيث كانت الشعوب منذ القدم تميز أنفسها باعتبارها “متحضرة” أو “مهذبة” في مقابل الشعوب البدائية أو الهمجية، هذين المصطلحين الأخيرين لعب اليونانيون –حسب المؤلف- دورا حاسما في ظهورهما، وأول من استخدمهما هوميروس ثم تأكدت مع الانتصار في الحروب الفارسية خلال الفترة الممتدة من 480 إلى 479 قبل الميلاد.
ويشير المؤلف في سياق تشريحه لهذا المفهوم (متحضر ـ همجي) إلى نسبيته المائعة، حيث كان اليونانيون يعتبرون أنفسهم متحضرين لأنهم يربطون هذا المفهوم بالمدنية والزراعة وبالتالي فهم يرون شعب السكوثين مثلا (البدوي واللازرعي) همجيا، أما بالنسبة إلينا حاليا فالموقف اليوناني من المرأة لا يبدوا متحضرا البتة، حيث كانوا يضعونها في مقام العبيد والأطفال خارج دائرة المواطنة، وفي واقع الأمر يرى بروس أن اليونانيين كانوا متناقضين مع أنفسهم.
إن أول من استعمل مصطلح “حضارة” من الفرنسيين –حسب المؤلف- هو فيكتور ريكوتي في كتابه “صديق الإنسان” عام 1766، ويقوم المؤلف بتحليل سياق إيراده لهذا المصطلح طارحا بعض التساؤلات المنهجية التي تثير شكوكا حول الدلالة النهائية للمفردة “الحضارة” في كتابه.
نظر المؤلف في موضوع الحضارة في ثلاث حلقات من قصة الحضارة بوصفها مفهوما في القرن الثامن عشر، وتعامل معها كجزء من مضامينها، بحيث شكلت رحلات “كوك” إلى الجنوب وتقريره عن هذا المكان، وتقرير”فورستير” عن إحدى تلك الرحلات، وسجل سفارة “ماكارتني” في الصين نصوصا رئيسة لتحليل الظاهرة، فكانت أولى الحلقتين تسعى نسبيا إلى البحث في المجتمعات “البدائية” قصد فهم “الآخر” وفق منظاره إلى حد ما، باعتباره مجموعة فريدة، وصورة إيضاحية للطبيعة العامة للبشر التي تعبر عن نفسها بطريق مختلفة؛ وفي هذا العمل المتصل بهذا المجهود، كان كل من “كوك”و”فورستير” يبحثان عن فهم أصل الحضارة في الدين وتعريفها، وترتيبات الملكية وطرق الزواج وعاداته وسلوكاته؛ في حين كان لقاء “ماكارتني” بدوره مع حضارة متقدمة لكن كان يحمل غايات مماثلة في ذهنه إلى جانب الرغبة البسيطة في تسجيل الانطباعات كما عاينها.
إن الأمر الهام والأساسي في سياق عرض هذه الرحلات وتقاريرها والانطباعات السائدة منها، هو تعريف الحضارة الأوروبية أو إعادة تعريفها المستمر انطلاقا من تحديد موقع الآخر والموقف منه.
تعد الحضارة مسألة خلافية بشكل واضح، فهي ليست مجرد موضوع تاريخي ينتظر بحثا وتفكيرا متجردا وخاليا من العاطفة، بل إنها موضوع ملتهب أراد له إعلان الأمم المتحدة لسنة 2001 أن يكون كذلك على نحو عالمي، عندما تحدث في تلك السنة عن”حوار حضاري”. وهكذا اعتبر المؤلف بأن الحضارة ظلت تثير مشاعر متناقضة لدى العديد من المراقبين والمتابعين، إذ تمثل لبعض الناس حصيلة الإنجاز البشري أي النتيجة النهائية للتقدم الحديث. أما بالنسبة للبعض الآخر فهي تشكل تهديدا خارجيا يجرد الإنسان من إنسانيته ويجلب معه مكننة الحياة وتحديا للمعتقدات التقليدية أو المحلية.
بات من الضروري حسب المؤلف، تصور الحضارة باعتبارها شخصية خيالية قد تختفي بشكل نهائي، فالخيال لا يمكن إقصاؤه جملة وتفصيلا بل لا بد من الاعتراف به كما هو، ثم إعادة صياغة تصوره. وهكذا يظل مفهوم الحضارة مندرجا ضمن اهتمامات العلوم الاجتماعية بما هو محاولة لفهم روابط اجتماعية جديدة والعمل على تشكيلها على حد سواء. لكن مع ذلك الحاجة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التأمل الذاتي والمراجعة النقدية الذاتية، الأمر الذي يعني انفتاح المرء على نقد حضارته وطرق تفكيرها حتى يتسنى حماية مصالح البشر والإقرار بأن مضامين الحضارة متعددة بثقافاتها المحلية المتنوعة؛ ومن ثم يقتضي حوار الحضارات استمرار وجودها وبينما تظل منفتحة على قوى التحاضر فهي تحافظ في الوقت ذاته على استقلاليتها وأهميتها وخصوصياتها.
الحضارة ومضامينها
تأليف: بروس مازليش
ترجمة: عبد النور خراقي
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
سلسلة عالم المعرفة عدد412، ماي 2014