يقدم كتاب (العفن) الجانب الأكثر صراحة من الذكريات والمذكرات لصاحبه فيلسوف الحضارة مالك بن نبي، فمذكراته الرئيسة (مذكرات شاهد القرن) كانت هادئة في أسلوبها على الأقل.
نفث ابن نبي في كتاب (العفن) ما كان يطوي عليه صدره من محن ومقاساة نفسية وأسرية واجتماعية إلخ خلال عشرين سنة، وكما قال هو نفسه عن الكتاب إنه “خلاصة ما يختلج في نفس أريد لها التحطيم عبر الإكراه الحسي والسم المعنوي، فقصة هذه النفس وتجربتها منذ عشرين سنة هي نفسها قصة هذا الكتاب، إنها باختصار اعترافات أو مذكرات”، هكذا عبر ابن نبي في مقدمة كتاب (العفن).
تناول كتاب (العفن) كثيرا من آراء الرجل في الأشخاص والأفكار التي عاصرها، بأسلوب انفعالي أدبي، ولكنه لم يخل -كما هي كتابات الرجل دائما- من تأملات عميقة تتجاوز اللحظة والحدث العابر لتؤطره في سياق نقد منهجي للحضارة إنسانا ومكانا وقيما وأشياء، وإلى جانب العمومي تناول الكاتب في (العفن) قضايا أسرته الخاصة بكثير من الشجن والإنسانية، وعقد فصلا لأمه في سنواتها الأخيرة ولموتها وكيف كان أثر ذلك عليه وعلى أبيه.
ويبدو أن ابن نبي كان مدركا القسوة الكامنة في منح كتابه عنوان (العفن)، ولذلك حاول أن يفسر الدواعي التي جعلته يختار هذا العنوان، قال: “استهوتني عناوين كثيرة أسم بأحدها هذا الكتاب، غير أنني اخترت عنوانا يلخصها جميعا (العفن)، ويوافق هذا العنوان بالفعل الانطباع الأكيد الذي أحمله معي من متحف أو معرض يحويان وجوها وأشياء أعرفها منذ عشرين سنة، وأجدها مرتبة ومصنفة بطريقة استذكارية معززة بشروحها وبطاقاتها الخاصة”.
لم تكن تلك اللوحات التي رمز لها ابن نبي في الفقرة السابقة إلا لوحات لوجوه جزائرية كثيرة رأى ابن نبي أنها كانت تخون الوطن وتبيعه بثمن بخس، ثم لوحات وجوه الفرنسيين المستشرقين من قادة الاستعمار ومنظريه، أمثال ماسينيون الذي خصص ابن نبي كثيرا من كتابه هذا لفضح أساليبه المختلفة في إرباك الوعي وتزييفه والترويج للمسيحية والطعن في الإسلام بين شباب المستعمرات الفرنسية الدارسين بالمدراس الفرنسية.
محاولة التحطيم والإكراه النفسي والسم المعنوي -كما سماه ابن نبي- كان يقف خلفها رجلان، أحدهما الجزائري الذي لا يفهم الخطط الاستعمارية أو يفهمها ويتعامل معها بعقل تجاري نفعي، وهنا حاول ابن نبي أن يغوص إلى المشكلات النفسية والاجتماعية التي تجعل بعض أفراد النخبة الجزائرية في تلك الفترة يقفون مثل تلك المواقف المشينة.
أما الرجل الثاني فلم يكن سوى المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي رأى في ابن نبي -بعد قدومه طالبا- خطرا على خططه في بث الأفكار الهدامة والفرقة والاختلاف بين الشباب العربي وخاصة شباب شمال افريقيا، وقد تصدى ابن نبي مع صديقه حمودة بن ساعي إلى تلك المحاولات، واستطاعا بجهودهما المتواضعة أن ينتزعا من ماسينيون كثيرا من ساحته الطلابية العربية التي كان يرتع فيها دون رقيب.
لكن ماسينيون بعدما فشل في ضم ابن نبي إلى صفه عبر وسائل الإغراء والتلطف وقف له بالمرصاد، وكان يتتبع تحركاته ويضايق طموحاته الدراسية والمهنية داخل فرنسا، بل وامتد ذلك السعي للتأثير النفسي والإيذاء الاجتماعي إلى الجزائر، حيث أقيل أبوه من عمله بإشارة من ماسينيون، لتعيش أسرته وضعا صعبا، ولكن ابن نبي كان عنيدا لا يخضع، بل يظهر من خلال ما سرده في كتابه (العفن) أن محاولات الإدارة الاستعمارية ممثلة في ماسينيون إيذاءه لم تزده إلا إصرارا وعنادا.
وبعدما فشل ابن نبي وهو الطالب المتميز والمهندس الكهربائي المكين في أن يجد أي فرصة عمل يسد بها رمق أسرته الصغيرة وعائلته الكبيرة؛ قرر أن يذهب إلى الحجاز، فلعل دراسته الهندسية تمنحه وظيفة يعيش منها هناك، لكنه لما وصل مصر وقدم للتأشيرة تفاجأ برفض طلبه، وقد عرف أن ذلك بسبب توصية من ماسينيون الذي يبدو أنه لم ينس مداخلات ابن نبي التي كان يرد بها على مغالطاته في الكوليج دي فرانس.
ولعل من محاسن كتاب (العفن) هو أنه أعطى صورة تفصيلية مغايرة لصورة ماسينيون في كتابات بعض المثقفين والأدباء الذين درسوا عليه في فرنسا، ولم يكونوا حملة أفكار ومشاريع تناهض فكره ومشروعه الاستعماري، ومن أولئك زكي مبارك الذي يتحدث عنه بكثير من الإعجاب والدهشة والانبهار، فكتاب (العفن) يعطي للقارئ الوجه الآخر لذلك الرجل المستشرق ذي العقلية الاستعمارية، والداعية المسيحي المتعصب ضد الإسلام كمشورع حضاري، وضد المسلمين إذا أرادوا الانعتاق من ربقة الاستعمار الفكري والروحي والثقافي.
كان ابن نبي أثناء دراسته بفرنسا يحمل هم أمته الإسلامية المثخنة بالاستعمار، كما كان يحمل هم الشعب الجزائري الذي تسعى فرنسا بكل ما أوتيت من قوة لسلخه من هويته الحضارية وتحويله إلى مجتمع ملحق بفرنسا، وقد أعطى كثيرا من مذكراته (العفن) لنقد سلوك وتصورات ـ”الأنديجينا”، وهو مصطلح استطاع ابن نبي أن يمنحه دلالة قدحية قاسية بفعل تحليله الاجتماعي والثقافي الذي يفضح به الإدارة الاستعمارية.
و”الإنديجينا” هو قانون أصدرته فرنسا سنة 1871 تمثل في إجراءات تعسفية ضد الجزائريين الذين رفضوا التخلي عن أحوالهم الشخصية، مثل: العقوبات الجماعية على المخالفات الفردية ومنع التجول دون رخصة، وقد كان قانونا تعسفيا رفضه الشعب الجزائري، ولكن ابن نبي يرى أن هذا القانون ترك آثار نفسية واجتماعية لدى بعض النخب، كما أنه يمثل عنده من جهة أخرى النظرة الدونية التي ينظر بها الفرنسي للمواطن الجزائري في تلك الفترة.
ظل ابن نبي رغم تلك الإكراهات والمشكلات يرصد حركة المجتمع ويؤطرها في سياق تحول وتبدل الحضارات، ففي عز أيام صراعه مع ماسينيون لم يغفل ابن نبي عن تسجيل ملاحظة عميقة بشأن مشاهداته في معرض باريس الذي نظم سنة 1936 فـ”مشهد معرض باريسي في الغالب مفيد جدا لمسلم سكنته أفكارنا، فقد رأينا جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته، وكان يقدم الآلية التي تحرك ماكينة وعجلة التاريخ. وبجانبه كان مسلم -مشرقي أو مغربي- يقدم سجادة وعطورا مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة، والثاني يدعو إلى الراحة والدعة”.
تلك بعض الشذرات من كتاب (العفن) لمالك ابن نبي، وهو كتاب لطيف في أسلوبه وسرده الأدبي، وجليل لما فيه من تقييم لأشخاص كانت لهم أدوار كبيرة في بلدانهم فيما بعد ذلك، ولأحداث كان لها أثر على العالم الإسلامي وخاصة شمال إفريقيا، كما فيه نفس ابن نبي الباكية على أم تموت في غيابه، والصامدة حد التهور أمام آلة استعمارية متوحشة تعمل ضد إرادة فرد لا يملك سوى إيمان صادق وعزيمة ثابتة وأمل كبير في التغيير.