في صدر القرن الرابع الهجري أخرج أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي (المتوفى: 321هـ) للأمة مؤلفا في “العقيدة” حدد منهاجه فيه فقال: “هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين وما يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ العالمين.

وهي مقدمة مفيدة مساعدة على تصور المعنى والهدف، والسياق التاريخي الذي جاء فيه المؤلَّف.

وسيتضح ذلك بعدما نمر ولو سريعا على أهم محاور العقيدة المختصرة هذه.

أولا: المباحث الإيمانية

جاء المؤلف –الطحاوي- رحمه الله في هذا المحور بقواعد الإيمان، وأركانه المذكورة في حديث جبريل؛ ويمكن المرور بحديثه عنها عبر النقاط التالية:

أ – الإيمان بالله: قد وركز المؤلف رحمه بالأساس على الإيمان بالله، وأثبت فيه مستويات أربعا:

– الإيمان بالربوبية؛ بأن الله رب كل شيء، وخالق كل شيء، ومحتاج إليه كل شيء، وهو غني عن كل شيء.

– الإيمان بالألوهية؛ بأن الله يستحق العبادة والتوحيد، وأن لا يشرك به شيء، ولم يركز المؤلف على هذا القسم، ولا أولاه كبير اهتمام.

– الإيمان بالأسماء والصفات؛ بمعنى أن لله أسماء وصفات ثابتة تخالف صفات المخلوقين؛ وفي هذا القسم كان المؤلف جازما بوصف الله تعالى بكل وصف يليق به، من غير تأويل ولا تعطيل، على قاعدة “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”؛ لذلك قال: “والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى”، لكن بعض العبارات كانت مرتبكة غير جازمة ولا حاسمة كما في مسألة الجهة؛ حيث قال فيها: “… وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات” ، وهذا الكلام وإن كان جميلا في الرد على المشبهة الذين يشبهونه بخلقه، والمعطلة الذين ينفون صفاته؛ إلا أنه يشير ببعض اعتقاد نفي الجهة عن الله تعالى؛ والحق أن الله تعالى فعلا “لا تحويه الجهات” ولا يمكن أن يحوي الحادثُ المحدِث الخالق البارئ تعالى وتعاظم عن ذلك.. لكن صفة العلو ثبتت لله تعالى فينبغي إماطة اللثام عنها والتصريح بها من غير تكييف ولا تعطيل، ككل الصفات التي تشترك في المسمى مع صفات المخلوقين، ولا يفرق بينهما إلا جهلنا الكيف وإيماننا بالوصف، كما في “السميع” والبصير” و”العليم” والقدير” و”الحفيظ”… وغيرها مما صح وصف الله تعالى بها، وأجمع عليه المسلمون، مع وصفه بعض خلقه بها كقوله عن يوسف: “إني حفيظ عليم”، فيلحق بها ما صح من الوصف لله، ويجرى على ذلك الإطلاق في تفويض السلف المعروف.

– الإيمان بالقدر؛ بمعنى أن الله قدر ما سيخلق قبل أن يخلقه، وما سيقع قبل أن يقع، وأنه لا يقع إلا ما أراد.

والإيمان بالقدر وإن كان قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مؤخرا عن ذكر الإيمان بالله، مفصولا بينهما بذكر الملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، إلا أن ارتباطه بالعلم، جعلنا ندرجه هنا، إدراجا منهجيا، لا عدولا عن الترتيب الذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أطال المؤلف في هذا وأجاد، إلا أن عبارات قد ندَّت منه، لو استبدلها بغيرها لكان أحسن، وذلك من قبيل قوله: ” وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَمْ يَزَلْ عَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَعَدَدَ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَلَا يُزَادُ فِي ذَلِكَ العدد ولا ينقص منه”، وقد يفهم من هذه الكلمة عدم علم الله تعالى “بالتفاصيل”، كما يعتقد بعض الضالين المنحرفين، ولكن المؤلف جعل في سوابق هذا الكلام ولواحقه ما يبرؤه من مثل هذه التهمة، ويبعده عن تلك الساحة، وإن كانت العبارة غير مناسبة.

2- الإيمان بالملائكة، والكتب والرسل، وقد مر على هذا القسم مرور البرق، ولم يفصل فيه أي تفصيل، ولم يبينه أي بيان، فقد جاء فيه بالعبارة التالية:

“وَنُؤْمِنُ بِالْمَلَائِكَةِ

وَالنَّبِيِّينَ

وَالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْمُرْسَلِينَ

ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين”.

وهذه الفقرات الأربع تثبت مجمل الإيمان بالملائكة، وتميز بين الأنبياء والمرسلين مع الإيمان بكل منهما، وتخصص المرسلين بإنزال الكتب، وكأنه اعتماد لأحد الفروق بين النبي والرسول؛ في أن الرسول ينزل عليه كتاب وشرع جديد مستقل والنبي بعكس ذلك، (وإن كان نزول الزبور على داود، يهدم هذا الفرق؛ إذ لم يأت داود بشريعة مستقلة، وإنما كان حاكما بشريعة موسى على نبينا وعليهما الصلاة والسلام)، لكن ترك المؤلف التصريح بالفرق يعفيه من إيراد الاستدراك عليه.

وتضيف الفقرة الأخيرة الشهادة للرسل –وكذا الأنبياء- بأنهم كانوا على الحق المبين، وهي تطبيق لقول الله تعالى: “لا نفرق بين أحد من رسله”.

وقال في فقرة أخرى: ” وَالْإِيمَانُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ من الله تعالى”.

وعموما فهو لم يفصل في الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، كما فعل في التفصيل في الإيمان بالله، وفي التفصيل في القدر، وفي التفصيل في “كلام الله”.

3 – البحث في كلام الله: التزم المؤلف منهج أهل السنة في أن القرآن “كلام الله”، وأنه “ليس بمخلوق”، لكنه كان مترددا جدا في بعض القضايا المثارة –تفصيليا- حول كلام الله تعالى؛ ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:

– الحرف والصوت: لم يدخل المؤلف نفسه في الجدل الدائر حول الحرف والصوت، وهل “كلامي بالقرآن مخلوق أم لا”؟

ولكن التردد بدا واضحا عليه حين قال: “وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ…”.

ففي هذا الفقرة يميل المؤلف رحمه الله في بدايتها إلى الإجمال والتنزيه فيقول: “بلا كيفية”، وكأنه لا يمانع في القول بأن الحرف والصوت “مخلوقان”، ثم ينحاز إلى القائلين بأن القرآن “بلفظه ومعناه كلام الله”، فيؤيد رأيهم بقوله: “أنه كلام الله بالحقيقة”، ثم يتردد في شأن الحرف والصوت فيقول: “فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر”، وفعلا من “زعم أنه كلام البشر” فقد كفر؛ لكن ماذا عن من قال إن الحرف من المتكلم، والصوت منه مخلوقان؟، مسألة لم يحسم المؤلف فيها، ولم يصرح بشيء، ولعل ما فعل كان أسلم، فالقرآن كلام الله حقا، هكذا علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا نطق القرآن، ونعلم أن صفة الله ليست كصفة المخلوقين، وكل أصوات المخلوقين –كأصحابها- محدثة مخلوقة، ونعلم أن القياسات العقلية والمهاترات الكلامية لا تحسم في هذه الأمور، وحسبنا أن نقف حيث وقف السلف، آمنوا بهذا ولم يبينوا القول في الحرف ولا في الصوت، وليست السلامة في طريق لم يسلكوه.

– اللفظ والمعنى: هذه الإشكالية المتعلقة بـ”هل القرآن كلام الله بلفظه ومعناه، أم بمعناه فقط -وهي مبنية على التي قبلها-“؟، حسم المؤلف موقفه وإن لم يصرح تصريحه في قضايا أخرى، فقال: “”وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا”، ثم قال: ” فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: (إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [الْمُدَّثِّرِ: 32] عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ البشر”.

والمؤلف وإن حاول أن يتخلص بهذا التعبير غير المباشر من تبعات التصريح بالقول بأن القرآن “كلام الله بلفظه ومعناه” إلا أنه وقع في استشهاد لا يخلو من إيراد؛ فالآية ذمت القائل بأن القرآن كلام البشر فعلا، لكن معنى قوله: “إن هذا إلا قول البشر”، أن القرآن لم ينزله الله، وإنما قال به بشر كسائر البشر، من حيث مضامينه ومعانيه، ومحل البحث في الصوت وليس في المعنى، وإن كان يشفع للمؤلف كثرة استشهاد السلف بالآية العامة الواردة في سياق معين على معنى خاص يشمله لفظها[1].

4 – الإيمان باليوم الآخر: وفيه مباحث سابقة، ولاحقة؛

أ – المباحث السابقة: وهي ما بين الموت والبعث، وقد قال فيه: وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ، وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا وَسُؤَالِ منكر ونكير، فِي قَبْرِهِ عَنْ رَبِّهِ وَدِينِهِ وَنَبِيِّهِ.

ففي هذه الفقرات الإيمان بملك الموت، وهو منصوص في القرآن: “قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم”، وقد ورد في القرآن ما يشير لعذاب القبر، كقوله تعالى: “النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب”، وأما السؤال فقد تواترت به الأخبار وإن لم يرد في القرآن منه سوى إشارة عابرة في سورة الأنعام، عند بلوغ الكفار مرحلة الغرغرة، في آخر لحظاتهم بالدنيا وأول لحظاتهم في الآخرة؛ حيث تخاطب الملائكة المكذبين: “أخرجوا أنفسكم.. اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون”، وإشارة في سورة فصلت متعلقة بالمؤمنين: “..تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون”، وإن كان الراجح من خلال السياق أن هذه الخطابات متعلقة بأحياء لم يموتوا بعد، كما وردت إشارة أخرى في سورة النساء متعلقة بعذاب القبر وسؤال الملائكة الناس فيه، جاء فيها: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها!!…” فهذا سؤال من الملائكة للناس قبل يوم القيامة؛ إلا أن السؤال التفصيلي الوارد في السنة لم يرد في القرآن.

ب – يوم القيامة: وهو يوم البعث والجزاء والنشور والحساب، وفيه يقول: “وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْعَرْضِ وَالْحِسَابِ وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ.

وفي هذه الفقرة ذكر الإيمان بالبعث؛ وهو من أكثر ما ورد ذكره في القرآن، ومن أكثر مباحث القرآن تكرارا وتأكيدا، بأدلة عقلية لا تحصى عددا، ثم ذكر بعض مفردات يوم القيامة؛ وهي العرض على الله تعالى، وقراءة الكتاب، والميزان، وهي أمور يقينية وردت في القرآن مفصلة مكررة، لكنه أدخل بينها الصراط، وهو ثابت في السنة، وإن لم يرد له في القرآن ذكر صريح يقيني، وخلل ذلك بذكر الحساب وجزاء الأعمال؛ وهي من لواحق يوم القيامة.

وألحق رحمه الله، بالعقيدة في يوم القيامة الاعتقاد بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما لا تبيدان أبدا، وهي من الفروع الجزئية الملحقة بالعقيدة.


[1] – بل فعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع، فقد استشهد بآية وردت في قصة موسى في مكة على معنى فقهي جزئي مبينا حكم حادثة وقعت في خيبر بعد ذلك بعقد من الزمن أو يزيد؛ حيث قال: “من نسي صلاة فليصلها متى ذكرها” ثم تلا: “وأقم الصلاة لذكري”.