يناقش الباحث التونسي نور الدين الخادمي، رئيس وحدة البحوث وأستاذ الفقه وأًصوله في كلية الشريعة بجامعة قطر، من خلال كتابه “تعدد المرجعية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية” جملة من القضايا الشرعية المقاصدية والقانونية المهمة بأسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة، يتجوّل بالقارئ بين مرجعيات متعددة، فيعرّفه على مفاهيمها ومقتضياتها وأسسها المنهجية.
وسنحاول في هذه المقالة أن نقوم بجولة في هذا الكتاب – صدرت الطبعة الأولى في (2020) عن مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن – من أجل تسليط الضوء على أهميته العلمية وإشكالياته الأساسية، والتعريف ببعض القضايا التي ناقشها المؤلف من خلال فصول كتابه الثلاثة، حيث تناول في الفصل الأول مفهوم المرجعية الإسلامية والمرجعية الدستورية والمرجعية الدولية، في حين تناول في الفصل الثاني قضايا تعدد المرجعية من منظور المقاصد الشرعية ، أما في الفصل الثالث فتناول آفاق تعدد المرجعية في ضوء المقاصد الشرعية.
أهمية الكتاب وإشكالياته
قد لا يكون من المبالغة القول إن عنوان الكتاب “تعدد المرجعية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية” الذي نحن بصدد الحديث عنه يكشف عن أهميته العملية وإضافته النوعية، ثم إن القارئ بمجرد أن يبدأ في تقليب الصفحات الأولى من هذا الكتاب سيكتشف أن أحمد زكي يماني – رحمه الله – رئيس مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، قد كفانا مهمة إماطة اللثام عن أهمية هذا الكتاب وقيمته العلمية، حين قال في تقديمه لهذا الكتاب إن أهميته تظهر من خلال مستويات عديدة، أولها أهميته على مستوى مقاصد الشريعة، فالكتاب يُعدُّ “بحثاً عميقاً لتنزيلها في مسار الحياة السياسية والمجتمعية، وفي إطار المرجعية القانونية الدستورية والدولية”.
أما المستوى الثاني فيتمثل في المنهج المقاصدي ، والمقصود بذلك أن مؤلف هذا الكتاب لم يركّز فيه على الأسلوب التقليدي للعلم المقاصدي، وإنما “اتجه إلى تلبيس البحث كله روح العلم المقاصدي”، في حين يتمثل المستوى الثالث في توصيل المقاصد بالعلوم والمجالات والنظم، مثل: علوم القانون والدستور، والعلاقات الدولية، ونظم الدولة والمؤسسات، وهذا الأمر “يوسّع مفهوم المقاصد، ويعطيها القدرة على تأطير تلك العلوم والمجالات والنظم، ويقوّي حضور الشريعة في واقع الناس، ويجلب خيرها لهم جميعاً”.
وفيما يتعلق بإشكاليات الكتاب، فإن المؤلف ذكر في المقدمة أن كتابه له إشكاليتان كبيرتان، الأولى تتعلق بالإجابة على سؤال: إلى أي مدى وبأي كيفية لنا أن نجمع مرجعيات مختلفة في الموضوع والغاية في إطار الدولة أو المجتمع أو الأسرة؟ وتتفرّع عن هذه الإشكالية الكبرى بعض الإشكاليات الصغرى، منها: إشكالية الدولة؛ فهل هي دينية أم مدنية؟ وإشكالية القرآن والدستور؛ فأيهما الدستور والمرجع؟
أما الإشكالية الكبرى الثانية، فتتعلق بإشكالية معاملة مقاصد الشريعة الإسلامية المتفرعة عن الشريعة أو القائمة عليها، وتتفرّع عن هذه الإشكالية بعض الإشكاليات الصغرى، منها: هل المقاصد دليل شرعي حتى نعتبره في حكم أدلة الشريعة النصية؟ وهل المقاصد المعتبرة بالنصوص والأحكام الشرعية تصلح لمواكبة التعدد المرجعي وتعقيداته؟
مفهوم المرجعية
في الفصل الأول، ركّز المؤلف على التعريف بمفهوم المرجعيات الثلاث: المرجعية الإسلامية، والمرجعية الدستورية، والمرجعية الدولية، وسنستعرضها كالتالي بشيء من الإيجاز.
أولاً المرجعية الإسلامية: من المعلوم بالضرورة أن المرجعية الإسلامية تأتي في مقدمة المرجعيات، والمقصود بالمرجعية الإسلامية “اعتبار الإسلام مرجعاً لما يُبنى عليه ويتفرع عنه من الأفهام والمواقف والأعمال والسياسات”، والواضح أن المرجعية الإسلامية مصطلح معرفي جدلي، ولهذا فهناك إشكاليتان كبيرتان في إطلاقه، الأولى تسمى الإشكالية الذاتية وهي موجودة في الداخل الإسلامي وخارجه، “فإشكالية الداخل هي بخس مفهوم هذه المرجعية بعاطفة ومكابرة”، وإشكالية الخارج “هي استعداء مرجعية الإسلام والتحامل عليها وكرهها”[1].
أما الإشكالية الثانية فهي الإشكالية الموضوعية، وتنقسم إلى قسمين: مستجدة وتقليدية، حيث تتمثل إشكالية الثنائيات المستجدة في أمور منها: إشكاليات الشريعة والدستور، والإسلام والديمقراطية، والمدنية والدينية، في حين تتمثل إشكالية الثنائيات التقليدية في أمور منها: المطلق النسبي، والثابت والمتغير، والنقل والعقل. ولعل من المهم هنا القول إن المرجعية الإسلامية لها محددات معينة، تتمثل في: المُنزل القرآني، والبيان النبوي، والوصل بالعمل، وبالتالي فهي “مفهوم فكري وتمثل ذهني، وتقرير نظري عملي، وامتثال في الواقع، واتباع منهج، ومراعاة سياق، وتحصيل ثمرات ومخرجات”[2].
ثانياً المرجعية الدستورية:أما المرجعية الدستور، فالمقصود بها اعتبار الدستور إطاراً مرجعياً للدولة، وقد أوضح المؤلف أن المرجعية الدستورية تُعدُّ المرجعية الثانية التي ترد ضمن تعدد المرجعيات من المنظور المقاصدي، ولها مقتضيات وأساس منهجي يتمثل في مجموع القواعد والأدوات المنهجية المعتمدة في إقامة الدستور.
وفي سياق الحديث عن المرجعيتين الإسلامية والدستورية، لا بد أن يقفز إلى الذهن سؤال جوهري وهو: هل العلاقة بين المرجعية الإسلامية والمرجعية الدستورية علاقة وئام أم تصادم؟ وعلى سبيل الإيجاز، يمكن القول إن لكل واحدة من هاتين المرجعيتين (الإسلامية والدستورية) ماهية خاصة بها، ولكن هذا لا يمنع من التآلف، بل هناك حاجة إلى التآلف بين هاتين المرجعيتين “إذا أُعملت شروط ذلك معرفياً ومنهجياً وسياقياً”، فالتآلف يظل المبدأ المأمول، استناداً على قاعدة “الجمع أولى” و”إذا تعذّر الجمع يُصار إلى الترجيح”[3].
ثالثاً المرجعية الدولية:وإذا كانت المرجعية الدستورية تأتي في المرتبة الثانية ضمن تعدد المرجعيات من المنظور المقاصدي، فإن المرجعية الدولية تأتي في المرتبة الثالثة من حيث الترتيب بالنسبة للدول الإسلامية، والمقصود بالمرجعية الدولية “اعتبار المنظومة الدولية القانونية مرجعاً للدول والمنظمات في السياسات والعلاقات والاستحقاقات والالتزامات”.
وقد ناقش المؤلف في هذا السياق جملة من القضايا المهمة، منها: أصالة المرجعية الدولية في المرجعية الإسلامية، وأصالة المرجعية الدولية في المرجعية الدستورية، وحضور المرجعيتين الإسلامية والدستورية في المرجعية الدولية.
قضايا تعدد المرجعية
وبعد أن طَوَى المؤلف صفحة الحديث عن المرجعيات الثلاث، انتقل إلى الحديث عن قضايا تعدد المرجعية من منظور المقاصد الشرعية، فتحدث عن خمس قضايا كبرى لها علاقة بتعدد المرجعية من منظور المقاصد الشرعية، وهي:
أولاً قضية الحريات: لا خلاف بين اثنين في أهمية الحرية، فالحرية حاجة إنسانية، ومصلحة للمخلوق، ومرادٌ للخالق، وقربة وتعبّد، و”شرط للتكليف الشرعي والمسؤولية الدينية والوطنية والحضارية”[4]، ومما يؤكد أهمية الحرية أنها وردت في مرجعيات متعدد، فالإسلام أعطى الإنسان الحرية ولكن حريته محكومة بضوابط: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤولُونَ}، كما أن الحرية وردت في المرجعية الغربية، حيث نجد أن المذهب الفردي الغربي يقوم على “تمجيد الفرد واعتباره محور النظام السياسي”.
ثانياً قضية المساواة:المتابع لدعوات المساواة بين الرجل والمرأة، يلاحظ أنها ظهرت في المرجعيات المتعددة، فإذا نظرنا إلى المرجعية الإسلامية سنجد أن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة أصل الخلقة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، كما ساوى بينهما في أصل التكليف والجزاء.
أما إذا نظرنا إلى المساواة في المرجعية الغربية، فسنجد أن هناك دعوات إلى “المساواة الكاملة” القائمة على التماثل والتطابق بين الرجل والمرأة دون أي اعتبار لعامل الذكورة والأنوثة، وقد تطوّرت هذه الرؤية الغربية نتيجة لتأثير خطابات الحركات النسوية، ويبدو أن المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون انتقد على المرأة الغربية طلبها المساواة ونسيانها “ما بين النوعين من الفروق العظيمة في القوة العاقلة”.
ثالثاً قضية الأسرة: لا شك أن قضية الأسرة تُعدُّ إحدى القضايا الكبرى للمرجعيات المتعددة، فحين ننظر في المرجعية الإسلامية ستواجهنا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية المتعلقة بموضوع الأسرة: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}، أما حين ننظر إلى المرجعية الغربية فسنجد النصوص القانونية المتعلقة بالأسرة التي تتداخل وتتفاوت وتتناقض أحياناً، نظراً لاختلاف الخلفيات الفلسفية والسياقات الحضارية.
رابعاً قضية السياسة: أما قضية السياسة، فتُعدُّ من أشد القضايا تعقيداً في المرجعيات المختلفة، خاصة من ناحية العمل على الجمع والتوليف بين تلك المرجعيات المتعددة، ومع ذلك فإننا نجد في مجال المرجعية الإسلامية أصالة الاهتمام الإسلامي بالسياسة بادية للعيان، فهي تمثل “ضرباً من ضروب اهتمام الإسلام بقضايا الحياة”.
ونحن إذا نظرنا إلى مكانة السياسة في المرجعية الدستورية، فسنجد أن هذه المرجعية تتضمن “جملة من المفردات السياسية التي تؤطر العملية السياسية وتُوجّجها”، وإذا نظرنا إلى المرجعية الدولية فسنلاحظ أن هناك جملة من المفردات السياسية المبيّنة لمعنى العمل السياسية والحياة السياسية.
خامساً قضية المواطنة: أما قضية المواطنة، فيبدو أنها “إحدى قضايا التآلف المرجعي؛ إذا أخذناها بمفهوم واسع محرر، وبمنهجية موضوعية معتبرة”[5]، وقد وردت عبارة المواطنة كثيراً في مجال القانون والشريعة والسياسة والإعلام والمجتمع والفلسفة، ويمكن أن نقول إن هناك نوعين مشهورين من المواطنة في المرجعية الإسلامية، هما: مواطنة غير المسلم في البلاد الإسلامية، ومواطنة المسلم في البلاد غير الإسلامية.
وإذا نظرنا إلى قضية المواطنة في المرجعية الدستورية، سنجد أنها ترد في الدساتير الحديثة ولكنها تتفاوت في مدلولاتها، ثم إن المرجعية الدولية تتضمن مفردات وإشارات تحيل إلى المواطنة وتساعد على اكتشاف مكانتها.
آفاق تعدد المرجعية
في الفصل الثالث، توقف المؤلف مع عدة قضايا تتعلق بآفاق تعدد المرجعية في ضوء مقاصد الشريعة، فحدثنا عن التوليف المرجعي في تحكيم الشريعة، وتجديد الوعي بالشريعة والمعيشة، وتجديد الأداء السياسي بتوليف مرجعي، وآفاق تفاعل الدين والسياسة في الشأن العام بتعدد المرجعيات وتقصيد المجالات، ونظراً لضيق المقام يمكننا أن نركّز على نقطتين.
أولاً التوليف المرجعي في تحكيم الشريعة: من المعلوم أن تحكيم الشريعة أو تطبيق الشريعة من المصطلحات التي تستخدم كثيراً في الأدبيات العلمية، والظاهر أن المصطلح الأول هو المشتهر أما الثاني فهو المحرر، وهناك جملة من الاعتبارات تؤكد أن مصطلح التحكيم هو الأولى، منها: ارتباط التحكيم بعبارة الحكمة الدالة على اعتبار المصلحة، وارتباط التحكيم بالحكم الشرعي التكليفي والوضعي[6].
وهناك عدة مرجعيات واردة على تحكيم الشريعة، فالمرجعية الإسلامية تتماهى مع تحكيم الشريعة، في حين أن المرجعية الدستورية ترد على تحكيم الشريعة بحسب طبيعة الدستور ومضمونه وسياقه، أما المرجعية الدولية فترد على تحكيم الشريعة باعتبار مجال الاختصاص والتدخل والمشترك وطبيعة العلاقات الخارجية.
والحقيقة أن الحديث عن المرجعيات الواردة على تحكيم الشريعة يدفع إلى طرح سؤال مهم، وهو: هل التوليف بين المرجعيات الثلاث (الإسلامية، الدستورية، الدولية) في تحكيم الشريعة ممكن؟ وقد كان المؤلف صريحاً حين قال إن الجواب على هذا السؤال يُعتبر أمراً مضنياً، ثم قدم إجابته المتمثلة في أن “التوليف بين المرجعيات في تحكيم الشريعة أمرٌ مأمولٌ ومرغوبٌ لنفي الخصومة في غير محلها”[7].
ثانياً آفاق تفاعل الدين والسياسة:إن النظر في آفاق تفاعل الدين والسياسة في الشأن العام بتعدد المرجعيات وتقصيد المجالات أمر مهم، فحين ننظر إلى مكانة الدين والسياسة في المرجعيات الثلاث نجد أن المحدد العلمي والمنهجي للدين والسياسة في المرجعية الإسلامية على مستويين: الأول مستوى التنصيص الشرعي القائم على النصوص الشرعية التي تناولت السياسة والحياة، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}، والثاني مستوى التأصيل والتقعيد الشرعي القائم على القواعد الأصولية والفقهية التي تناولت الحياة العامة والسياسة والاجتماع، مثل: الحكم التكليفي الوضعي، وقواعد الإجماع والقياس والاستحسان، وتحكيم الشريعة.
أما إذا نظرنا إلى الدين والسياسة في المرجعية الدستورية، فسنجد أن هذا التصور له وجهان، الوجه الأول: التنصيص على الحريات السياسية والخصوصية الدينية، والوجه الثاني: صيغ المواءمة بين الدين والسياسة دستورياً، ثم إننا إذا نظرنا إلى الدين والسياسة في المرجعية الدولية سنكتشف أن “أساس مرجعية القانون الدولي للدين والسياسة هو ضمان المعاهدات الدولية لجملة من الحقوق والحريات السياسية والدينية”، وبهذا تبدو آفاق تفاعل الدين والسياسة في الشأن العام بتعدد المرجعيات وتقصيد المجالات جلية إلى حد كبير.
وفي الختام، يمكن القول إن نور الدين الخادمي استطاع من خلال كتابه “تعدد المرجعية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية” أن يقدّم للقارئ صورة واضحة عن فلسفة تعدد المرجعية تؤكد أهمية وإمكانية تعميق وتجديد وتنزيل مقاصد الشريعة الإسلامية في مسارات الحياة السياسية والمجتمعية والقانونية الدستورية والدولية.
[1] نور الدين الخادمي، تعدد المرجعيات في ضوء مقاصد الشريعة، 21-22.
[2] المصدر نفسه، 24.
[3] انظر، المصدر نفسه، 100.
[4] المصدر نفسه، 135.
[5] المصدر نفسه، 243.
[6] انظر، المصدر نفسه، 289-290.
[7] المصدر نفسه، 296.