هل يمكن للأديان المتعددة أن تتعايش بسلام وتقبل بعضها البعض في عالم اليوم؟ في كتابه الجديد “لاهوت التعدّدية الدّينية”، يتناول الكاتب عزالدين عناية هذا السؤال الحساس، عارضًا رؤية عميقة لتحليل واقع التعايش الديني وتحدياته. يعالج الكتاب موضوع التعددية الدينية، ويقدم مفهوم “لاهوت التعدّدية” كإطار فكري يوحّد الأديان دون إلغاء تفرّدها، ويدعو إلى تعزيز القيم المشتركة التي تمكّن الأديان من العيش معًا بانسجام.

إذا كنت مهتمًا بفهم مستقبل التعايش الديني، وكيف يمكن للتعددية أن تسهم في بناء مجتمع أكثر تقبلًا وتفاهمًا، فإن هذا الكتاب يعد قراءة ضرورية.

“لاهوت التعدّدية الدّينية” كتاب صدر حديثا في عام 2024 للكاتب عزالدين عناية عن منشورات الربيع، متناولًا موضوعًا شائكًا وجديدًا في الدراسات الدينية، ألا وهو مفهوم التعدّدية الدينية. يحمل الكتاب في طياته تحليلاً معمقًا لمسألة الهوية والتعايش الديني ويطرح أسئلة جريئة حول إمكانية تقبل الآخر المختلف دينيًا وفكريًا. يتناول عناية مفهوم “لاهوت التعدّدية الدّينية” بصفته فكرًا دينيًا يجمع بين ممارسات الأديان المختلفة دون المساس بجوهر المعتقدات، مما يجعل كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” إضافة جديدة لمناقشة التحديات الحديثة حول الهوية والتعددية في السياق العالمي الحالي.

من هو الكاتب عزالدين عناية؟

عزالدّين عناية، أستاذ تونسي إيطالي يدرّس في جامعة روما، متخصّص في علم الأديان. نشر مجموعة من الأبحاث في مجال الدّراسات العلمية للأديان منها: “الدين في الغرب”، 2024؛ “المسيحية والإسلام في ظلّ العولمة”، 2023؛ “الإمام والكردينال.. ومعارج الإيلاف”، 2021؛ “نحن والمسيحية في العالم العربي وفي العالم”، 2010؛ فضلا عن عدد من الترجمات منها: “علم الأديان.. مساهمة في التأسيس” لميشال مسلان؛ “علم الاجتماع الديني” لسابينو أكوافيفيا وإنزو باتشي؛ “السوق الدينية في الغرب” لمجموعة من المؤلفين.

في كتابه الجديد “لاهوت التعدّدية الدّينية” يأتي المؤلَّف عز الدين عناية تمعّنًا في ملامح مرحلة تاريخية تطبعها آثار العولمة، ومحاولةً لتلمُّس مؤشّرات في مسارات الدين والتديّن. فمن خلال جملة من القراءات عملنا على تأمّل أحوال وأوضاع ومواقف وسياسات، وتفكيكها ومناقشتها، في مسعى لفهم نَسق الأفكار التي تحوم حولنا وحول أهل الكتاب عموما.

الغرب والمنظور الديني

كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” لـ عزالدّين عناية هو مسعى للإحاطة بما يعتمل في الفكر الغربي المعاصر، تجاه الدين والأديان، ولا سيّما منها الأديان الإبراهيمية. إذ ثمة منظور ديني ينظر منه الغرب إلى العالم، لا يخلو من طرافة وعمق. وفي كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” رصد لقضايا متشعّبة، مثل النظر لمدينة القدس، ومسارات الفكر اليهودي، وعلاقة الدين بالسياسة في الغرب وفي العالم العربي، وكذلك حضور مؤسسة الكنيسة، والتصوف في الأديان الإبراهيمية، وغيرها من القضايا. كلّ هذه الأفكار نقف معها على بُؤَر دلالات عميقة في الفكر الغربي.

فمن منظور حضاري، يلوح البُعد الديني في فهم الغرب والتواصل معه محوريا، وإن تسلّطت قلّة من إنتاجاتنا المعرفية على ذلك الجانب. إذ تظلّ الحاجة ماثلة إلى ضرورة تفادي هذا النقص، لإرساء خطاب سديد بين الطرفين. وإدراكًا منّا إلى ما يعوزنا، حاولنا استحضار آراء كتّاب ومفكرين من الغرب نحونا -أي نحو مخزوننا الروحي العربي بوجهيه الإسلامي والمسيحي- ونحو كيانه الديني الكَنَسي، ونحو الذين هادوا، وتبين مساراتها ومقاصدها.

هيكل كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” ومنهجيته

يقدم عزالدين عناية كتابه “لاهوت التعدّدية الدّينية” في عدة فصول مترابطة تطرح مواضيع متفرعة، لكنها تتصل في إطار فكري واحد يركز على مفهوم التعدّدية و”لاهوت التعدّدية الدينية”. يبدأ الكتاب بمقدمة تستعرض الإشكالية الدينية التي تواجهها المجتمعات الحديثة، ويليها مجموعة من الفصول تتناول جذور التعددية الدينية تاريخيًا وفكريًا، كما يناقش علاقة التعددية بالهوية الدينية والاجتماعية. ينهي عناية كتابه باستعراض تحليلي نقدي للوضع الحالي، مع اقتراحات لبناء جسور التفاهم الديني.

سياق الكتاب وأهميته

يعتمد الكاتب على خلفية فكرية شاملة، حيث يمتلك عناية خبرة في مجال الدراسات الدينية المقارنة، وسبق أن نشر عدة كتب تركز على مقارنة الأديان وفهم العلاقة بين المعتقدات المختلفة. ويأتي هذا الكتاب استجابة للتطورات التي شهدتها الساحة العالمية في السنوات الأخيرة، حيث شهدت العديد من الدول تصاعدًا في الانقسامات الدينية والمذهبية، مع تزايد الحاجة إلى إعادة النظر في كيفية تعامل الأديان مع بعضها البعض. يعرض الكتاب أيضًا محاولات متعددة لتجاوز الصراع الديني عبر فهم “لاهوت التعدّدية”، الذي يتطلب قبول الآخر بدون تبني معتقداته، وإنما من خلال تعزيز قيم التعاون والتسامح.

مفهوم “لاهوت التعدّدية الدّينية”

يعالج الكتاب بشكل رئيسي مفهوم “لاهوت التعدّدية الدّينية”، والذي يتعدى كونه مجرد اعتراف بوجود أديان أخرى، إلى مستوى أعمق يطلب من كل دين أن يعترف بإمكانية وجود طرق متعددة للوصول إلى الحقيقة الإلهية أو الكونية. ويعني هذا أن كل دين يمتلك جزءًا من الحقيقة، وأن إقصاء الأديان الأخرى قد يؤدي إلى فقدان جوانب أساسية من التجربة الإنسانية والتقارب الروحي. ويرى الكاتب أن هذا التوجه الفكري يمثل نقلة نوعية تتطلب مراجعة لكثير من المعتقدات والاعتبارات التقليدية حول الدين.

أبعاد التعددية الدينية في الكتاب

يتناول عناية في كتابه “لاهوت التعدّدية الدّينية” أبعاد التعدّدية الدينية عبر ثلاث محاور رئيسية:

البعد التاريخي

يستعرض الجذور التاريخية للتعدّدية الدينية، ويطرح كيف ظهرت الدعوات للتسامح الديني عبر الحضارات المختلفة، بدءًا من الحضارات القديمة وحتى الفكر المعاصر.

البعد الفكري

يسلط الضوء على الفكر التعدّدي الحديث ومدى تأثيره في العالم المعاصر، كما يستعرض أفكار فلاسفة ومفكرين معاصرين يؤمنون بالتعايش الديني كحل لمشاكل المجتمع.

البعد التطبيقي

يقدم نماذج عملية للتطبيق التعدّدي في مجالات متعددة، مثل التعليم والتعايش الاجتماعي والسياسي، ويبين كيف يمكن أن يؤثر فهم التعدّدية على تقبل الآخر وتعزيز التعايش.

الكاتب عزالدين عناية ملف كتاب لاهوت التعدّدية الدّينية

التعددية الدينية والهوية الفردية والجماعية

يتناول الكاتب العلاقة بين التعدّدية الدينية والهوية الفردية والجماعية، حيث يوضح أن التعدّدية لا تلغي هوية الفرد أو الجماعة، بل يمكن أن تغنيها وتضيف إليها عمقًا. ويتناول الكتاب كيفية تأثير التعددية على الهوية الدينية للمجتمعات، وكيف يمكن أن تساهم في تكوين هويات أكثر مرونة وانفتاحًا دون المساس بجوهر المعتقدات. ويرى الكاتب أن التحدي الأساسي الذي تواجهه المجتمعات المعاصرة هو كيفية تحقيق هذا التوازن بين التعددية والحفاظ على الهوية، وهي معضلة تتطلب حكمة ومرونة في التعامل مع الآخر.

نقد المواقف الأحادية

يخصص عناية جزءًا من كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” لنقد المواقف الأحادية التي تعتمد على رؤية ضيقة للدين، وتعتبر المعتقدات الأخرى غير شرعية أو ضالة. ويرى أن هذه المواقف تعمق من الصراعات وتساهم في بناء حواجز اجتماعية وثقافية تعيق التقدم وتضعف روح التفاهم المتبادل. ويرى الكاتب أن لاهوت التعدّدية الدّينية لا يسعى إلى إلغاء الفوارق، وإنما يسعى إلى تحويل هذه الفوارق إلى عناصر قوة وتنوع ثقافي.

نقد الكتاب ومناقشة بعض القضايا المثارة

من أهم مميزات الكتاب أنه يعتمد على أسلوب علمي رصين ويقدم رؤية واضحة حول التعددية الدينية، لكن يمكن أيضًا مناقشة بعض النقاط التي قد يرى البعض أنها تحتاج لمزيد من التفصيل أو التوضيح. فالبعض قد يجد أن عناية يميل في بعض الأحيان إلى المثالية المفرطة في رؤيته لمستقبل العلاقات بين الأديان، خاصة في ظل التوترات الدينية الحالية. وفي ما يلي نقد للقضايا المثارة في كتاب لاهوت التعددية الدينية:

الحقيقة الدينية المطلقة مقابل التعددية

من الانتقادات البارزة التي وجهت للكتاب هي أن التعددية قد تتعارض مع فكرة الحقيقة المطلقة التي يدعيها كل دين. يتساءل النقاد كيف يمكن الجمع بين إيمان دين بحقيقة مطلقة وبين القول بأن الأديان الأخرى صحيحة بذاتها، حيث إن هذا قد يؤدي إلى تفكيك الإيمان الأساسي لدى المؤمنين بدين معين ويثير تساؤلات حول جوهر إيمانهم.

الخلط بين التعايش واحترام الاختلافات

هناك فارق بين التعايش السلمي وبين قبول أن كل الأديان صحيحة على قدم المساواة. يرى بعض النقاد أن الكتاب يخلط بين هذين المفهومين، حيث يعتقدون أن التعددية الدينية في إطار “لاهوت التعددية” قد تدعو إلى مساواة جميع الأديان، مما قد يؤدي إلى تجنب نقد العقائد أو التفسيرات التي تتعارض مع قيم أساسية. فالتعايش السلمي يجب أن يكون مبنيًا على احترام الآخر، وليس على قبول كل فكرة كحقيقة مطلقة.

إغفال أهمية الخصوصية العقائدية

يرى بعض النقاد أن الكتاب يغفل عن قيمة “الخصوصية العقائدية” التي يتميز بها كل دين، حيث يعتمد كل دين على مجموعة من المبادئ والطقوس التي تحدد هويته. ويرون أن هذه الخصوصية تجعل من الصعب جدًا تبني فكرة أن كل الأديان صحيحة أو أنها تؤدي إلى نفس النتيجة. إذ لا يمكن التغاضي عن الاختلافات الجذرية في المعتقدات الدينية.

البعد الفلسفي والأخلاقي للتعددية

يناقش الكتاب التعددية الدينية من منظور فلسفي، إلا أن بعض النقاد يرون أنه لم يعالج الجوانب الأخلاقية التي قد تترتب على هذه النظرة التعددية. فالتعددية قد تؤدي إلى تمييع القيم المطلقة التي تدعو لها بعض الأديان، ما قد يؤثر على منظومة القيم والأخلاقية في المجتمع.

نظرة متفائلة قد لا تتناسب مع الواقع

يعتبر بعض النقاد أن الكتاب يقدم رؤية متفائلة للتعددية الدينية، قد تكون بعيدة عن الواقع، خصوصًا في ظل وجود نزاعات دينية تاريخية ومعاصرة. إذ يرى البعض أن التعددية الدينية قد تكون فكرة صعبة التطبيق بالنظر إلى وجود عقائد تؤمن بتفردها وتعاليها على غيرها.

التحديات الواقعية

يشير عناية إلى تحديات الواقع، لكن قد يرى البعض أن الكتاب لا يعالج بشكل كاف التحديات العملية التي تواجهها المجتمعات التعددية، مثل التمييز العنصري، والتحيزات الثقافية، والخطاب الإعلامي الموجه. فبينما يضع عناية أطرًا نظرية للتعددية، قد تتطلب تطبيقات التعددية على أرض الواقع استراتيجيات أعمق للتعامل مع الأزمات الدينية والثقافية.

تأثير لاهوت التعدّدية الدينية على الشباب

من القضايا التي أثارها الكتاب أيضًا قضية تأثير لاهوت التعدّدية على جيل الشباب، خاصة في المجتمعات التي تواجه فيها الهوية الدينية تحديات العولمة والانفتاح. يناقش الكاتب كيفية تأثير الفهم العميق للتعددية على التوجهات الدينية لدى الشباب، وكيف يمكن لنهج التعددية أن يسهم في بناء شخصيات متسامحة ومنفتحة، لكنها أيضًا تتعلق بجذورها الدينية والثقافية بشكل إيجابي.

رؤية الكتاب لمستقبل التعايش الديني

في خاتمة الكتاب، يقدم عزالدين عناية رؤيته حول مستقبل التعايش الديني في ظل لاهوت التعدّدية الدينية. ويؤكد على أن المستقبل يتطلب تغييرًا جذريًا في كيفية تعامل الأديان مع بعضها البعض، وأن الفكر التعددي يمكن أن يشكل أساسًا لبناء مجتمعات أكثر استقرارًا وتقدمًا. ويؤكد عناية أن التعددية هي الأفق الجديد للعيش المشترك، لكنها تتطلب جهدًا تربويًا وثقافيًا لبناء قيم التفاهم والقبول.

كتاب لاهوت التعدّدية الدّينية يتناول مستقبل التعايش الديني من منظور يعترف بوجود وتعدد الأديان بوصفها تجارب متكاملة تهدف جميعها إلى استكشاف الحقيقة الروحية وتطوير القيم الإنسانية، ويدعو إلى بناء جسور تواصل واحترام متبادل بين الأديان المختلفة. يركز الكتاب على عدة مبادئ أساسية لتحقيق هذا التعايش، من بينها فهم الذات والآخر، والتقدير العميق للتنوع الديني، وتجاوز المركزية الدينية التي تجعل أتباع ديانة ما يرون أنفسهم وحدهم على صواب ويعتقدون أن الطريق إلى الحقيقة محصور لديهم.

يطرح الكتاب مفهوم لاهوت التعدّدية الدّينية كإطار لفهم الأديان بوصفها متساوية في القيمة والغاية، معتبراً أن الأديان ليست في منافسة حول الحقيقة بل تتكامل في السعي نحو الفهم الأعمق للوجود الإنساني. وفقاً لهذا المفهوم، فإن كل دين يمكن أن يسهم في تعزيز التعايش من خلال تشجيع أتباعه على تقبل الآخر والتفاعل معه بشكل إيجابي، بل وحتى التعلم من تجاربهم ومعتقداتهم.

وفي سياق مستقبل التعايش الديني، يتوقع كتاب لاهوت التعدّدية الدّينية أن يشهد العالم مساراً نحو مزيد من الانفتاح والقبول للتعددية الدينية، خاصة مع انتشار الحوار بين الأديان والمبادرات المشتركة التي تركز على القيم الإنسانية، مثل السلام والعدالة وحقوق الإنسان. ويرى أن هذه المبادرات يمكن أن تخلق مجتمعات أكثر تسامحاً وقدرة على التعامل مع التنوع الديني بشكل إيجابي.

خلاصة

يعتبر كتاب “لاهوت التعدّدية الدّينية” لعزالدين عناية إضافة نوعية لمكتبة الفكر الديني والفلسفي المعاصر. يطرح الكتاب رؤية جريئة نحو التعدّدية الدينية كبديل للتعصب والانغلاق، ويقدم منهجية لاهوتية جديدة تدعو إلى تبني الحوار وقبول التعدد. يعتمد الكتاب على تحليل علمي ورؤية شاملة تجعل منه مرجعًا هامًا للباحثين والمهتمين بقضايا التعددية والهوية.