في زمنٍ يُعاد فيه تشكيل الحدود الثقافية، ويُستغلّ التاريخ كسلاحٍ أيديولوجي، أطلّ علينا المؤرخ الإسباني دانيال خيل بني أمية (Daniel Gil Benumeya) — حفيد المُصلِح الأندلسي محمد بن عزوز بني أمية — بكتابٍ لا يكتفي بإعادة قراءة التاريخ، بل يُجري عملية إنعاشٍ لذاكرة مدينةٍ ظنّ كثيرون أنها وُلدت مسيحية.
كتاب “Madrid Islámico”، الذي صدر بالعربية تحت عنوان “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” عن دار الثقافة للطباعة والصحافة والنشر والتوزيع في الدوحة (2023)، يكتسي أهمية استثنائية، فهو ليس مجرد دراسة أثرية، بل هو استدعاءٌ وجوديٌّ لإثبات أن مدريد — عاصمة إسبانيا اليوم — لم تُبنَ على أرضٍ فارغة، بل على أنقاض مدينةٍ إسلاميةٍ عريقة اسمها “مجريط”.
العاصمة الأوروبية الوحيدة ذات الأصل الإسلامي
يُعد كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” (Madrid Islámico: La historia recuperada) للمستعرب الإسباني دانيال خِيلْ بني أُمَيَّة (Daniel Gil-Benumeya)، والصادر باللغة العربية عن دار الثقافة للطباعة والصحافة والنشر والتوزيع في الدوحة، عملاً جوهرياً يسعى لإعادة تشكيل الوعي التاريخي لأصول العاصمة الإسبانية مدريد.
يتجاوز الكتاب السرد التقليدي الذي غالباً ما يتجاهل أو يهمش فترة الأندلس، ليُثبت أن مدريد هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تأسست على يد المسلمين في منتصف القرن التاسع الميلادي، وتحديداً على يد الأمير محمد الأول الأموي (حكم: 852-886م).

يتناول كتاب “مدريد الإسلامية” فترة تمتد لأكثر من 700 عام من الوجود الإسلامي في مدريد، بدءاً من التأسيس كـ “ثغر أوسط” لحماية طليطلة، مروراً بالتعايش الذي تلا السقوط القشتالي للمدينة في أواخر القرن الحادي عشر، ووصولاً إلى الوجود المُستمر للأقلية المُدجّنة والمُورِيسْكِيَّة، وكيف أثر هذا الوجود العميق في البنية المادية والثقافية واللغوية للمدينة حتى العصر الحديث. يُشكل هذا العمل محاولة جريئة لاستعادة “التاريخ المستعاد” الذي طمس بفعل عمليات التطهير الديني والثقافي المتعاقبة وسياسات “الكاثوليكية الوطنية” الإسبانية.
تفكيك الأسطورة المسيحية وإثبات الأصل الإسلامي
يُقسم كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” إلى عدة محاور رئيسية، تعمل جميعها على تفكيك فكرة “مدريد القوطية المسيحية الخالصة” التي رُوِّج لها طويلاً، وتقديم الأدلة القوية على أصولها الأندلسية.
1- التأسيس والموقع الاستراتيجي (مَجْرِيط)
يُركز المؤلف على اسم المدينة وأصله. كلمة مَجْرِيط، التي تطورت لاحقاً إلى مدريد (Madrid)، هي كلمة ذات جذر عربي واضح (مجرى) مضاف إليه اللاحقة اللاتينية (-يط) التي تدل على الكثرة، ليكون المعنى هو “كثرة المجاري المائية الجوفية”. يثبت الكاتب أن هذا الاسم يعكس الواقع المادي للمدينة التي اشتهرت بشبكاتها المائية الغنية والقنوات الجوفية التي كانت أساساً لحياة سكانها.
كما يشرح الكاتب أن الدافع وراء بناء المدينة في القرن التاسع لم يكن عشوائياً، بل كان استراتيجياً عسكرياً. كانت مَجْريِط تُعد حصناً منيعاً (قصبة) يقع في منطقة الثغر الأوسط، وظيفته حماية طليطلة وعبور المسلمين إلى الأراضي الواقعة شمال نهر دويرو. هذا التأسيس العسكري الصرف يؤكد أن مدريد نشأت كمدينة أندلسية أصيلة، وليست مجرد مستوطنة رومانية سابقة.
2- الوجود الإسلامي المستمر (المُدجَّنون والموريسكيون)
يُصحح كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” الاعتقاد السائد بأن سقوط مدريد في يد القشتاليين في عام 1083م يعني انتهاء الوجود الإسلامي. على العكس من ذلك، يوضح بني أمية أن المجتمع الإسلامي ظل حياً وفاعلاً داخل المدينة لقرون تالية كأقلية دُعيت باسم “المُدجَّنون” (Mudéjares)، وهي تسمية للمسلمين الذين بقوا تحت الحكم المسيحي.
البنية الحضرية المُدجَّنة
يشير المؤلف إلى أن الطراز المعماري “المُدجَّن” (Mudéjar) – وهو دمج فريد بين الفنون الإسلامية والمسيحية – ساد في مدريد حتى القرن السادس عشر، مما يدل على استمرار تأثير الحرفيين والعمال المسلمين (المُدجَّنون).
حي المُورِيَّة (La Morería)
يُسلط كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” الضوء على بقاء المسلمين في أحيائهم القديمة، وخاصة “حي المُورِيَّة”، حيث استمروا في ممارسة حياتهم وتقاليدهم، حتى بعد تحولهم القسري إلى المسيحية ليصبحوا “المُورِيسْكيُّون” (Moriscos) في القرن السادس عشر، ثم طردهم النهائي لاحقاً.

3- الآثار الباقية والتطهير الثقافي
يبحث المؤلف في المعالم الأثرية التي نجت من التدمير أو التحويل، مشيراً إلى أن عمليات الطمس لم تكن تدميراً مادياً وحسب، بل كانت تطهيراً عرقياً وثقافياً يهدف إلى محو أي ذكر لأصل المدينة.
الألمودَيْنا (Almudena)
يوضح الكاتب أن اسم أهم كنيسة وشفيعة للمدينة، “كاتدرائية نويسترا سينيورا دي لا ألمودَيْنا”، هو في الأصل تصحيف للاسم العربي “المُدَيْنَة”، وهي القلعة التي كانت مركزاً للحكم الإسلامي في مَجْرِيط. هذا التحول اللغوي والديني يُعد دليلاً مادياً على استبدال الهوية دون تغيير الأساس الجغرافي.
العادات واللغة
يتطرق الكتاب إلى آلاف الكلمات الإسبانية ذات الأصل العربي التي ما زالت مستخدمة، بالإضافة إلى العادات والتقنيات الزراعية (مثل استخدام القنوات المائية) التي ورثتها مدريد عن أسلافها المسلمين.
4- الربط مع الحاضر (الإسلاموفوبيا والحق في المدينة)
لا يقف كتاب “مدريد الإسلامية” عند حدود الماضي، بل يربط استعادة هذا التاريخ بالواقع المعاصر. يُشير المؤلف إلى أن إنكار الأصل الإسلامي لمدريد يخدم بشكل مباشر خطابات “الإسلاموفوبيا” المعاصرة في إسبانيا، والتي تقدم المسلمين على أنهم “وجود غريب” و”طاريء” على النسيج الاجتماعي الأوروبي.
وبعكس ذلك، يُثبت الكتاب أن المسلمين ليسوا دخلاء، بل هم جزء أصيل من التاريخ الإسباني والمؤسسون الفعليون لعاصمة البلاد. هذا التاريخ المستعاد يمنح المجموعات المسلمة الحالية “الحق في المدينة” ويُعزز شرعية وجودهم كمواطنين يتمتعون بالانتماء والتراث.
الكتاب الأصلي .. نقد واحتفاء
لاقى كتاب “Madrid Islámico” للمؤلف دانيال خيل بني أمية، والذي صدرت طبعته الأولى في 2015 والطبعة المنقحة باسم “Madrid islámico: La historia recuperada” (التاريخ المستعاد)، صدى واسعاً وإشادة كبيرة في الأوساط الأكاديمية وبعض الأوساط الثقافية الإسبانية والأوروبية، رغم حساسية الموضوع.
عند صدور النسخة الإسبانية الأصلية (Madrid Islámico, 2018)، أثار كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية والإعلامية الإسبانية:
- أشاد بها المؤرخون الليبراليون مثل خوان خوسيه لينازا، الذي وصفها بأنها “ضربةٌ قاصمةٌ للأسطورة القومية”،
- هاجمها اليمين المتطرف باعتبارها “محاولةً لتشويه الهوية الإسبانية”،
- أوصت بها جامعات أوروبية (مثل جامعة ليدن) كمرجعٍ في دراسات ما بعد الاستعمار.
أما النسخة الإنجليزية (التي صدرت عام 2020 تحت عنوان “Islamic Madrid: Recovering a Forgotten Past”)، فقد نالت تقييماتٍ إيجابيةً في مجلات مثل “History Today” و “Middle Eastern Studies”، حيث وصفها الناقد مايكل كوك بأنها “دراسةٌ دقيقةٌ تعيد الاعتبار للفاعلية التاريخية للإسلام في أوروبا”.
أولا: المدح والإشادة (الاحتفاء بإعادة الاكتشاف):
الجُرأة الأكاديمية والصرامة المنهجية
أشاد النقاد بالدقة والصرامة التي اتبعها الكاتب، وهو مستعرب وأستاذ في جامعة كومبلوتنسي بمدريد. حيث اعتمد على أرشيفات ووثائق عربية وأثرية، بالإضافة إلى السجلات القشتالية، لتوثيق كل مرحلة من مراحل الوجود الإسلامي. يُنظر إلى الكتاب على أنه عمل مرجعي يضع حداً للجدل القائم منذ زمن حول أصول مدريد.
أهمية الربط بين الماضي والحاضر
تلقى كتاب “مدريد الإسلامية ” مدحاً خاصاً لـ “وظيفته الاجتماعية”. أشار العديد من المراجعين إلى أن دانيال خيل بني أمية نجح في استخدام التاريخ المنسي كأداة قوية لمكافحة الإسلاموفوبيا الحديثة. فكما ورد في ملخصات الكتاب، هو يربط بين إرث المُدجّنين والموريسكيين وبين “حق المسلمين المعاصرين في المدينة” (الحق في الانتماء والاندماج الكامل)، مقدماً نموذجاً للتربية على التنوع والاختلاف.
الإثراء الأندلسي
احتفى البعض بتقديم مدريد كجزء من جغرافية الأندلس التاريخية والثقافية، وليس مجرد نقطة دفاع مسيحية متقدمة. هذا المنهج ساهم في “استعادة ذاكرة الأندلس” المجهولة في قلب إسبانيا المعاصرة، وهي فكرة كانت مهملة في الخطاب الوطني الإسباني الذي يميل إلى التركيز على الشمال المسيحي.

ثانيا: النقد والجدل (المقاومة التاريخية)
مقاومة الأطروحة الرئيسية (اليمين التقليدي)
واجهت الأطروحة المركزية لكتاب”مدريد الإسلامية”، وهي “الأصل الإسلامي لمدريد”، مقاومة واضحة من الدوائر التي تتبنى مفهوم الكاثوليكية الوطنية والهوية الإسبانية التقليدية، والتي ترى أن تاريخ إسبانيا الحقيقي يبدأ مع “الاسترداد” وطرد المسلمين. هذه الأوساط سعت تاريخياً إلى الترويج لفكرة أن مدريد مدينة رومانية-قوطية مسيحية خالصة.
اتهام بتسييس التاريخ
وجه بعض النقاد غير الأكاديميين اتهامات للمؤلف بأنه “يسيّس” التاريخ لخدمة قضايا معاصرة (مثل حقوق المهاجرين أو مكافحة الإسلاموفوبيا). ومع ذلك، يرد أنصار الكتاب بأن هذا الربط ليس تسييساً بل تفعيلاً للذاكرة التاريخية لخدمة العدالة الاجتماعية والحق في الانتماء.
الانطباعات العامة (Goodreads)
في منصات القراء (مثل Goodreads)، تظهر تقلبات في التقييمات (بين 5 نجوم و نجمة واحدة)، مما يعكس الانقسام الأيديولوجي حول الموضوع. تشيد المراجعات الإيجابية بكونه “كتاباً مذهلاً… ذا صلة واضحة بزمننا هذا”، بينما تعكس التقييمات السلبية رفضاً للأطروحة المتمردة على السرديات الوطنية السائدة.
دعوة لإعادة النظر في الهوية الأوروبية
يمثل كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” عملاً رائداً في مجال الاستعراب والتاريخ الحضري. إنه أكثر من مجرد سرد تاريخي لأصل مدينة؛ بل هو وثيقة نقدية ضد السرديات الأحادية للهوية الوطنية الأوروبية. نجح دانيال خيل بني أمية في استنطاق الحجر، والأثر، واللغة، والمجاري المائية الجوفية لمدريد، ليثبت بالدليل القاطع أن الأصول الإسلامية ليست هامشاً عابراً، بل هي جوهر لا يمكن فصله عن عاصمة إسبانيا.
كتاب “مدريد الإسلامية أو التاريخ المستعاد” ليس كتابًا عن الماضي، بل عن الحاضر الذي يرفض أن يُنسى. ففي كل زقاقٍ بمدريد، في كل اسمِ حيّ، في كل تدفّقٍ لماء الساقية، هناك صدىً لصوت الأذان الذي كان يعلو من مآذن مجريط.
ودانيال خيل بني عمية، بقلمه الدقيق وحسّه التاريخي، لا يكتفي بإعادة كتابة التاريخ، بل يُعيد إلى مدريد روحها المسلوبة، ويذكّرنا جميعًا بأن الذاكرة هي آخر معاقل الهوية.
أما رسالة الكتاب الجوهرية، التي وصلتنا بترجمة عربية في الدوحة، هي دعوة عالمية لإعادة تقييم مفهوم الأندلس كفترة تاريخية غنية بالتنوع. إنه يفتح الباب أمام حوار أعمق حول الهوية الأوروبية الحديثة وضرورة الاعتراف بتراكم الحضارات والأعراق، بما يخدم التعايش والسلام في القرن الحادي والعشرين.
