يقع متن هذه الدراسة “مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة” في 426 صفحة، يبدأ بمقدمة استغرقت 46 صفحة عرض فيها الكاتب تعريفات الثقافة ومفهومها الاجتماعي والانثروبولوجي وأهميتها في الحياة، ثم يناقش العولمة الثقافية وتأثير “انتصار الاقتصادي على السياسي” وانعكاس ذلك على الثقافي.

ويعالج الكاتب تأثير الإعلام في تشكيل ثقافة ما بعد الحداثة من خلال التكنولوجيا وعلاقة الهوية بالسلع وانتزاع المكان من سياقه الاقليمي و “البينصية” والعلاقة بين تشابك معطيات الواقع وتشابك الثقافات، ويتوقف عند 3 مصطلحات هي:

المصطلح الأول: الكريولية(Creolization):

وتعني الترابط والتأثير المتبادل ولو غير المتوازن بين ثقافة المركز وثقافة الأطراف من ناحية وتحرر الثقافة من المكان من ناحية أخرى.

المصطلح الثاني: التهجين (Hybridization):

وتعني التأثير المتبادل بين كافة أنواع الثقافات سواء أكان بنائيا أو ثقافيا ،

المصطلح الثالث: مفهوم “الحداثة السائلة”:

الذي يعني تبادل التأثير الثقافي الذي يتجاوز الحدود دون أن يمحوها، وهذه الأنماط تقود إلى تغليب المؤقت على الدائم والتحرر من سطوة الماضي والتنصل من المقدس والانتقال من المجتمع الى التجمع بسبب تفكك الروابط التقليدية وبروز مفهوم الشبكة وتنامي النزعة الاستهلاكية.

أما الفصل الأول (58-92) فيتناول فيه تعريفات الثقافة من بعدين :التعريفات السلوكية والتعريفات المعيارية،ثم ينتقل لمفهوم الثقافة الشعبية وحدود الدراسات الثقافية،ويحدد الثقافة الشعبية في تعريفات ستة :المقبولة والمتبقية والجماهيرية والاصيلة والمهيمنة ونهاية النخبوية،

أما الفصل الثاني وهو الأطول، فيعرض فيه آليات بناء نظرية للثقافة المعاصرة ومآلات تلك النظرية، ويستعرض 19 نظرية:التطورية (الأحادية والعامة ومتعددة الخطوط وربطها بنظرية الشُعَب المرجانية)، ونظرية التكيف التطوري وتعني المرونة في الاستجابة للتغير،النظريات البيولوجية (النقاء السلالي وأثر الوراثة في التباين الثقافي)، الداروينية الجديدة (الثقافة والوراثة)، الايكولوجيا التطورية (تميز بين التاريخ –المدفوع بالقصد الإنساني- والتغير الذي يوجهه الانتخاب الطبيعي)، نظرية الميمة (انتقال الثقافة في بعض عناصرها بوسائل غير جينية عبر المحاكاة كالألحان الموسيقية والموضة..الخ)، نظرية إبيديمولوجيا التمثلات الثقافية (أو ما يسميه العدوى الثقافية التي يتم فيها انتقال الأفكار بالانتخاب الثقافي وقوة الجذب)، نظرية المادية الثقافية ،النظرية البنائية، الماركسية البنائية، النزعة الثقافية،ما بعد البنائية، التقانة والتفاوت،الثقافة والهيمنة، الثقافة والقوة،النظريات التصورية (نظام تراتبي من الرموز)، نظرية الإجماع الثقافي،وأخيرا نظرية المعنى.

وفي الفصل الثالث (244-294)، يناقش موضوع العولمة والدوران الثقافي ومفهوم الكونمحلية (تزامن الكوني مع المحلي) والكريولي والزمن الإحالي (سقوط الماضي والمستقبل في الحاضر المتغير باستمرار) ثم يتناول الامبريالية الثقافية،

في الفصل الرابع (296-334) حيث يتناول دور العولمة في تحول الثقافة نحو”ما بعد حداثية”من خلال تأثير أدوات العولمة وظهور المجتمعات الافتراضية وإحلال الفضاء محل المكان،

ينتقل بعد ذلك إلى الفصل الخامس (336-358) ويركز على ما يسمى الحداثية السائلة والتي تعني انفصال الفعل عن النسق الاجتماعي، وظهور المجتمعات المتخيلة وإحلال الشبكة محل المجتمع ثم يناقش مفهوم رأس المال الاجتماعي،

في الفصل السادس (360-416) ويتركز على نضوب مصادر تشكيل الهوية وإحلال الهجائن بدلا منها والتمييز بين الهوية الشخصية والهوية الاجتماعية،ثم يناقش أثر تراجع مكانة الدولة على الهوية القومية وجعلها أكثر سيولة، ويناقش أثر كل ذلك على البنية السيكولوجية للأفراد،

وفي الفصل الأخير(398-416) والخاص بالتراث الثقافي غير المادي وسيولة الواقع المعولم، وبعد تعريف التراث الثقافي (المادي وغير المادي) يتناول توظيف هذا التراث في التنمية المستدامة،موجها دعوة للعرب بخاصة لجمع وتوثيق تراثهم الثقافي غير المادي لاهميته في التنمية المستدامة،

أما الخاتمة(418-426) فيدعو فيها لمفهوم أكثر مرونة للثقافة والتركيز على النواة الصلبة لكل ثقافة لنتمكن-كعرب- من مواجهة الحداثة السائلة وتاثيراتها على الثقافة العربية.

مناقشة الكتاب

تنتمي هذه الدراسة إلى علم الاجتماع الثقافي والأنثروبولوجيا في بعدها الثقافي تحديدا ، وتحاول الدراسة أن تعالج موضوعها وهو موقع وسمات الثقافة في المجتمع المعاصر من خلال معالجة نظرياتها ثم تتبع تأثيرات العولمة عليها عبر التبادل بين المجتمعات في الجوانب المادية (التدفق الاقتصادي والتقني والمالي والسياسي ) وغير المادية ( الرموز والآداب والموسيقى واللغات والجماليات وغيرها)، ومناقشة الآراء المختلفة حول مدى تأثير هذا التبادل على الأنساق الثقافية المحلية والكونية ، وتحديد سمات الثقافة ” الكونمحلية “.

ونتيجة لخاصية السيولة في التدفق والجدال حول مناهج فهم تداعيات هذه السيولة بين المنهج الحداثي وما بعد الحداثي بدأت تبرز مفاهيم جديدة كالشبكة بدلا من المجتمع والمجتمعات الافتراضية والمتخيلة. وتحاول الدراسة معالجة وتحديد سمات ونتائج هذا التفاعل المتبادل من خلال التركيز على بعض القيم كالنزعة الفردية والنزعة الاستهلاكية وتآكل الترابط الآلي(الترابط العرقي والديني..الخ) لحساب الترابط العضوي (الاقتصادي والمالي والتجاري والتقني..الخ).

وعند المقارنة بين ما توفر من أدبيات انتجها الباحث، أرى أن ما ورد في الكتاب ورد في أطروحاته الجامعية (الماجستير: أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة عام 2003 والدكتوراه : الاتصال الثقافي (وهي دراسة تطبيقية على مجتمع الواحات المصري) وفي بعض بحوثه اللاحقة، مثل أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة (2016) والثقافة الكونية والثقافة ما بعد الحداثية (2015) والإشكالية المنهجية في أنثروبولوجيا ما بعد الحداثة(2010)، لكن بعضا من هذا الكتاب بخاصة المقدمة سبق نشره كما هو تقريبا (بنسبة عالية جدا ) في مركز دراسات وفي وقت سابق.

وفي تقديري أن الدراسة تمثل “تجميعا وترتيبا لما كتبه الغربيون بشكل رئيس حول الموضوع، وتكاد أن تقتصر مساهمة الكاتب على ذلك، فهو إما شارحا أو ناقلا ، فالكتاب فيه حوالي ألف ومائة اقتباس من 355 مرجعا، وعليه فالكتاب يشكل مرجعا جيدا للتعرف على أدبيات الموضوع، لكن المساهمة الذاتية من الكاتب لا تزيد عن 3%، ولو قارنا ما نقله الباحث عن بومان (Zygmunt Bauman) فقط بخاصة في المقدمة وفي بعض الفصول الأخرى سنجد أنه يفوق بشكل كبير مساهمة الكاتب في موضوعه.

جانب آخر، أن الكاتب لم يربط موضوعه بالثقافة العربية ولم يشر لها إلا في فقرة واحدة وقصيرة فقط (صفحة 415) يدعو فيها إلى جمع وتوثيق لموجودات التراث الثقافي العربي غير المادي.

أما موضوع الجدة والإضافة، فلا شك أن الباحث بذل مجهودا كبيرا في تجميع مادته العلمية، لكني لا أرى أي مساهمة له من بنات أفكاره تثري موضوعه، فهو إما شارحا أو مقارنا أو مترجما ، وقد نجح في هذه الجوانب أيما نجاح، وغطى موضوعه من كل الجوانب التي تخطر على بال المتخصصين في الموضوع. ومن الضروري الإقرار بأن الباحث على اطلاع واسع بأدبيات موضوعه،وكان في بعض الأحيان يحشد قوائم من أسماء الكتاب الذين ناقشوا الفكرة الواحدة.

وقد أسهب الكاتب في عرضه للنظريات بخاصة في الفصل الثاني (حوالي 148 صفحة أي ما يعادل 36% من الكتاب) علما أن هذه النظريات معروضة في كل كتب نظريات علم الاجتماع والانثروبولوجيا، وأحيانا لم أتمكن من الربط بين بعض النظريات التي أوردها وبين موضوع الدراسة، إلى جانب أن موضوع العولمة تم تناوله في الكثير من الدراسات ولم أجد لدى الباحث أية فكرة جديدة وبقي يقتات على ما كتبه جدنز وروبرتسون قبل حوالي 15 سنة وغيرهما.

يحسب للباحث جهده الكبير في ترجمة وشرح بعض المفاهيم الملتبسة من اللغة الأجنبية وبخاصة الانجليزية إلى العربية، وهو ما جعلها في أغلب الأحيان أكثر وضوحا للقارئ.

خلاصة الأمر، أن الكتاب مفيد كمرجع في موضوعه بخاصة للطلاب، لكن مدى ما أضافه الكاتب لا يشكل أية أهمية معرفية أو منهجية جديدة.

يمكن اعتبار هذه الدراسة نوعا من “الموسوعة لعلم الاجتماع الثقافي”،فهي تزخر بالمفاهيم والتعريفات ،ويطغى الجانب النظري فيها على التطبيقي، فلو أن الباحث جعل من الثقافة العربية ميدانا يوظف فيه هذه المفاهيم والنظريات العديدة جدا، لكانت الدراسة أكثر جدوى وأكثر وضوحا (وكنت أشعر أحيانا أن الترجمة لبعض الأفكار تجعل المعنى أكثر غموضا).

تبدأ الدراسة بمقدمة طويلة استغرقت 46 صفحة،فهي أطول من الفصل الأول والرابع والخامس والسابع كل على انفراد، واعتقد أن الفصل الثاني الذي أخذ أكثر من ثلث الدراسة لم يخدم غرض الدراسة والذي حدده عنوان الكتاب في “مصير الثقافة والتراث الثقافي”، فهو فصل تعريفي مدرسي في معظمه ولم يخدم الغرض كما هو الحال في بقية الفصول، وأعتقدأ أن مقدمة الدراسة هي أهم ما ورد في الدراسة بينما بقية الدراسة (باستثناء الفصل الثاني الذي هو الأقل خدمة للدراسة ) هي شروح لفرضيات المقدمة الطويلة.

لقد طغى على الدراسة الطابع السردي والنقل الكثيف للغاية من المراجع، وغابت النظرة الأمبيريقية التي دعا لها الكاتب مرارا في الدراسة واعتبرها مسالة ملحة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا والدراسات الثقافية العربية (انظر الفقرة الأخيرة صفحة 242).

وبعد انتهائي من قراءة الدراسة لم اتمكن من تحديد “مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة” ولم أعرف ما هي مؤشرات تحديد ذلك المصير، فالتشابك والسيولة والتدفق والانتقال والحركة والمؤقتية هي جسد واحد، ولكن إلى أين سينتهي هذا الجسد بالثقافة والهوية؟ وكما أشار الباحث بأن الثقافة الكونية لن تكون إلا بوجود الدولة العالمية فهل يعني هذا أن هذه الدولة العالمية هي “الشرط الحتمي” للثقافة الكونية؟ ثم ما مدى مساهمة كل شعب في بنية هذه الثقافة الكونية؟ هل المعيار هو الثقل السياسي والتقني للمجتمع قياسا لغيره؟ أم لعدد السكان؟ أم للإرث الثقافي قبل الحكومة العالمية والذي جسدته الدولة القومية ؟فمثلا هل النزعة الدينية في أغلب المجتمعات خلال الخمسين سنة الماضية هي دليل على “رد الفعل ما بعد الحداثي على الحداثي؟ أم إننا في الطريق الى دين صناعي كما تصور إريك فروم؟ أم أن هذا الحراك الديني ليس إلا رعشة لموت المقدس؟..

أعتقد أن الكتاب يصلح مرجعا هاما لطلاب علم الاجتماع الثقافي ، لكني أرى أنه فشل تماما في الإجابة بشكل واضح على عنوانه: “مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة”، أو بمعنى أكثر دقة مستقبل الثقافة..فعلماء الاجتماع الغربيون يناقشون الآن التداعيات الثقافية والأخلاقية المستقبلية للتطور التكنولوجي باتجاه السايبورغ (Cyborg ) “مخلوق نصفه آلي ونصفه الآخر بشري” ، وتأثير تماثل المناهج التعليمية على البنية الفوقية للمجتمعات، فكل جامعة ومدارس العالم تدرس نفس المعلومات تقريبا في كل تخصص، مما يوحد المنظومة المعرفية ، وهنا لا بد من تحسس الآثار المستقبلية لهذا على الثقافة وبخاصة العربية، وهو ما تجنبه البحث.


اسم الكتاب: مصير الثقافة والتراث الثقافي في عصر الحداثة السائلة

اسم الكاتب: سيد فارس

تاريخ النشر 2021- دار رؤية للنشر والتوزيع- القاهرة