لا أظن أحدنا عنده تلك القدرة على تجاهل ما يدور بين الناس من موضوعات وخصوصاً تلك المتعلقة بالمرء نفسه. أحدنا قد يبذل جهده ألا يتفاعل كثيراً مع ” كلام ” تلوكه الألسنة من سوء القول حوله أو في شأن من شؤونه، ويحاول أن يعتبر ذلك من الغيبة التي يؤثمون عليها، فيما هو يؤجر وتزداد حسناته..
لكن مع ذلك، النفس البشرية تتلهف لمعرفة ما قيل ويُقال، سواء كانت الأقوال حسنة طيبة أو عكسها. أما مسألة التجاهل هذه، فإنها تحتاج نفساً راقية وصلبة في الوقت ذاته، لها القدرة على السمو وعدم الانشغال بها أو الحرص على معرفتها، وقليل من الناس من نفوسهم من تلك النوعية.
فما قصة حديث اليوم؟
قصة اليوم حول البعض الذي يعظّم من شأن أحاديث الناس حوله أو في شأن من شؤونه، فتراه يهتم لهذا ويحزن لذاك ويتوتر من تلك، فيظل يراقب وينصت ويسأل هذا وذاك وتلك، وقد تبخر من ذهنه مفهوم أساسي من مفاهيم الإيمان، تعلمه ودرسه منذ نعومة أظفاره في الابتدائية، هو ما جاء في حديث الحبيب – ﷺ – وهو يوصي ابن عمه عبدالله بن عباس في قوله:”.. واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف”.
أي عمل أو قول يصدر منك وعنك لابد وأن تضع رضا الله نصب عينيك لا رضا الناس، وأحسبُ أن هذا من الأمور البدهية التي من المفترض أن أحدنا قد تأسس عليها منذ الصغر. لأن رضا الناس غاية لا تُدرك، ولن ترضي الناس كل الناس. إذ مهما أجدت وأبدعت وأخلصت في أي عمل، ثق أن هناك من سيخرج ويقلل من شأنه ولا يرضى عنه، وبالتالي سيكون سخفاً من العمل أن تهتم وتسعى بكل الطرق لكسب رضاهم، ورضاهم لن يضيف لك شيئاً.. وفي قصة أبي طالب عم الرسول الكريم – ﷺ – مثالاً على ما نقول..
أيْ عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أحاجُّ لك بها عند الله. هكذا كان يحث الرسول الكريم – ﷺ – عمه أبا طالب وهو في سكرات الموت، لينطق الشهادتين من أجل أن يموت مسلماً يختم بها أعماله الجليلة في حق الإسلام والمسلمين. وكان حول أبي طالب حينها عددٌ من كفار قريش، من بينهم زعيم الكفر أبوجهل وهو يقول له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
الرسول يدعوه لنطق الشهادتين كآخر كلماته من الدنيا، وأبوجهل يخوفه من كلام الناس. وهكذا ظل الرسول ﷺ يواصل ويحاول إقناع عمه، فيما أبوجهل يعيد مقولته، حتى انتهى المشهد بقول أبي طالب كآخر ما نطق في دنياه:” على ملة عبد المطلب! أي أنه مات مشركاً.
رغم كل الجهود والأعمال العظيمة التي قام بها أبوطالب مع رسولنا الكريم – ﷺ – لكنه لم يسلم وظل على دين آبائه حتى أسلم الروح، ولم يكن من سبب يدفعه إلى عدم دخول الإسلام، سوى الخشية من ملامة الناس وكلامهم، وخشي أن تقول قريش بأنه جزع وخاف عند موته فأسلم.. فما تنفعه كلمات الناس في آخرته؟ لا شيء.
إن قصة وفاة أبي طالب، هي نموذج واضح يبين لك كيف أن الاهتمام الشديد والمبالغ فيه بكلام الناس دون وجه حق، يمكن أن يؤدي إلى نهايات غير سعيدة. إنني هاهنا لا أقول بتجاهل ما يقوله الناس عنك، ولكن في حدود المعقول وضمن إطار الحق. لا أن أسمع لهم وأهتم بالقيل والقال على حساب ديني وآخرتي.
إنك إن حرصت على إرضاء فلان وعلان، فمن المؤكد أنك ستصل إلى نهايات غير محمودة والى طرق مسدودة، باعتبار أن البشر أمزجة وأهواء، فقد ترضي في عمل لك أو قول، فلاناً من الناس ولكن ثق أنك في الوقت ذاته تخالف آخر، والعكس صحيح كذلك، بل لن تصل إلى نتيجة مرجوة نهاية الأمر. لكن حين تكون غايتك إرضاء الله واتباع الحق، فتأكد أنك ستصل إلى نهايات حميدة وإن خالفت الناس، كل الناس. لإن لم تكن تلك النهايات السعيدة في دنياك، فتأكد أن الله يدخره لآخرتك، وهي الحياة الحقيقية الباقية الخالدة.
حياتنا كبشر، الأصل أنها طبيعية سائرة، وبالفطرة هي كريمة راقية في نفس الوقت، وما الرقي والكرامة إلا متلازمتين لفطرتنا كبشر خلقنا الله بيديه الكريمتين ونفخ فينا من روحه. ولكن مع ذلك نأبى العيش بالمستوى الذي فطرنا الله عليه.
تجد أحدنا من ضمن تفاهات وسخافات الفعل والقول الدنيوية اليومية، التي يقوم بها بقصد أو غالباً بدون قصد، أن يحزن لكلام الناس وقد اعتصره الألم، وارتفع ضغط الدم عنده نتيجة توجيه انتقادات إليه من شخص أو آخر، فيعيش تبعاً لذلك أياماً وليال وهو مشغول البال لا يهدأ، ولا يغمض له جفن. يحاول أن يرد الصاع صاعين أو أكثر إن استطاع، والنقد نقدين، مع ما يصاحب كل ذلك الفعل بالطبع، من توترات وتفاعلات كيميائية بالجسد مؤذية.
إن حياتنا أرقى من أن ننزل بها إلى المستويات الدنيا عبر تلك السخافات والتفاهات من القول أو الفعل. ومن هنا أنصح أن يعيش أحدنا حياته كما أرادها الخالق جل وعلا. نرتقي في فكرنا وتعاملاتنا مع بعضنا البعض. لا نحقد ولا نحسد ولا نبغض ولا نسيء لأحد، وغيرها من تفاهات لا تستحقها أبداً عقولنا وأبداننا، ونجعلها عُرضة أن تقع ضحية لها وتتضرر على المدى القريب أو البعيد.
اقرأ معي ما جاء عن الإمام الشافعي ضمن سياق ” كلام الناس “ :
قال:” ضَحِكتُ فقالوا ألا تحتشم؟ بكيتُ فقالوا ألا تبتسم؟ بسمتُ فقالوا يُرائي بها. عبستُ فقالوا بدا ما كتم! صمتُّ فقالوا كليل اللسان، نطقتُ فقالوا كثير الكلم. حلمتُ فقالوا صنيع الجبان، ولو كان مقتدراً لانتقم. بَسِلتُ فقالوا لطَيشٍ به وما كان مجترئاً لو حكم. يقولون شذ إن قلتُ لا، وإمّعة حين وافقتهم.
فأيقنتُ أني مهما أرد رضى الناس لا بدّ من أن أُُذَم !