يقول الله عز وجل: { كلا إن الإنسان ليطغى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 – 7] أصل الطغيان: التعاظم والكبر ومجاوزة الحد، والسبب: أن الإنسان بمجرد ما يستغني ويكثر ماله وتسبغ عليه نعم الله فإنه يطغى ويتكبر على الله، أولاً صاحب النعمة جل جلاله، ومثال ذلك: فرعون اللئيم عليه لعنة الله، قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51].
وكذلك قارون لما قال له قومه: { لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76]، فأبى أن يقبل النصيحة، وقال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] أي: ليس لله فيه نصيب.
وكذلك الأقرع صاحب بني إسرائيل ثالث الثلاثة قال: (إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر). لا يريد أن يعترف لله بالنعمة.
وكذلك الوليد بن المغيرة الذي كان يريد أن يكون الوحي إليه، فقال: لم يكون محمد نبياً؟ لم لا أكون أنا؟ قال تعالى مخبراً عن الكفار: {وَقَالوُا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31]، أي: كيف يكون محمد نبياً وهو فقير لا مال له، ولم يكن الوليد أو عروة الثقفي نبياً؟! فهذا الإنسان طاغية جبار، قال أهل التفسير في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} [العلق:6] هذا من العام المخصوص، فقد وجد من صنف الإنسان أناس آتاهم الله المال والعلم فما زادهم ذلك إلا تواضعاً، وعلى رأسهم سليمان عليه السلام، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحداً، فعلمه عز وجل منطق الطير، وآتاه من كل شيء، وسخر له الريح، قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص:36 – 37].
يعني: في أيام معدودات يبنون له مسجداً عظيماً، وقال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13] ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام لما أُتي بعرش بلقيس: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40].
كذلك وجد من الصالحين من أصحاب رسول الله ﷺ من هو كذلك، كالقصة التي رواها مالك في الموطأ قال: (شغل صحابي ببستانه فتأخر عن الصلاة يوماً، وكان بستانه قد بلغ حالاً من النمو وكثرة النخيل فيه، حتى إن الطير لم تستطع الطيران في البستان؛ لكثرة الأشجار وتزاحمها، فذهب الرجل إلى رسول الله ﷺ وقال: يا رسول الله! قد شغلت ببستاني عن الصلاة فهو في سبيل الله، اجعله حيث شئت).
فهذا الرجل حاكى وشابه سليمان عليه السلام حين قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32 – 33] فذبحها كلها؛ لئلا تشغله عن ذكر الله.
وأيضاً من الصحابة من كان ماله سبيله إلى الجنة، فهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (جاء بمال كثير إلى الرسول ﷺ في غزوة تبوك، فصبه في حجره، فجعل رسول الله ﷺ يقلبه ويقول: اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، وقال: ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم).
الأصل أن الإنسان إذا استغنى طغى، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6 – 7] نظير ذلك في سورة البقرة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] أي: بسبب أن الله آتاه الملك وأغناه طغى وتكبر.
قال تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:٨]، أي: المآب إلى الله، فهو سبحانه سيحاسب الكل، وأصحاب المال حسابهم أشد، {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ:21 – 22] أي: مرجعاً ومصيراً.