كليات الشرائع في الأديان السماوية واحدة، فمن المستحيل أن يأتي نبي بأصول تخالف من كان قبله، أو يخالفه من جاء بعده.

وقد أكد القرآن والسنة تلك الحقيقية، من ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109].

وفي قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [النحل: 43، 44].

بل كان وصل النبي بغيره من الأنبياء ممن سبقوه من وسائل التثبيت، قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94]

وقد تحدث النبي عن كليات التشريع وأصول الأديان السماوية الواحدة، في الحديث المتفق عليه من حديث أبى هريرة رضي الله عنه، أن النبى – – قال” : أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد”. فقول النبي :” ودينهم واحد” هذا دليل على أن أصول الأديان واحدة.

وهذا المعنى قد أقره به النجاشي  حين هاجر المسلمون إلى الحبشة بتوصية الرسول ، وقد طلب النجاشي من رئيس  الفريق جعفر بن أبي طالب – رضي الله عنه- أن يتكلم، ثم سأله: هل معك شيء مما جاء به نبيكم؟

فقال له جعفر: نعم. قال: فاقرأه علي فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى، ليخرج من مشكاة واحدة. (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (2/ 383)

فانظر كيف بكى النجاشي ليس وحده، بل بكى معه الأساقفة، لأنهم يعلمون أن ما جاء به القرآن هو الذي جاء به عيسى عليه السلام.

والمقصود بالكليات هي أصول الأديان السماوية، والأصول نوعان:

الأصول العقدية

والأصول التشريعية.

ولكنا هنا نركز على الأصول العقدية.

والأصول العقدية التي اتفقت عليها الشرائع ثلاثة، هي: التوحيد، والبعث والنبوات. وقد كتب الإمام الشوكاني فيها كتابا بعنوان: (إرشاد الثقات إلى اتفاق الشرائع على التوحيد والمعاد والنبوات).

الاتفاق على توحيد الله

فرغم كثرة الأنبياء والكتب المنزلة من عند الله تعالى، إلا أن هناك اتفاقا على توحيد الله تعالى، ما جاء نبي ولا نزل كتاب إلا وهو ناطق بتوحيد الله تعالى، مع تلك الكثرة الكاثرة، كما أخرج ابن حيان والبيهقي بسندين حسنين من حديث أبي ذر (أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا وأن الكتب المنزلة مائة وأربعة كتب)، على أنه لم يصلنا من الكتب المائة وأربعة إلا  التوراة والزبور والإنجيل وكتب نبوات أنبياء بني إسرائيل.

إثبات التوحيد في التوراة: ومما جاء في التوراة من إثبات توحيد الله تعالى ما جاء في الفصل العشرين منها من السفر الثاني ولفظه: ” أنا الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكون لك معبود آخر من دوني لا تصنع لك منحوتا ولا شبها لما في السماء من العلو وما في الأرض مثلا وما تحت الأرض لا تسجد لهم ولا تعبدها لأني الله ربك القادر الغيور”.

وفي الفصل السادس والعشرين من السفر الثالث في التوراة ما لفظه: ” ولا تصنعوا لكم أوثانا ومنحوتا ونصبا ولا تصنعوا لكم حجرا من خزف لا تصنعوا في بلدكم لتسجدوا له أنا الله ربكم”. وغير ذلك من النصوص.

التوحيد في كتاب يوشع بن نون: وجاء في كتاب يوشع بن نون عليه السلام ما يثبت توحيد الله تعالى، كما جاء في الفصل الثالث والعشرين من كتاب يوشع بن نون ما لفظه: وإياكم معبوداتهم لا تذكروا ولا تحلفوا ولا تعبدوهم ولا تسجدوا لهم بل الله ربكم وبه تتمسكون كما فعلتم إلى هذا اليوم”. وغير ذلك من النصوص.

التوحيد في الزبور: كما جاءت نصوص في زبور داود عليه السلام تثبت توحيد الله تعالى، من ذلك ما جاء في المزمور السابع عشر ما لفظه: ” كلام الرب مختبر وهو ناصر جميع المتوكلين عليه لأن من الإله غير الرب أو من الإله سوى إلا هنا”.

وفي المزمور الموفى ثمانين ما لفظه: ” ولا يكن فيك إله جديد ولا تسجد لإله غريب؛ لأنني أنا هو الرب إلهك “. وغير ذلك من النصوص.

التوحيد في الإنجيل: وكذلك الشأن في الإنجيل فقد جاء بإثبات التوحيد وذم الوثنية، ومن ذلك ما في الإنجيل الذي جمعه القديس متى في الفصل الخامس والخمسين منه ما لفظه إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه فيما بينك وبينه وحده فإن سمع منك فقد ربحت أخاك وإن لم يسمع منك فخذ من بعد أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة تثبت كل كلمة وإن لم يسمع منهم فقل للبيعة وإن لم يسمع أيضا من البيعة فليكن عندك كوثني وعشار”.

التوحيد في القرآن: أما القرآن فقد أثبت التوحيد في عشرات الآيات، بل ونص على التوحيد في النبوات السابقة، كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 25]، ومن أصرح من ذلك قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]

 البعث في الأديان السماوية

ومن الأصول التي اتفقت عليها الشرائع والأديان البعث يوم النشور، وقد كتب فيها الإمام الشوكاني رسالة بعنوان: (المقالة الفاخرة في بيان اتفاق الشرائع على إثبات الدار الآخرة).

ومما جاء في التوراة في إثبات اليوم الآخر في الفصل السادس والعشرين من كتاب النبي أشعيا ما لفظه يقوم الموات ويستيقظ الذين في القبور”.

وفي وصايا النبي سليمان عليه السلام في الفصل الخامس منها ما لفظه لأن أرجل العبادة تحذر الذين سيعملونها وتحطهم بعد الموت إلى الجحيم.

وفي الإنجيل: ” ومن قال لأخيه يا أحمق فقد وجبت عليه نار جهنم”. وفيه أيضا:” فأما أن الموتى يقومون فقد أنبأ بذلك موسى”.

إثبات النبوات في الأديان

ومما اتفقت عليه الشرائع السماوية إثبات إرسال الله تعالى أنبياءه للبشر من الأقوام الذين ضلوا عن التوحيد، ورغم كثرة الأنبياء من حيث العدد الذين وصل آلافا، إلا أنه لم يحفظ عن نبي من الأنبياء أنه كذب رسالة نبي آخر، بل يصدق بعضهم بعضا، فاللاحق يصدق السابق في رسالته، وهذا موجود في الكتب السماوية جميعا، فكل الأنبياء من لدن آدم إلى موسى عليه السلام يصدق بعضهم بعضا كما جاء في التوراة، وكذلك الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى حتى عيسى عليه السلام كان يصدق بعضهم بعضا.

وفي الإنجيل كان عيسى عليه السلام يرد على علماء اليهود بما جاء في التوراة عن موسى عليه السلام.

التبشير بمن بعده:

ومن ذلك أن كل نبي كان يبشر بالذي بعده، كما جاء في التوراة من تبشير موسى عليه السلام بيوشع بن نون، وفي الزبور صرح بتبشير داود عليه السلام بعيسى، رغم ما بينها من الأنبياء، فبينهما أربعة عشر أبا. كما بشر يحيى بن زكريا عليهما السلام بعيسى ابن مريم عليه السلام رغم أنهما عاشا في عصر واحد.

البشارة بمحمد في التوراة والإنجيل: وقد بشر موسى عليه السلام بمحمد في التوراة،  من ذلك :” قال الله سبحانه لإبراهيم وقد سمعت قولك في إسماعيل وها أنا مبارك فيه وأثمره وأكثره بمأذ مأذ “. قوله بمأذ مأذ هو اسم محمد بالعبرانية.

وجاء في التوراة  أيضا: ” يا الله الذي تجلى نوره من طور سينا وأشرق نوره من جبل سيعير ولوح به من جبل فاران وأتى ربوة القدس بشريعة نور من يمينه لهم”.

وفي هذا النص إشارة إلى الأماكن التي نزلت فيها التوراة ( طور سيناء)، والإنجيل (جبل سيعير)، والقرآن ( جبل فاران، أي جبال مكة).

ومما يؤيد هذه البشارة المذكور في كتاب نبوة النبي شمعون ولفظه:” جاء الله من جبال فاران وامتلأت السموات والأرض من تسبيحه وتسبيح أمته”.

وأصرح منه ما جاء في  في نبوة النبي حبقوق، حيث صرح باسم أحمد، ولفظه :” جاء الله من التيمن وظهر القدس على جبال فاران وامتلأت الأرض من تحميد أحمد وملك يمينه رفات الأمم وأنارت الأرض لنوره وحملت خيله في البحر”.

وهذا ما صدقه القرآن من قول عيسى عليه السلام في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ } [الصف: 6].

الأنبياء في القرآن: ومن يطالع القرآن الكريم يجد ذكرا كثيرا لأنبياء الله تعالى، ذكر منهم صراحة خمسة وعشرين نبيا، فقد سميت سورة في القرآن باسم ( الأنبياء)، وسميت بعض السور بأسمائهم، كما في السور (يونس، ويوسف، وإبراهيم، ومحمد ونوح) ثم في داخل السور ذكر كثير من الأنبياء، ولكن ذكر بعضهم أكثر من بعض، فأكثر الأنبياء ذكرا موسى عليه السلام ثم عيسى ثم إبراهيم ثم آدم)، بل من أجمل ما يجمع الأنبياء في كتاب الله تعالى في القرآن التصديق بجميع الأنبياء وعدم التفريق بينهم، كما في قوله سبحانه وتعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]

الخلاصة

وخلاصة القول: إن أصول العقائد في الأديان واحدة، وما طرأ عليها من تحريف، فهو من فعل الأتباع وليس من فعل الدين، فالقول إن عيسى ابن الله، أو عزير ابن الله هو من البطلان الذي لا ينزل به نبي، ولا يعرف في ملة على التنزيل الصحيح، بل هو من تحريف الكلم عن مواضعه، وما ينبغي أن يختلف الأنبياء في أصول الدين، فكلهم أنبياء الله، وحاشا لله أن تتناقض أصول دينه، ولهذا، وجدنا كثيرا ممن يعتنقون الإسلام من غير أبنائه، لما يرون فيه من النقاء على فطرة النبوة.