لكل غزوة من غزوات النبي ﷺ ملمحها الخاص، ودروسها ومقاصدها التي تتعدى تصفية الحساب مع الكفر وأهله. فَتحْت ظلال السيوف برزت أخطاء قوّمها النبي ﷺ، وظهرت آراء ومواقف سدَّدَها الوحي الإلهي أو نبّه لعواقبها. وخلال المدة التي قضاها الرعيل الأول من المسلمين في كنف النبوة، خرج الصحابي من عباءة الجاهلي ليحمل الرسالة على بينة، ويواصل مد شعاعها إلى باقي أنحاء المعمورة.
على هذا الأساس يمكن أن نعتبر غزوة تبوك بأحداثها ومجرياتها اختبارا للداعية، وساعة العسرة التي امتحنت القلوب والعزائم، سواء من حيث التوقيت، أو من حيث طبيعة العدو وتكاليف الرحلة. ومن يطالع أسباب الغزوة وظروف الإعداد لها يُدرك أن ثمة سعيا أكيدا للغربلة، وتخليص المجتمع الإسلامي من مغبة الاطمئنان إلى الهدوء النسبي الذي يلي سنوات الاحتدام. صحيح أن المجاهد لا يعيبه أن ينال قسطه من الراحة ونصيبه من الدنيا، لكن مادام قد اختار سلعة الله الغالية، فلابد أن يكون “نموذجا” ويرفع سقف التضحية.
إن تسمية غزوة تبوك ب”ساعة العسرة” تحتمل إشارات عدة، يجدر بالمسلم المعاصر أن يستأنس بها في خضم ما يعيشه الإسلام اليوم من تضييق على أهله، وتشكيك في مبادئه وأركانه، وسعي ظاهر أو خفي لتحييده من معترك الحياة.
فهي عسرة في توقيت الخروج الذي تزامن مع نضج ثمار البساتين والزرع في الحقول.
وهي عسرة في تجهيز الجيش، مما وضع أغنياء المسلمين و فقراءهم على السواء أمام امتحان الإنفاق طواعية وحبا لله وللرسول.
وهي عسرة في كسر الحاجز النفسي أمام الدولة البيزنطية التي كان العرب قبل الإسلام يرهبون جانبها، ويخشون الاحتكاك بجيوشها الجرارة.
وهي عسرة في فضح الجبهة الداخلية المنافقة، وإعلان الاصطفاء الحقيقي: إما مع أو ضد الرسالة.
ومن الصحابة الذين امتحنت ساعة العسرة إيمانهم وعزيمتهم: أنصاري يدعى أبا خيثمة، واسمه مالك بن قيس بن ثعلبة. شهد مع النبي ﷺ معركة أحد والمشاهدَ كلها، وتخلف عن الخروج معه يوم تبوك عشرة أيام، ثم لحق به فدعا له بخير.
أما سبب التباطؤ فيخبر عنه سعد بن أبي وقاص رضي الله قائلا: “حتى إذا سار رسول الله ﷺ رجع أبو خيثمة ذات يوم إلى أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وقد بردت له فيها ماء وهيأت له طعاما.
فلما دخل قال: رسول الله ﷺ في الضح والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء، في ماله مقيم .. ما هذا بالنصف.. والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله ﷺ فهيئا لي زادا.”
نعم.. ما هذا بالنصَف ! ولا يليق بمن تربى في مدرسة النبوة لسنوات أن يتنعم، بينما نبيه وقائده ودليله إلى الخير يقطع المفازة في حر شديد لملاقاة أكبر دولة في عصره. إنه المحك الذي يتجدد على الدوام حتى لا ينفصل الخطاب عن الممارسة، ويقع المسلم في شَرَك المقت الذي توعد به الحق سبحانه كل من خالف قوله فعلَه.
كشف الاستعداد للخروج إلى تبوك عن ثلاث فئات من الناس:
فئة صابرة محتسبة، تربت على الاستجابة دون تردد أو إبطاء. فمنهم من خرج، ومنهم من حبسه العذر فرفع الله عنه الحرج !
وفئة المنافقين التي افتُضح أمرها، حتى أن الزُرقاني في (شرح المواهب اللدنية ) يسمي غزوة تبوك بالفاضحة.
ثم فئة تحب الله ورسوله لكن أبطأت بها نياتها، وأجرت قراءة متسرعة أو غير دقيقة للهدف من الغزوة وتوقيته. ثم لا ننسى حجم الشائعات والدسائس التي بثتها الترسانة الإعلامية للمنافقين، والتمثل السائد لدى العرب كافة عن قوة الدولة البيزنطية وبأسها.
انطلق أبو خيثمة ليلحق بالجيش، حتى إذا دنا من رسول الله ﷺ قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله علي وسلم: كن أبا خيثمة، فقالوا: يا رسول الله، هو والله أبو خيثمة !
نعم.. كن أبا خيثمة فكان، لأن القائد الحقيقي من يعرف معادن الجند، ويصطفيهم تبعا لضمائرهم، وحزمهم وصبرهم. وهذا الأمر النبوي في الحقيقة ينبغي أن يمتد أثره إلى المسلم المعاصر، خاصة في هذا الظرف العصيب الذي وقع فيه أغلب الناس فرائس للدنيا بلذاتها وهواجسها، وانشغلوا بنصيبهم منها حتى أنستهم حرث الآخرة !
إنه أمر للراعي المسؤول عن رعيته، فيكون أبا خيثمة في تقديمه للواجب على الحق، وبذل جهده لتصل الحقوق إلى أصحابها، وتجد المظالم آذانا صاغية.
وهو أمر للإعلامي ورجل الشارع، فيكون أبا خيثمة في تبديده للشائعات، وتبيُّن الحقيقة حتى لا يُصيب الوطن بجهالة.
وهو كذلك أمر للتاجر ورجل الأعمال، فيكون أبا خيثمة في حرصه على سلامة البضائع و السلع والخدمات التي يطرحها في أسواق المسلمين.
إن الإسلام يواجه اليوم ما واجهه النبي ﷺ وأصحابه في تبوك: مفازة وقيظ شديد، وقوى عالمية تسعى لأن تُحكم قبضتها على المستضعفين بالإغراء والترهيب. واللبيب من يُجري المقارنة الحصيفة بين ظل بارد وامرأة حسناء، أو تلبية النداء !