في الساعة الثالثة فجرا أنهيت كتابة مقال أنكرت فيه وجود الله، وحين ذهبت لأنام، لم أستطع أن أطفئ النور خوفا مما سيفعله الله بي”، مقولة للفيلسوف والروائي البريطاني “كولين ويلسن” الذي أكد أن “التاريخ علّمنا أنّ الذكاء ليس ضمانةً للخير”، كذلك الذكاء ليس ضمانة للهداية، أو معيارا للفضائل والقيم، لذا كان علماء الأخلاق المسلمون ينتابهم قلق ألا يجد الإنسان إلا نفسه ملاذا للعبادة، فقالوا: ” العبادة قدر على العباد حتى من لا يدري فهو يعبد حيرته.
التنوير والفراغ
مع التنوير الأوروبي أصبح بين تلك المجتمعات وبين الدين والعقائد الدينية بونا شاسعا، وأمام ذلك الفراغ أخذ الإنسان يبحث عما يُسد جوعه الاعتقادي، فكانت ذاته هي البديل، فآمن بنفسه، وأعاد موضعه مقولة الفيلسوف الإغريقي “سقراط”: “اعرف نفسك” كاعتقاد وليس اكتشافا للنفس والذات الإنسانية وموقعها في الكون، ففي القرن السادس عشر سعى الفيلسوف الفرنسي “ميشيل دي مونتين” لتأسيس الأخلاق العلمانية على تلك المقولة السقراطية، وأثر في كبار فلاسفة عصر النهضة مثل “فرنسيس بيكون” و”ديكارت” و”مونتسيكيو” و”روسو”، فأصبح الإنسان هو معيار الخير والشر، فيقول ” دي مونتين”: “يعتمد مذاق الخير والشر إلى حد كبير على الرأي الذي لدينا عنهم”، ومع القرن السابع عشر جاء المفكر الإنجليزي “توماس هوبز بمقولته:” اقرأ نفسك”، وتكرر الحديث عن اكتشاف الذات ومعرفتها عند غالبية فلاسفة عصر النهضة، وأدبائها .
لم تكن معرفة النفس والذات سبيلا للوصول إلى الخالق سبحانه وتعالى، وإنما كانت سبيلا للافلات من معرفته وعبادته، وكما ذكر الفيلسوف “نيتشه”: “لقد خرج الله من الكون، ولا بد أن يسعى الإنسان، بكفاحه، وخياله لأن يملأ مكانه”، كان إيمان الإنسان بنفسه تحطيما عنيفا لعلاقات متعددة من بينها العلاقة بينه وبين ربه، فلم تعد السماء مصدرا للقيم والأخلاق، كما كان تدميرا للعلاقة بين الإنسان وبين الكون والطبيعة، فتحولت العلاقة من الانسجام والتناغم إلى محاولات الاخضاع السيطرة والاستنزاف، وتردى الإنسان في الحيرة والقلق الوجودي الذي تلاطمت أمواجه خلال القرون الماضية، فتغير شكل “الوثن” من الحجر إلى الإنسان نفسه.
في كتابه “عصر علماني” A Secular Age يرصد الفليسوف الكندي ” تشارلز تايلور” Charles Taylor ثلاثة عناصر كانت تدفع الناس، قبل خمسة قرون، إلى الإيمان، فغالبية الناس كانت تسيطر عليهم رؤية أن الكون يحظى ومحكوم بعناية إلهية، وأن الممالك تستمد شرعيتها من الدين، وأن الإيمان بوجود إله، سينصر الخير في النهاية، كان الإلحاد في تلك القرون خطا أحمر للجميع، فقد كان الدين مرتبطا بالدولة والمجتمع، وحسب “تايلور” كان الدين حاضرا في كل مكان، لكن مع اخترع معنى جديد للذات، ثم إعادة موضعتها في الكون، ظهر ما أسماه بـ “الأنا العازلة” the buffered self والتي كانت قادرة على اتخاذ مسافة من أيّ شيء يوجد خارج الذهن، ومتسيدة على الطبيعة، وتستمدّ أصالتها من نفسها، ومولعة بفرديتها، وأصبح العالم أمام استحداث مركزية الإنسان، التي غيبت فكرة الإله.
السوبر مان
جاء ظهور الكتابات عن الإنسان الخارق القادر على إخضاع كل شيء، كنتاج لإيمان الإنسان بذاته، فكتب “نيتشه” عن “أوبرمانش” Übermensch في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” متحدثا عن موت الإله، وأن البشرية أصبحت أمام إله جديد هو ذاتها، وتسللت فكرة الإنسان الخارق عبر الأدب والفن بحمولاتها الفلسفية إلى وجدان الناس، معلنة انتهاء عصر الإله وبداية عصر الإنسان، فظهر روايات وأفلام “سوبر مان” و”بات مان”، كانت فكرة الإنسان الخارق تنهل قوتها من الروح المادية، وترى الكمال في القوة والسيطرة والقدرة على الإخضاع، وترى البطولة في القوة حتى وإن تجردت من كل أخلاق وقيم، وهو ما مهد لظهور النازية والفاشية والشيوعية.
ومع “السوبر مان” أصبحت الحياة معاناة بدون معنى، بعدما تحملت الذات الإنسان مهمة صناعة قيمها الخاصة بنفسها، فأخذت القيم تنزع نحو الوثنية بعدما امتلأ عقل ذلك الإنسان بأنه هو الذي يقرر الخير والشر، والصواب والخطأ، لكن “السوبرمان”–حسبما تناوله الأدب والفن- كان شخصا معزولا، كرس حياته للأرض بعدما انقطع عن السماء، ويرى أن خلاص البشرية في البشرية ذاتها، كانت تلك الأفكار إحياء للفلسفة الرواقية اليونانية القديمة، الرافضة لأن تكون مهمة الفلسفة التأمل في السماء والأرض.
وحسب الفيلسوف البريطاني “جون جراي” John N. Gray كانت “الإنسانية هي إله الإلحاد الحديث”، ففي كتابه “سبعة أنواع من الإلحاد” Seven Types of Atheism يرى أن الإنسانيين كان معظمهم ملحدين، لأنهم استبدلوا الله بالإنسانية، وبالتالي صاروا مستعبدين للعقيدة الدينية ذاتها التي يرفضونها، وأنه ليس في تلك العبادة ما يهز العقول، وربما هذا ما دفع الكاتب الأمريكي الشهير “نوح بيرلاتسكي” Noah Berlatsky ليتساءل:” عندما يمتلك البشر قوى خارقة، فما فائدة الآلهة؟” منبها للدوافع التي تتخفى وراء التمادي في إنتاج أفلام “السوبر مان” وبات مان” ورأى أن هؤلاء الأبطال الخارقين، لا يتركون مساحة للعبادة، وأنهم تحولوا إلى أساطير أنتجتها الحداثة على غرار “الميثولوجيا الاغريقية.
لكن الإيمان بالذات الإنسانية أنتج أضراره في الحضارة الحديثة، وحسب عالم النفس “فيليب كوشمان” Philip Cushman فقد ظهرت “الذات الفارغة” the Empty Self ، والتي كانت نتاجا لما جرى أواخر القرن التاسع عشر، بعدما تم التركيز على تنمية الشخصية العلمانية ومكافحة الشخصية الدينية، فنتج عنه ذات فارغة، بتجليات متنوعة، منها السعي لتحقيق الفردية، الاكتفاء بنفسها، وفقدان المعنى، والعزلة، واهتزاز القيم كل ذلك الاضطراب، كان يعوضه الإنسان بالنزعة الاستهلاكية، وتغيير نمط الحياة الذي أصبح قلقا ينعدم فيه اليقين.
وفي الحالة الإسلامية، كانت معرفة النفس هي السبيل للوصول إلى الخالق سبحانه وتعالى، فمقام الإنسانية يستحضر بالضرورة مقام الألوهية، حتى إن بعض الأفكار التي ظهرت في التاريخ الإسلامي عن “المهدي المنتظر” كانت تبشر بإنسان يقيم العدل وفق ما ترتضيه السماء، إنسان رافض للظلم والجور، ويستمد قيمه وهدايته من السماء، وكان معيار بطولته هو “أن يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا.
وقد تحدث الصوفيون عن الإنسان الكامل حديثا مهما، وألف عبد الكريم الجيلاني” كتابا أسماه “الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل” وهو الإنسان الذي يرتقي بنفسه للوصول إلى ربه، وهو الإنسان الي مُنح القدرة أن يرى الحق، وهو الأقرب في عبادته، لأن الكمال الإنساني مرتبط بالكمال الروحي، ولعلنا نعيد هنا العتاب القرآني على الإنسان في قوله تعالى :” يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ”(1).
(1)- سورة الانفطار: الآية:65>