منذ بعثة النبي ﷺ والمسلمون يبدعون تعبيرات شتى لتأكيد تلك المحبة، مستعينين في ذلك بما توفره البيئة من إمكانات، وما تلهمه المخيلة من أفكار ورؤى ومبادرات. ذلك أن محبته هي من لوازم الإقرار بنبوته ورسالته، سواء كانت عاطفية تنبع من مطالعة سيرته وشمائله، أو عقلية تُؤثر أمره ونهيه على اتباع الهوى.
في حوار ملؤه الصدق والعفوية، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه للنبي ﷺ: ” يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.
فيجيب النبي: لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فيرد عمر: فإنك الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي.
فيقول النبي: الآن يا عمر.” أي الآن كمل إيمانك يا عمر!
جرى هذا المشهد في حياة النبي ﷺ. وهو من ضمن مئات المشاهد التي نقلتها كتب الحديث والسيرة النبوية، تبيانا لشدة تعلق الصحابة بالصادق الأمين الذي كان سببا في إخراجهم من ظلمات الشرك والجهل إلى نور التوحيد والعلم السديد. مشاهد عرضت تجليات لبذل النفس والأهل والمال، والدفاع عنه ورد مزاعم المشركين، والحرص على النقل الأمين لأقواله وأفعاله وأحواله.
كان أحدهم يجد ريح الجنة وهو في ساحة القتال، فيقبل على الموت إقبالَ أحدنا على الحياة. ويسعى آخر إلى أهله فيحمل جل ماله أو كله لتجهيز جيش أو حفر بئر. ويأبى ثالث، وهو مقبل على الموت مصلوبا، أن يفديه النبي ﷺ ولو بشوكة يشاكها في قدمه. وما من صحابي إلا وله قصة مع النبي ﷺ يكتنفها الحب العميق، ويشرق فيها القلب بنور الإيمان والطاعة لله ورسوله. غير أن ما تكشفه بعض مرويات السيرة هو أمر يتعدى الطاعة والواجب، فالواجب، يقول خالد محمد خالد، قد يؤدى على كره ومضض، أما الحب فيأخذ طريقه إلى أشق الأمور في ابتهاج وغبطة.(1)
من أبهى صور محبة النبيﷺ ما جرى على لسان الصحابي الجليل سعد بن الربيع رضي الله عنه وهو يفارق الحياة يوم أحد. ففي المستدرك من حديث خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال:” بعثني رسول الله ﷺ يوم أحد لطلب سعد بن الربيع، وقال لي:” إن رأيته أقرئه مني السلام، وقل له: يقول لك رسول الله كيف تجدك؟”
قال:” فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة، ما بين طعنة برمح وضربة بسيف ورمية بسهم، فقلت: يا سعد إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام، ويقول لك:” خبرني كيف تجدك؟”
قال: على رسول الله السلام، وعليك السلام، قل له: يا رسول الله، أجدني أجد ريح الجنة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى رسول الله ﷺ وفيكم شفر يطرف. قال: وفاضت نفسه رحمه الله!
إن ساحة القتال من منظور عسكري تستوعب في الغالب صدى التجاوب بين أوامر القائد وامتثال الجندي، أما ما أبداه سعد في أنفاسه الأخيرة من حرص على النبي ﷺ فهي المحبة العميقة التي يعز مثلها في سجل الملاحم و البطولات التاريخية. هاهنا جسد مثخن بعشرات الجراح بينما النفس ينتابها خوف على الحبيب أن يمسه أذى، أو يغفل القوم عن حراسته.
لقد عاين الصحابة كيف هز النبي ﷺ الإنسانية من سبات عميق، وكيف كان الحب سبيله لتأليف قلوب متنافرة، وإعلان ميلاد إنسان جديد يدرك سر وجوده ومصيره، فبادلوه نفس الحب الذي لا يخالطه غرض أو شهوة، وإنما هو سخاء نفس وفطرة تسمو بالإنسان الذي بلغ قبل البعثة المحمدية حضيض الذل والهوان.
إن كانت هذه بعض صور محبة أصحابه، فكيف هي في زمن إخوانه الذين آمنوا به ولم يروه؟
إن المحبة العميقة التي أبدتها الجماعة المسلمة الأولى لم تمس في شيء صدق العقيدة واستقامتها، لأن التوجيه النبوي كان واضحا وصارما :” لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله. أي أن شرط محبته الأساسي ألا نُخرجه عن حدود بشريته، أو نضفي عليه صفات تقديس وألوهية. طبعا لم يسلم الأمر من الوقوع في المحظور، إما من خلال ما جادت به قرائح الشعراء في مدحه، أو عبر ما تناقله عُباد جهلة في التوسل إليه.
يقتضي العقل السليم بداية أن نعرف من نحب، وأن نتشرب سيرته وأخباره لنُلمّ بأبعاد شخصيته وتصرفاته في مواقف الحياة المختلفة. لذا كانت دراسة السيرة النبوية لبنة أولى في تنشئة المسلم على حب الله ورسوله، يستلهم منها البيان العملي لرسالة الإسلام، ويتأسى بتصرفات النبي ﷺ شكلا ومضمونا وترتيبا زمنيا كذلك (2).
ولعل البُعد التربوي في السيرة النبوية هو أهم جانب ينبغي أن يُعنى به المسلم المعاصر، ويتجه إليه بكل كيانه. كيف لا وقد هيمن على ثلاث عشرة سنة من عمر الدعوة في مكة، وكان منهجا حيويا لإعادة صهر الإنسان العربي، وصياغة شخصيته بما يتناسب مع مكانته في عالم الموجودات !
أن نحب النبي ﷺ يعني أن تشكل توجيهاته منطلقات تربوية في بناء الفرد، وأن يكون قدوة داخل كل بيت مسلم. وهذا يتطلب قراءة فاحصة للسيرة النبوية، تستجلي مواطن العظمة في كل تصرفاته. وسر ذلك كما يرى الشيخ محمد الغزالي، أن من دواعي الحب انبهار النفس الإنسانية بالعظمة والعظماء، وإقبالها عليهم والتنويه بآثارهم. فكم من عظيم لم نر شخصه لكن أبصارنا تعلقت بمواهبه الجليلة وامتيازه الرائع، ففعلت صورته الباطنة بنا ما تفعله صور الجمال الحسي بألباب العشاق(3).
والحال اليوم أن الساحة تزخر بمئات الإنتاجات المستلهمة من السيرة النبوية، سواء كانت كتبا وقصصا، أو أناشيد ومقطوعات غنائية، أو إنتاجات درامية. إلا أن أغلبها يخدم ما يسميه الأستاذ محمد قطب بالحب السلبي الذي لا صدى له في واقع الحياة، حيث تعاني صورة النبي ﷺ من عزلة وجدانية عميقة. نعم، هو روح سارية في حنايا القلب، لكنها غير متحركة في واقعنا اليومي بأفكارها ومشاعرها، وتنظيماتها وتوجيهاتها. و السبب يعود إلى هيمنة الأفكار الغريبة عن الحياة، واضطراب حلقات المجتمع بفعل التبعية.
ومن لوازم محبته ﷺ أن تسمو الأخوة الإيمانية فوق كل رابطة أخرى، وأن يستشعر المسلم دوره الحيوي في توثيق العرى والأواصر، خاصة حين تعصف بالمجتمع دواعي التفرقة والعصبية. ومما يحز في النفس أن يصير مجتمع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار حلبة للتفاخر بالأنساب والألوان والأعراق، في حين أن نبي الأمة صلى الله عليه ويلم أعلنها صريحة قبل خمسة عشر قرنا:” إن الله أذهب عنكم عُبية الجاهلية وفخرها بالآباء. إنما هو مؤمن تقي وفاجر شقي. الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب.”- أخرجه الترمذي(3955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وتقتضي محبته ﷺ أن يكون لحياة المسلم هدف ولوجوده معنى. فهذه الدنيا غراس للآخرة، ولا تتحقق فيها ثمرة إلا بعمل. وكم كان حريصا ﷺ على بعث مئات الرسائل ل” إخوانه “، تحدد قواعد السير المتوازن في” الأرض”، وترشد إلى النهج الأمثل لابتغاء الآخرة دون أن ينسى أحدنا نصيبه من الدنيا. فأحاديث من قبيل ” إنما الأعمال بالنيات…”، و” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”، و” إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه” لهي حلقات لو انتظمت حياة المسلم لما تسربت إلى نفسه دعاوى العبثية والإباحية، وهدر العمر في الاستمتاع واللهو المفرط الذي يُجرد كينونته من كل قيمة.
تثمر محبته ﷺ حلاوة الإيمان حتى يصير هوى النفس هو التأسي به قولا وفعلا وحالا. وهذي كتب السلف تزخر بألوان من تحمل المشاق في الدين، ونصرة الشريعة، والدفاع عن الحق في حضرة الجور والطغيان. كل ذلك تأكيدا على محبته، وتعبيرا عن صدق اتباعه. وكم هي جليلة تلك العبارة التي هز بها أنس بن النضر رضي الله عنه أفئدة الصحابة لما شاع خبر مقتل النبي ﷺ يوم أحد، فألقوا من هول الخبر سيوفهم: ” فماذا تصنعون بالحياة بعده، قوموا فموتوا على ما مات عليه!”.