من يوم تتصفح فيه جريدة أو موقعا إخباريا إلا وتشعر بأن قيام الساعة بعد ساعة!
كل يوم تتسع فيه رقعة الأخبار السيئة، والظواهر التي لا يصدق عاقل أنها وليدة عقل بشري. لذا من الطبيعي أن تكبر المخاوف، ويشعر الإنسان بضرورة أن يحمي نفسه، ومن يحبهم بطبيعة الحال، من الآفات التي تنخر كيانه، واستقراره، وتهدد حياته ومستقبله.
إن الحرب على القيم هي أشد الحروب ضراوة وخطورة. تقف الدول أمامها عاجزة، لأن ترسانة الأسلحة لا تُجدي، والخطط والاستراتيجيات لا تنفع. هكذا يصبح الجميع في مرمى قذائف مروعة، تقتل إنسانية الإنسان وسعادته وأحلامه، فيسير على الأرض جسدا بلا روح، وكومة من اللحم والشحم، تتدحرج في الطبيعة دون فارق بينها وبين سواها من ذوات الأربع.
أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض، ;كما يقول الشاعر. غير أن هذه الأكباد بحاجة اليوم لأن نحرسها من رياح عاصفة توشك أن تقتلعها. ونحمي براءتها وطمأنينتها من دعاوى التفسخ والانحلال، وفقدان المعنى.
كل أسرة تطرح اليوم هذا التساؤل الحاد: كيف نربي أبناءنا في عالم متقلب ومخيف؟
كيف نضمن لهم تنشئة سوية، في عالم يتدخل فيه الجميع للتضييق على الأسرة، وسلبها حقوق التنشئة والتوجيه والرعاية؟
إن الأمر بحاجة إلى مراجعة فورية لبعض الأفكار والتمثلات التربوية التي لا تناسب الوضع الراهن؛ فما يهددنا اليوم ليس مجرد ظاهرة أو صيحة عابرة، بل هي منظومة متكاملة من القناعات والأفكار، وقواعد العيش التي تؤثر في صغارنا، وتحرضهم على التحرر من أي التزام.
عادة ما يتم الحديث عن غرس القيم، لكن الغرس بحاجة إلى تربة ملائمة ورعاية دائمة. والتربة المقصودة هنا هي الإيمان. بدون شيء يؤمن به يعجز الطفل عن السير المتوازن في حياته؛ لذا لابد أن نربي صغارنا على الإيمان، ونثير في نفوسهم المعاني الدينية الصحيحة قبل أن ندعوهم للتعبير عنها بواسطة العبادة.
إن الطفل الذي يتدرب على محبة الله تعالى والتعلق به، والتشبع بأسمائه الحسنى ومعانيها، لن يجد صعوبة في أداء الفرائض. وللأسف فإن بعض الآباء يعتقدون أن أداء الطفل للصلاة مثلا، مقرون بتخويفه بجهنم، أو ترغيبه بالجنة ونعيمها. بينما لو تحدثنا عن محبة لله للعبد الذي يصلي، وكيف أن الله تعالى يحفظه ويقويه ويعينه في أموره كلها، فإننا بلا شك سنغرس في كيانه صلة عجيبة وغير منقطعة بالله تعالى. يذكر محمد إقبال، فيلسوف باكستان وشاعرها، أن والده كان يوجه له النصيحة الآتية: “يا بني، اقرأ القرآن كأنما أنزل عليك!”
عديد من الآباء يصحبون أبناءهم إلى حِلَق تحفيظ القرآن، ليتعلموا التلاوة والتجويد والحفظ. وغالبا ما يكون الطموح مرتبطا بالتنافس في المسابقات، أو إرضاء الوالدين فقط وتلبية رغبتهما. بينما علاقة الطفل بالقرآن يجب أن تكون أعمق من ذلك بكثير.
ينبغي تعليمه أن هذا القرآن كلام الله، بمعنى أن الله يكلمك، ويريد أن يخبرك أشياء كثيرة ستسعدك في حياتك، وترسم لك الطريق نحو النجاح والفلاح، وتبين لك العوائق والمخاطر. إنه دليل للنجاح وليس مجرد ترانيم لنيل الثواب.
هذا الأسلوب العملي سيدفع الطفل إلى الجمع بين التلاوة والفهم، وتحقيق التدبر الذي يفتح عقله وقلبه، ويرشده إلى الصواب في أقواله وأفعاله. هكذا يكلم الله في صلاته ويكلمه الله في تلاوته، فتنشأ بين الاثنين علاقة متينة، تقف سدا منيعا أمام رياح التغريب والعلمنة، والتيه الأخلاقي المريع.
النقطة الثالثة تتعلق برضا الوالدين. تلك القيمة التي تحولت في واقعنا اليومي إلى ضغط نفسي على الأبناء. إن استماع الطفل لتوجيهات الوالدين والتجاوب معها هو بلا شك سلوك جيد، باعتبار أن الوالدين هم أقربهم نفعا ومحبة. لكن هذا لا يعني إلغاء شخصية الطفل، وإجباره على إرضاء رغبات أو قناعات لا يتقبلها.
وفي واقعنا اليومي نعاين مشكلات أسرية عديدة، سببها إصرار الوالدين على أن يتبنى الطفل اختيارات لا يرضاها في التعلم، والعمل، واختيار شريك الحياة، وبناء مستقبله؛ مع ما يترتب عن ذلك من صراع داخلي، ومشكلات نفسية، وردود أفعال تنغص الحياة. فما يكون مفروضا يسبب التعاسة لأن الأمر خارج عن الإرادة، أما ما يتم اختياره بملء الإرادة، فإن صعوباته وتحدياته تشحن الروح بطاقة عجيبة.
تتزايد الظواهر السلبية في حياتنا. ومعها تزداد المخاوف حول قدرتنا على الاحتفاظ بالطفل بعيدا عنها. وكيف نفعل ذلك والمخاطر تقتحم هواتفهم وحواسيبهم، بل حتى كراساتهم التعليمية التي باتت رهينة النزعة الاستهلاكية. وعبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي تتناسل عشرات الأسئلة بشأن الحلول التربوية المناسبة.
إن الحل في أيدينا وداخل بيوتنا..
إنه يكمن في الاهتمام بتغذية الروح كما نغذي الجسد. وإرواء القلب بمعاني الإيمان والمحبة، وغرس مبادئ سليمة حول علاقة أطفالنا بما حولهم ومن حولهم.
علاقة بالخالق سبحانه، تقوم على المحبة والاعتزاز، والسعي الدؤوب لنيل الرضى.
وعلاقة بالإنسان تقوم على المودة والسلم، وتقدير المسافة بينه وبين الآخر ليكون التعامل مبنيا على احترام متبادل، وتبادل للأفكار لا للقيم أو القناعات!
وعلاقة بالحيوان تقوم على العطف والرفق لا على الهوس..
وعلاقة بالكون تقوم على تسخيره لا على إتلافه.
هكذا نحفظ أبناءنا من عوامل التلاشي، ونستكمل رسالة العمران في الأرض؛ عمران لن يحققه سوى الإنسان المتوازن روحا وجسدا.