أُعلِن فوز الأديب التنزاني اليمني الأصل عبد الرزاق قُرنح بـ”جائزة نوبل” للآداب لسنة 2021؛ فكان خبر فوزه حديثَ العالم لما تمثله جائزة نوبل من قمة في التتويج الأدبي لأي روائي في العالم. وهو ما يتيح فرصة مناسبة لفتح ملف تكريم الأدباء في تراثنا العربي الإسلامي؛ حيث نجد أن التقدير الأدبي لكبار الأدباء والشعراء كان حاضرا فيه حضورا لا يقل صداه وأثره المادي والمعنوي عن “نوبل” وغيرها من الجوائز العالمية!
ويبرهن ذلك على أن تقليد الجوائز الأدبية لم يكن بدعة محدَثة بالأروقة الثقافية في القرن العشرين، بل إننا نستطيع القول إنه منذ عرف العرب الشعر عرفوا الجوائز، وكلما ارتقت الحواضر الإسلامية ترسخت فيها تقاليد هذه الجوائز وضُبِطت أعرافها وقواعد التنافسية، حتى وصل الأمر بأن جُعل الفقهاء والقضاة الشرعيون حكّاما مرجِّحين لتميز أديب عن أديب!
فقبل نمط جوائز الأدب المعروفة عالميا مثل نوبل وغونكور والبوليتز، ومرورا بمختلف الجوائز العربية للرواية و”إمارة الشعر”؛ كانت فكرة المنافسات الأدبية (شعرا ونثرا خطابيا) وجوائزها أسلوبا تزخر به أسواق العرب الكبرى في الجاهلية -التي كانت تضاهي المهرجانات الأدبية في زماننا- مثل أسواق عُكاظ ومَجَنَّة وذي المَجاز، ومع شروق شمس الإسلام ازدادت تلك الظاهرة قوةً واستحكاما.
وبذلك اتسعت رقعة الآداب وازدحم السوق بأهل القلم وصنّاع الكلمة؛ فلا نندهش لما يثبته إمام مؤرخ نبيهٌ وثقةٌ من أن أحد عظماء الوزراء “مُدّاحه كانوا خمسة آلاف شاعر وزيادة، ومُدِح بثلاثمئة ألف قصيدة”!! ويكاد ينعدم وجود رقعة جغرافية -خارج العالم الإسلامي- يمكن أن يوجد فيها مثل هذا العدد الضخم من الأدباء على نحو ما توافر لحضارتنا في تلك الأيام!
بل إننا لا نستبعد أن تكون الجوائز الأدبية المعاصرة إحدى المؤثرات الحضارية التي انتقلت إلى الأوروبيين من العالم الإسلامي، ضمن مؤثرات أدبية كثيرة سلكت إليهم طريقها من بوابات الأندلس وصقلية وعبر الاحتكاك أثناء الحروب الصليبية، شأنها في ذلك شأن “ضروب الأوزان والقوافي في الشعر العربي (التي) كان لها بالغ الأثر في نشأة القافية في الشعر الأوروبي”؛ كما يقول مؤرخ الحضارات الأميركي ويل ديورانت (ت 1402هـ/1981م) في ‘قصة الحضارة‘.
ونحن إذْ نستعرض هذا الملمح الفريد من تاريخنا الأدبي في أجواء تغمر فيها السوحَ الثقافية العالمية والعربية ظلالُ جوائز الأدب والإبداع المستقطبة للأدباء كتابا وشعراء، ولاسيما مع حلول مناسبة “اليوم العالمي للرواية العربية” (12 أكتوبر/تشرين الأول سنويا) و”لأسبوع الدولي للرواية” (13-20 أكتوبر/تشرين الأول سنويا)؛ فإننا بذلك نلقي الضوء على الجذور التاريخية في حياتنا الثقافية لهذه الظاهرة الأدبية العالمية، وما قدمته تجربتنا للعالم من خبرة سبّاقة وأصيلة.
فتاريخ الجوائز الأدبية العربية هو ما نلتقيكم اليوم على بساطه في هذا المقال، عبر جولة في المعطيات والمعلومات نصحب أثناءها أدباء العرب وهم يختبرون حظوظ نصوصهم لكسب الرهان، في منافسات يبدو ـمن معطياتها الأدبية وآلياتها الفنيةـ أنها كانت أبرز وجوه صرف ميزانيات الثقافة في أوساط العديد من دول الحضارة العربية والإسلامية ومجتمعاتها عبر القرون.
جذور عريقة
كانت العرب -في جاهليتها- تَعُدّ نبوغ شاعر مُجيد أو تألق خطيب مفوَّه في إحدى قبائلها حدثا قوميا بامتياز تقام له الأفراح وتُتناقل أخباره بين العرب، باعتباره ذخرا نادرا لقبيلته في سلمها وحربها؛ فقد “كانت الشعراء والخطباء عُدَّةً (= سلاحا) للقبائل كالرجال والأموال، بل كان الانتفاع بمكانهم والدفاع بألسنتهم أتمَّ وأكمل”؛ طبقا لأبي علي المرزوقي (ت 421هـ/1031م) في ‘شرح ديوان الحماسة‘.
ولذا يقول ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ/1065م) -في كتابه ‘العمدة‘- مبينا مكانة الشعراء عند العرب: “كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعر أتت القبائل فهنّأتها، وصنعت الأطعمة واجتمع النساء يلعبن بالمزاهر (= آلات الموسيقى) كما يصنعون في الأعراس، ويتباشر الرجال والولدان؛ لأنه (= الشعر) حماية لأعراضهم، وذبٌّ عن أحسابهم، وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم! وكانوا لا يهنِّئون إلا بغلام يولَد، أو شاعر ينبغ فيهم، أو فرس تُنْتج”!!
ولكل تلك المعاني الرفيعة التي نظر بها العرب إلى الشعر والشعراء، عدّوه سلاحا فتاكاً ومجدا قبليا عالي القيمة؛ فكانوا يرتفعون به غالبا عن المكافأة بالمال وما يرتبط بها أحيانا من تكسُّب وتملُّق. ووفقا لابن رشيق أيضا؛ فإنه “كانت العرب لا تتكسب بالشعر، وإنما يصنع أحدُهم ما يصنعه [منه] فكاهةً أو مكافأةً عن يد (= معروف/نعمة) لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر إعظاما لها”!! ولذا “كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عارا، فضلا عن العامة وأطراف الناس”!!
ومع قيام الدولة الإسلامية وضبطها الكامل -لأول مرة- الفضاءَ الجغرافي العربي تحت لواء سلطة مركزية موَّحدة؛ تغيرت وظيفة الشاعر -إلى حد كبير- فانتقلت من الدفاع عن القبيلة والاعتزاز بالانتساب إليها إلى المنافحة عن العقيدة وارتباط اسمه بها، وصار ذلك أحدَ معايير الفرز بين الشعراء أثناء الصراع مع القوى العربية المناهضة لرسالة الإسلام.
وهو ما يشهد له تصدُّر عدد من شعراء المسلمين للسجال مع مناوئيهم من قريش، ولم يَرضَ النبي ﷺ عن المشارَكات المقدَّمة فيه حتى جاء حسان بن ثابت (54هـ/673م) بشعره؛ فقد قالت أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/678م): “سمعت رسول الله ﷺ يقول: هجاهم حسّان فشَفَى واشْتفى”؛ (صحيح مسلم).
وهكذا إذن “فُضِّلَ حَسَّان [بن ثابت] عَلَى الشُّعَرَاءِ بِثَلاثٍ: كَانَ شَاعِرَ الأَنْصَارِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَشَاعِرَ النبي ﷺ فِي [أَيَّامِ] النُّبُوَّةِ، وَشَاعِرَ الْيَمَنِ كُلِّهَا فِي الإِسْلامِ”؛ طبقا للحافظ ابن عبد البر القرطبي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘الاستيعاب‘.
ويتواصل في عهد الخلفاء الراشدين ذلك الاهتمام بدور الشعراء في المجال العام داخل فضاء الدولة الإسلامية الذي أرساه العهد النبوي؛ إذ يورد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1449م) -في ‘الإصابة في تمييز الصحابة‘- أنه “كتب [الخليفة] عمر (الفاروق ت 23هـ/645م) إلى المغيرة بن شعبة (ت 50هـ/671م) وهو [واليه] على الكوفة: أن استنشد مَنْ قِبَلَكَ من الشعراء عما قالوه في الإسلام”!
وكانت نتيجة هذه المسابقة الأدبية “الرسمية” فوز الصحابي الشاعر لَبِيد بن ربيعة (ت 41هـ/661م) بجائزة نقدية تمثلت في زيادة راتبه الحكومي خمسمئة درهم، فصار “عَطَاءُ لَبِيدٍ.. أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمئة” تبعا لنتائج ذلك الاختبار الشعري.
رعاية فائقة
وتكشف لنا المعطيات التاريخية أن هذا البعد -الخاص بإشراف حكام الإسلام على المسابقات تنظيما لفعالياتها وتكريما لشخصياتها- شرع في التحول إلى فعاليات تتم داخل مقر الخلافة وفي غيره من مراكز الثقافة العربية، وبما يعكس توظيف التنافس بأنواع وصيغ متعددة الأشكال والأهداف والجوائز، بحسب كل عصر وقضاياه ومكافآته.
وقد أدى ذلك التنافس -وخاصة منذ عصر تعدد الدويلات المستقلة بدءا من مطلع القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي- إلى بروز طبقة من الحكّام عُرفوا بأنهم كانوا “رُعاة الأدب والأدباء”، سواء لأسباب موضوعية تتعلق بشغفهم بالآداب وازدهارها في دولهم، أو لدوافع سياسية ترمي إلى حشد الطاقات الدعائية للشعراء بوصفهم وسائل إعلام تلك العصور.
واشتهر كثير من هؤلاء الرعاة -ممن أوردنا ذكر بعضهم في هذا المقال- في مدونات التاريخ والتراجم، التي كثيرا ما تطالعنا بأوصاف لهم من قبيل أن أحدهم كان “يخلع على الشعراء ويغنيهم”، أو “كان يُفْضِلُ على الأدباء والعلماء”، أو كان “يحب العلماء والفضلاء والشعراء وأهل الأدب ويجيزهم بالجوائز الكثيرة”!!
ووصل بعضهم إلى درجة عظيمة من العناية بالشعراء والأدباء فازدحموا بأعداد وافرة في بلاطاتهم، حتى إن الوزير البويهي العالِم الصاحب ابن عَبّاد (ت 385هـ/995م) كان يقول حسبما نقله ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘: “مُدِحْتُ.. بمئة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية، وقد أنفقتُ أموالي على الشعراء والأدباء”!!
وفي القرن الخامس الهجري/الـ10م ازدادت أعداد الشعراء بأرقام مهولة -حتى في البلد الواحد- لما نالته من اهتمام رسمي، وهو ما يؤشر لحجم المنافسة الضخم بين هذه الآلاف المتعددة من الشعراء؛ إذْ يحدثنا المؤرخ الأديب ابن أيْبَك الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في ‘الوافي بالوفيات‘- عن أن الوزير السلجوقي العظيم نِظام المُلك (ت 485هـ/1092م) كان “مُمَدَّحاً فيقال إن مُدّاحه كانوا خمسة آلاف شاعر وزيادة، ومُدِح بثلاثمئة ألف قصيدة”!!
ويفيدنا الإمام سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘ـ بأن الوزير العباسي العادل عميد الدولة ابن جَهِير (ت 493هـ/1100م) كان “يُجيز العلماء والشعراء ويُحْسن إليهم..، وكان مُمَدَّحاً فيقال: إنه مُدح بمئة ألف بيت من الشعر.. ومدحه عشرة آلاف شاعر”!! وكذلك يروي الإمام الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن الوزير السلجوقي أبا طالب السُّمَيْرَمي (ت 516هـ/1122م) “مدحه ألف شاعر وكان يجيزهم جوائز كثيرة”!!
ولعل هذه الأعداد الضخمة من الشعراء مصداق للخلاصة التي توصل إليها المؤرخ الأميركي ديورانت، والقائلة إنه “لم تضارع حضارةٌ من الحضارات ولم يضارع عصرٌ من العصور.. الحضارةَ الإسلامية في عهد الدولة العباسية في عدد شعرائها وتراثهم” الشعري!!
تنافسية عالية
يصوّر لنا جانبا مبكرا من هذه المنافسات -التي كانت تدور في بلاطات رعاة الأدب من الأمراء وكبار الوزراء- وجوائزها؛ ما رواه ابن ظافر الأزْدي (ت 613هـ/1216م) -في ‘البدائع والبدائه‘ـ قائلا: “اجتمع جرير (ت 110هـ/739م) والفرزدق (ت 110هـ/739م) والأخطل (ت 92هـ/712م) في مجلس عبد الملك ابن مروان (ت 86هـ/705م)؛ فأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمئة دينار (= اليوم 100 ألف دولار أميركي تقريبا)، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيُّكم غلب فله الكيس”! وفي ختام المنافسة أعلن فوز جرير وقال له: “خذ الكيس”!
كان من أول ما أنتجه استقرار العمل بتنظيم المسابقات الأدبية هو تشجيع الشخصيات الأدبية على الطموح للتميز والتألق في دنيا الشعر وساحات التنافس، مما يدفعها لأن تعتمد على مواهبها الذاتية فتعمل على إعداد أنفسها وشحذ قدراتها للمشاركة في فعاليتها، ونيل ما تتيحه من الحظوة والمكافأة. ويرصد ذلك أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) ـفي كتابه ‘الأغاني‘ـ ناقلا تجربة أحد أبرز الشعراء في هذا المنوال بقوله:
“قال جرير وفدتُ إلى يزيد بن معاوية (ت 64هـ/683م) وأنا شاب يومئذ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء، فخرج الحاجب (= مدير ديوان الخليفة) إليّ وقال: يقول لك أمير المؤمنين إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره، وما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة؛ فقلت له: تقول لأمير المؤمنين أنا القائل:
وإنِّي لَعَفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغِنَى ** سريعٌ إذا لم أرضَ داري انتقاليا (… إلخ الأبيات)
فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات، ثم خرج إليّ وأذن لي فدخلت وأنشدته، وأخذت الجائزة مع الشعراء؛ فكانت أول جائزة أخذتها من خليفة”.
وهذه الشاعرية الشبابية كثيرا ما كانت دافعا لرعاة الأدب من الخلفاء والأمراء والوزراء إلى الاهتمام بأصحابها تشجيعا لمواهبهم الشابة، ودفعا لها في حلبة التنافس الأدبي حتى يشتد عودها وتنصقل قرائحها ويكتمل نبوغها؛ ومن ذلك ما يورده أبو إسحق برهان الدين محمد بن إبراهيم المعروف بالوطواط (ت 718هـ/1318م) -في ‘غُرَر الخصائص الواضحة‘- عن الشاعر البُحْتُري الطائي (ت 284هـ/897م) أنه قال:
“دخلتُ يوما دار الفتح بن خاقان (الوزير العباسي ت 247هـ/861م) فوجدتُ الشعراء في دهليز داره، وبينهم صبي صغير السن قصير القامة؛ فقلت: ما أنت يا غلام؟ فقال شاعر! فتبسمتُ عجبا منه ثم قلت: أجِزْ (= أكمل): «ليتَ ما بين مَنْ أحِبُّ وبيني»! قال: مِن البُعْد أم مِن القُرْب؟ قلتُ: من القُرْب، فقال: «مثلُ ما بين حاجبيّ وعيني»! فقلت: فإن أردناه من البُعْد؟ فقال: «مثلُ ما بين ملتقى الخافِقيْنِ»! فأخذتُ بيده وأوصلته إلى [الوزير] الفتح، وأخبرته بما دار بيني وبينه؛ فعَجِبَ منه وأجازه” بمكافأة!!
ويحدثنا عبد الواحد المَرَّاكُشي (ت 647هـ/1249م) -في ‘المُعْجِب في تلخيص أخبار المَغرب‘- عن مبدأ اشتهار الشاعر الأندلسي سَلَام بن عبد الله الباهلي (ت 544هـ/1149م)؛ فقال إنه “دَخَل.. على [كبير أمراء الطوائف بالأندلس] المُعتمِد (بن عَبّاد ت 488هـ/1095م) مادحا له، وسِنُّه دون العشرين؛ فاسْتَنْبَلَه (= أعظمَ شأنَه) واستَحْسنَ ما أتى به [من الشعر]، وأجزل صلته (= مكافأته) وأسنى جائزته، وألحقه في «ديوان الشعراء»” أي السجل الإداري المتضمن لأسماء الشعراء المعتمَدين في بلاطه!!
وفي القرن الخامس الهجري/الـ10م نفسه؛ يشهد بلاط إمارة بني عمّار الكتاميين في طرابلس الشام مشهدا تنافسيا بين الشعراء، كانت نتيجته بروز نجم جديد في سماء الشعر العربي؛ فقد روى العماد الأصبهاني الكاتب (ت 597هـ/1201م) -في ‘خريدة القصر‘- أن “فخر الملك ابن عمّار (ت بعد 502هـ/1108م) صاحب طرابلس اقترح على الشعراء أن يعملوا على وزن قصيدة ابن هانئ المغربي (الأندلسي ت 362هـ/974م): «فتقتْ لكم ريحُ الجلاد بعنبر»”!
فخاض الشعراء جميعا غمار التحدي “فسبقهم أبو الحسن علي المعروف بابن العلائي المَعَري (ت بعد 492هـ/1097م)، وعمِل ما أعجبه، وأجازه عليه واستغنى به عنهم”!!
طموح وتألق
ويوقفنا تاريخ المشاركة في المنافسات الأدبية على ما يتعلق بتطوّر الحضور الإعلامي للشاعر والأديب، وصولا إلى مرحلة الشهرة والتفوّق؛ فنُعاين ذلك مثلا في القصة المتقدمة عن فوز جرير في مسابقة عبد الملك، وفي حكاية نجومية الشاعر العلائي المعري الآنفة.
وحتى من دون إجراء تنافس شعري؛ كانت خلفية التفاضل وتمايز المراتب عنصرا مستحكِما في النظر الرسمي إلى الأدباء، ونتبيّن ذلك مما يحدثنا به ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) -في ‘الشعر والشعراء‘- عن مفاضلة الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) بين الشعراء في الجوائز بناء على تفاوت شاعريتهم.
فقد أمر هذا الخليفة للشاعر كُثَيّر بن عبد الرحمن (كُثَيّر عَزّة ت 105هـ/723م) بجائزة قدّرها هو “بثلاثمئة درهم، وللأحْوَص (= عبد الله بن محمد ت 105هـ/723م) بمثلها، وأمر لنُصَيْب (بن رباح النوبي ت 108هـ/727م) بمئة وخمسين درهما.
على أن مبدأ المفاضلة بين الشعراء في مقادير الجوائز -وفقا لتفاضل نصوصهم في الجودة- ظل معيارا معمولا به طوال القرون اللاحقة؛ حتى إن العماد الأصبهاني يحكي أن “ملك العرب” سيف الدولة صدقة ابن دُبَيْس الأسدي (ت 501هـ/1107م) كان “يُقْبِل على الشعراء ويمدهم بحسن الإصغاء وجزيل العطاء..، ولكل ذي فضيلة على طبقته في دستوره اسمٌ بأن يطلق له من خزانته رَسْم”، أي جائزة ثابتة تتناسب مع رتبته في قائمة الشعراء المعتمدة في بلاطه.
وربما أوْكَل صاحبُ البلاط الشعري مهمةَ المفاضلة بين الشعراء في الجوائز إلى أحد عظمائهم ممن يسلمون له بالزعامة الشعرية، لاسيما إن كانوا من غير أهل الدولة التي يتنافسون فيها؛ فالصفدي يذكر -في ‘الوافي بالوفيات‘- أن الشاعر أبا نُوَاس (ت 198هـ/814م) تزعم جماعة من شعراء العراق، فوفد بهم على والي مصر العباسي أبي نصر الخَصِيب بن عبد الحميد (ت بعد 183هـ/799م) حين استقدمه من بغداد.
ويضيف الصفدي أنهم لما “قدِموا مصر وبلغ الخصيبَ خبرُ [وصول] أبي نواس جلس له جلوسا عاما في مجلس جليل، ودخل إليه الشعراء فسلم عليه..، وقال الخصيب: مَنْ هؤلاء [الذين معك]؟ فعرّفه أبو نواس خبرهم، فقال له: اجلس وقدّر لهم صِلاتهم [جوائزهم] على حسب مقاديرهم في نفسك، فقدَّر لهم أبو نواس صلاتهم وعرضها عليه، فوقَّع بإطلاقها فأطلِقت من وقتها، وقال: اخرج ففرِّقها عليهم”!!
مشاركة نسوية
ويكشف لنا تسليطُ الضوء على المسابقات الأدبية العربية -عبر استعراض مظاهرها ونماذجها في إطار انتشارها مجتمعيا- طبيعةَ ومستوى الدور النسائي فيها تنافسا وتحكيما، وبصورة كانت لافتة عبر العصور؛ فقد ذكر أبو عُبيد الله المَرْزُبَاني (ت 384/994م) -في ‘أخبار النساء‘ـ أنه “تحاكم إلى ليلى (الأخيليّة ت 80هـ/704م) شعراءُ [قبيلة] هوزان”، فكان منهم النابغة الجَعْدي (ت نحو 50هـ/671م) وحُمَيْد بن ثور الهلالي (ت نحو 30هـ/652م).
ويروي الأصفهاني -في كتابه ‘الأغاني‘ـ أخبار تلك المسابقة بقوله إن أولئك الشعراء “اجتمعوا فتفاخروا بأشعارهم وتناشدوا، وادّعى كل واحد منهم أنه أشعر من صاحبه! ومرّ بهم سِرْبُ قَطا؛ فقال أحدهم: تعالوا حتى نصف القطا ثم نتحاكم إلى من نتراضى به، فأيّنا كان أحسن وصفا لها غلب أصحابه؛ فتراهنوا على ذلك (…) واحتكموا إلى ليلى الأخيليّة، فحكمت لأوس بن غَلْفاء” المعروف بالعُجَيْر السَّلوليّ (ت نحو 60هـ/681م).
ويسجل التاريخ في هذا الشأن دورا لا يخفى للسيدة سُكينة بنت الحسين (ت 117هـ/736م) التي عُرفت باهتمامها بالمسابقات الأدبية، مما رسّخ ظاهرتها ودفع بمكانتها في الحضارة الإسلامية . ويلخّص الإمام سبط ابن الجوزي ـفي ‘مرآة الزمان‘ـ هذا الاهتمام بقوله عن سُكينة:
“كان يأوي إلى منزلها العلماء والأدباء والشعراء، فتُخيِّر (= تُفاضِل) بينهم، وتُجيزهم بالألف دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) وأكثر من ذلك على أقدارهم، وكانوا يفتخرون بأشعارهم ويُحكِّمونها [فيها] لِما يعلمون من عقلها وأدبها وحِذْقِها بالشعر، وكان يجتمع إلى بابها الفرزدق، وجرير، وكُثَيِّر عَزَّة، ونُصَيْب، وجَميل (بن مَعْمَر ت 83هـ/703م)، والأحْوَص، وغيرهم” من عظماء الشعراء.
ومن الواضح أن هذا الإسهام النسائي في ملف المسابقات حافظ على انتظام خطه عبر المراحل التاريخية؛ إذ يَعرض ابن عبد ربه الأندلسي (ت 328هـ/940م) -في ‘العِقْد الفريد‘ـ إحدى اللقطات المعبرة عنه، فيروي أنه “خرج رسولُ عائشة بنت المهدي (الخليفة العباسي توفيت بعد 200هـ/815م) -وكانت شاعرة- إلى الشعراء وفيهم صَريع الغواني (مسلم بن الوليد ت 208هـ/823م)، فقال:
تُقْرِئُكم سيدتي السلام وتقول لكم: مَنْ أجاز (= نظم شعرا يتمّم معناه) هذا البيت فله مئة دينار! فقالوا: هاته! فأنشدهم:
أنِيلِي نَوَالاً وجُودي لنا ** فقد بلغتْ نفسيَ التَّرْقُوَة”!
ويَستكمل ابن عبد ربه الخبر بأن الشاعر صريع الغواني قال بيتا يجيز به بيتها “فأخذ المئة الدينار (= اليوم 20 ألف دولار أميركي تقريبا)”!!
ويمتد الدور النسوي في المنافسات الأدبية إلى الغرب الإسلامي؛ إذْ يطلعنا الإمام المحدِّث ابن بَشْكُوَال (ت 578هـ/1183م) -في كتابه ‘الصِّلَة‘- على جهود الأميرة الأموية ولّادة بنت المُسْتكفي الأندلسية (ت 484هـ/1091م) في هذا المجال ومساجلاتها للشعراء الرجال؛ فيقول مُعرِّفا بها: “ولّادة بنت المستكفي.. أديبة شاعرة؛ جَزْلَة القول حسنة الشعر، وكانت تخالط الشعراء، وتساجل الأدباء، وتفُوق البُرَعاء”!!
آليات تنظيمية
تكشف لنا رحلة التتبع للجوائز والمسابقات الأدبية -منذ بدايات عصور الحضارة الإسلامية- ما كان فيها من فنيات في التنظيم والإدارة، وآليات للتحكيم وتقويم المشاركات، وضوابط لترتيب المتقدمين طبقا لجودة نصوصهم ومستوياتهم، ومعايير لمنح المكافآت للشخصيات الأدبية المشاركة، وسخاء عظيم في منْح ومقادير تلك الجوائز والمكافآت.
فسعيا للعدالة في منح وتوزيع تلك الجوائز؛ ارتبطت المنافسات الأدبية ومخرجاتها بآلية التحكيم التي كانت تُعلن وفق إعمالها النتائج وتحدد أسماء الفائزين. وقد ورثت العهود الإسلامية من سابقتها الجاهلية تاريخا مَرْوِيًّا في مجال التحكيم الأدبي في مجاليْ الشعر والخطابة، عرفته العرب عبر لجان التحكيم في أسواقها الموسمية التي كانت تنظم على هوامشها فعاليات أدبية واسعة التنافس بين القبائل العربية، لاسيما كبرياتها الشهيرة في ميدان الشعر مثل قبائل ربيعة وقيس وتميم.
ويقدم لنا الدِّينَوَري -في كتابه ‘الشعر والشعراء‘ـ نموذجا من نمط التحكيم في تلك المسابقات؛ فيقول: “كان النابغة (الذُّبْياني ت 18ق.هـ/605م) تضرب له قبّة حمراء من أَدَمٍ بسوق عكاظ، وتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها، فأنشده [مرةً] الأعشى أبو بَصير (ت 7هـ/629م)، ثم أنشده حسّان بن ثابت (ت 54هـ/675م)، ثم [تتابع] الشعراء، ثم جاءت الخنساء السّلميّة (ت 24هـ/645م) فأنشدته، فقال لها النابغة: والله لولا أنّ أبا بصير أنشدني [آنفا] لقلتُ: إنّك أشعر الجن والإنس”!!
ولعل ذلك التراث التحكيمي في تلك المنافسات الأدبية الجاهلية -ونظائرها في صدر الإسلام بمنتديات سوقيْ “المِرْبد“ بالبصرة و”الكُناسة” بالكوفة- هو الذي بنى عليه المؤرخ أبو الحسن المدائني (ت 225هـ/840م) كتابه الذي يبدو أنه صنّفه في هذا الباب؛ فقد ذكر الصفدي أن من مؤلفات المدائني التي لم تصل إلينا: “كتاب من قال في الحكومة (= التحكيم) من الشعراء”!!
ومن مشاهير من تولوا التحكيم الشعري الشاعرُ العظيم أبو تمام الطائي (ت 231هـ/846م) الذي يذكر الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- أنه “كان يجلس للشعراء فيعرضون عليه أشعارهم”، وأنه حكم للشاعر البحتري بالتقدم الشعري حين أنشده شعره أول مرة فـ”أقبل عليه وقال له: أنت أشعر مَنْ أنشدني”!!
ومن الطريف أن يعمد الشعراء إلى نظرائهم من القضاة ليتولوا التحكيم الشعري، ويحسموا بحكمهم “الشرعي” -وإن بلغة شاعرية- في أهلية أحدهم للزعامة الأدبية. ومن لطائف المواقف في ذلك ما ورد -في العدد 763 من مجلة “الرسالة” المصرية (بتاريخ: 16/02/1948م)- من أن الإمام القاضي ابن حجر العسقلاني أسنِدت إليه مهمةُ التحكيم في منافسة أدبية، جرت بين ثلاثة من كبار شعراء عصره يتقدمهم ابن حجة الحموي (ت 837هـ/1433م).
فحكم ابن حجر بالصدارة لابن حجة وسجل ذلك في وثيقة طريفة جاء في مقدمتها: “لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ؛ الحكمُ بين النظراء إنما يحسن ممن يماثلهم فيما به يرتفع الحكم، وفي إقدام من لم يرتق إلى تلك الطبقة نوع من الظلم، ولا يرتاب لبيب في أن كلا من الثلاثة رأس هذا الفن في زمانه، وأنه لا يوازنه أحد من أقرانه؛ … إلخ.
معيارية موضوعية
نؤوب من الرصد لتاريخ الرعاية للمنافسات الأدبية ونماذج من وقائعها ومداولات إجراءاتها التحكيمية؛ لنقف على المزيد من تفاصيل إدارتها رسميا ومجتمعيا، فقد كانت فعاليات التنافس في طورها الأول تتّسم بطابع معنوي يكسب فيه الشاعر تفضيله ويعزز صوته وصيت قبيلته، وكانت مفتوحة للجميع كما يبدو منذ ظاهرة منافسات الأسواق العربية في الجاهلية، وخاصة الكبريات منها مثل عُكاظ ومَجَنَّة وذي المَجاز.
ومع التحول الذي طرأ على آلية تولي السلطة بدءا من نهاية عهد الخلفاء الراشدين، وما صاحب ذلك من تجدد للنعرات القبلية بين العرب المسلمين؛ عاد كثير من الشعراء إلى توظيف شعرهم لمصالح قبلية كثيرا ما تدثرت بالمواقف السياسية موالاة أو معارضة، وصاحب ذلك تحوُّل جديد تمثل في نزوع كثير من الشعراء نحو طلب المكافآت المادية الرسمية مقابل توظيف مواهبهم في المجال العام، ومن هنا نشأت المنافسات الشعرية وما تولّد عنها من تميز أدبي واستحقاق للجوائز.
وما إن انتشر نمط المسابقات القائمة على رصد الجوائز العينية والمالية للفائزين، حتى برزت نزعة الصرامة بشأن شروط المشاركة والتقدم للمنافسة. وتكشف لنا المعطيات التاريخية ما جرى به العمل في هذه المنافسات -منذ أيام الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور (ت 158هـ/775م)- من معايير وضوابط تجعل توزيع المكافآت فيها محكوما بطابع الموضوعية والعدالة في المنح والمنع.
ومما يؤكد تلك الموضوعية في الحكم على النصوص الأدبية الفنية ما شاع عن أئمة الأدب والنقد من رفضهم أن يكون تقييمها محكوما بالعوامل الدينية والمذهبية؛ فقد نقل أبو البقاء العُكْبُري (ت 616هـ/1219م) -في ‘شرح ديوان المتنبي‘- عن أبي الفتح ابن جِنِّي (ت 392هـ/1003م) -الذي يلقّبه الذهبي في ‘السِّيَر‘ بـ”إمام العربية”- أنه “ليست الاعتقادات والآراء في الدين مما يقدح في جودة الشعر ورداءته”.
كما نص شيخ مؤرخي الأدب والنقد أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) -في ‘يتيمة الدهر‘- على أن “الديانة ليست عيارا على الشعراء ولا سوء الاعتقاد سببا لتأخر الشاعر”!!
ومن مظاهر تلك الموضوعية أيضا أنهم كانوا يستهجنون أخذ الشعراء للجوائز الأدبية دون أهلية واستحقاق؛ حتى إن الشاعر أبا العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) خاطب -في ‘رسالة الغفران‘- الشاعرَ رُؤْبَة بن العَجَّاج (التميمي ت 145هـ/763م) في لقائه المتخيل به في الجنة، فقال له: “ما كان أكْلَفَكَ (= أعجبك) بقَوَافٍ ليست بالمُعْجِبَة! لو شُبِّكَ رَجَزُكَ ورَجَزُ أبيكَ لم تَخرج منه قصيدةٌ مُستحسَنة! وقد كنتَ تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق”!!
بل إنهم كانوا يلجؤون إلى تنظيم اختبار خاص لكفاءة الشاعر عندما تحوم الشكوك حول استحقاقه لجائزته؛ فالعماد الأصبهاني يروي -في ‘خريدة القصر‘- أن أمير حلب مُعِزّ الدولة ثِمَال بن صالح المرداسي (ت 454هـ/1063م) شكّ يوما في شعر قاله عبد الواحد ابن النوت المعري (ت 480هـ/1087م)، فدعاه وصارحه قائلا: “قد زعم الشعراء الحلبيون أن هذا ليس بشعرك..! فإن قلتَ [شعرا مثله] بديهةً (= ارتجالا) أعطيتُك جائزتهم كلهم”!
ومن نماذج تشددهم في الشروط المعيارية لتلك المنافسات ما يرويه الصفَدي ـفي ‘الوافي بالوفيات‘ـ من أنه “وَفَدَ إلى الأمير عبد اللّه بن طاهر (ت 230هـ/844م) جمْعٌ من الشّعراء، فعلم أنّهم على بابه فقال لخادم له أديب: اخرج إلى القوم، وقل لهم: من كان منكم يقول كما قال العتّابيّ (كلثوم بن عمرو ت 220هـ/835م) للرّشيد (الخليفة العباسي ت 193هـ/809م):
مُستنبِطٌ عزماتِ القلبِ مِنْ فِكَر ** ما بينهن وبين اللّه معمور!
فليدخل، وليعلم أنّي إن وجدته مقصّرا عن ذلك حَرَمْتُه [من الجوائز]، فمَنْ وثق مِن نفسه أنه يقول مثل هذا فليقم؛ قال: فدخلوا جميعا إلّا أربعة نفر”!
رهان مفتوح
والواقع أنه إذا كانت قصور الخلفاء مفتوحة لاستقبال الأدباء وتلقّي صناعاتهم فإن ذلك كان على أساس ضمني من التقويم الدقيق لما ينتجونه من نصوص، وهو ما يمثّل مسابقة حقيقية مفتوحة الأبواب على الدوام أمام المترشحين، ويكون فيها الاستعداد للمنافسة هو بوابةَ التقدم للمشاركة.
وينطبق ذلك على أفراد الشعراء وجماعاتهم بمثل ما يعرض لنا لقطة منه إمام النقد الأدبي ابن رشيق القيرواني في كتابه ‘العمدة‘، مصورا قُدومَ جماعة من الشعراء للمنافسة على باب الخليفة العباسي المعتصم (ت 227هـ/842م)؛ فيقول: “اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم [يقول]: من كان منكم يحسن أن يقول مثل منصور النُّمَيْري (ت 190هـ/806م) في أمير المؤمنين الرشيد: «إن المكارم والمعروف أوْدِيَةٌ ** أحلَّكَ اللهُ منها حيث تجتمع»..؛ فليدخل”!
وعن الشروط الخاصة المطلوب توافرها في المشاركين في الفعاليات الأدبية؛ يروي لنا المؤرخ الأديب ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) قول الوزير البويهي الصاحب ابن عباد: “قد ألزمتُ نفسي ألا يدخل عليّ من الأدباء إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب”!!
كما أن طبيعة التنافس بعد اجتياز اختبار القبول الأولي تشير إلى استخدام قوي للنقد، والتدقيق بشدة في الزوايا المختلفة للنصوص. ويخبرنا ظهير الدين البَيْهَقي (ت 565هـ/1106م) -في ‘تاريخ بَيْهَق‘- عن جلسة من هذه الحلقات عُقدت في بلاط الوزير الصاحب ابن عبّاد؛ فيقول إنه لما اجتمع الحضور “مُدّتْ المائدة وقد زُيّنت بأصناف الطعام والبَوارِد (= بُقول تطبخ بمواد حامضة)، فامتدت إليها الأيدي، فلما جيء بالحلوى أمر الصاحب ألا تمتد إليها يد قبل أن يقول فيها كل واحد من أهل الفضل الحاضرين قطعة من الشعر!
فأنشد كل واحد منهم قطعة على البديهة بينما كان الأعسريّ (=الشاعر أحمد بن إبراهيم ت نحو 381هـ/992م) صامتا منشغلا بتحريك أصابعه يعدّ فيها، فلما وصلت إليه النَّوْبَة (= الدَّوْر) سأله الصاحب: أي شيء كنتَ تعدّ بأصابعك؟ فقال: كنت أعدّ أخطاء شعراء هذا المجلس! فعجب الصاحب من كلامه! ثم إن الأعسريّ أعطى خطأ كل واحد منهم مدعما بالحجة الدامغة، وأنشأ.. [شعراً] في وصف الحلوى..؛ فزاد الصاحب من رتبته، ووجد حظا وافرا من عنايته”!!
ومن تلك المعايير اعتماد تحديد الفائز بالرقم الأول وتخصيصه بالجائزة الأرفع، إلى جانب التكريم لبقية المتأهلين؛ فقد روى مؤرخ الأدب أبو علي القالي (356هـ/967م) -في كتابه ‘الأمالي‘ـ أنه “دخل الشعراء على المنصور وفيهم طريح بن إسماعيل الثقفي (ت 165هـ/783م) وابن ميّادة (الرماح بن أبرد المري ت 149هـ/768م) وغيرهمـ[ـا].
فأذن لهم في الإنشاد فأنشدوه من وراء حجاب، حتى دخل ابن هِرْمَة (إبراهيم بن علي القرشي ت 176هـ/792م) في آخرهم فأنشده حتى بلغ إلى قوله من شعره:
إذا ما أتى شيئا مضى كالذي أتى ** وإن قال إني فاعلٌ فـــهو فاعلُ
كريمٌ له وجهان وجهٌ لدى الرّضا ** أسيلٌ، ووجهٌ في الكريهة باسلُ
فقال: يا غلام، ارفع الحجاب! وأمر له بعشرة آلاف [دينار] (= اليوم مليونيْ دولار أميركي تقريبا)..، وأعطى الباقين ألفين ألفين”.
تراتبية فنية
ولكن الذي يظهر أن أسلوب تتويج الفائز الواحد دون تخصيص جوائز لبقية المشاركين كان يجري به العمل أيضا لدى المنصور؛ فابن عبد ربه يمدّنا -في ‘العِقد الفريد‘- بتفاصيل مسابقة من هذا اللون، مُورِداً أنه “قال الربيع (بن يونس الوزير العباسي ت 169هـ/785م): خرجنا مع المنصور مُنْصَرَفَنا من الحج فنزلنا الرَّضَمَة (= موضع غربي المدينة المنورة).
ثم راح المنصور ورحنا معه في يوم شديد الحرّ، وقد قابلته الشمس وعليه جُبّة وَشْيٍ (= نقش/تطريز)؛ فالتفتَ إلينا وقال: إني أقول بيتا من شعر فمن أجازه منكم فله جُبَّتي هذه..!:
وهاجرةٍ نصبتُ لها جبيني ** يُقطِّع حرُّها ظَهْرَ العَظَايَهْ (= السحلية)
فَبَدَرَ بشّار الأعمى (بشار بن بُرْد 168هـ/785م) فقال:
وقفتُ بها القَلُوصَ ففاض دمعي ** على خدّي وأقْصرَ واعِظايَهْ (= من يلومونني)
فخرج له من الجُبّة! فلقيتُه بعد ذلك فقلت له: ما فعلتَ بالجبة؟ قال: بعتها بأربعة آلاف درهم (= اليوم 5 آلاف دولار أميركي تقريبا)”!!
أما اعتماد ترتيب المتنافسين لمنحهم الدرجات وفقا لأدائهم وتميز مشاركاتهم؛ فبوسعنا معرفة نموذجا من الإجراءات التي كانت معتمدة فيه بالأندلس من القصة التي أوردها الشَّنْتَريني (ت 542هـ/1147م) في كتابه ‘الذخيرة‘، مصوِّرا فيها بدقة الترتيبات الرسمية المتخذة للاحتفال بإحدى هذه المنافسات.
فقال إنه جرت يوما منافسة شعرية في بلاط أمير طُليطِلة المأمون بن ذي النون (ت 467هـ/1074م) “فجلس لهم.. في أبهة فخمة ورتبة كاملة مع كبار أهل مملكته من أذواء الوزارات المثنية والمفردة، ومن أصحاب الخطط العليات، وأذن لتلك الحلبة من شعراء الحضرة من طارئ وقاطن..؛ فدخلوا إليه -على هيئتهم- يقْدُمُهم شيخُهم المقدَّم من جماعتهم ذلك اليوم: محمد بن شرف القيرواني (ت 460هـ/1069م)”!
وفي ختام إلقاء الشعراء نصوصَهم وجّه الأميرُ “بأخذ بطائق (= أوراق القصائد) جميع من حضره من الشعراء، وأسلمها إلى وزيره الأثير يومئذ عبد الرحمن بن مثنى (ت بعد 450هـ/1059م) كي يتصفحها بفضل أدبه، ويُطَبِّق (= يرتّب) قائلها بحسب معرفته، فيأمر لهم بما يجده” أي يراه ويقرره!
سوابق موجِّهة
بعد إعمال المعايير الموضوعية خلال مداولات التحكيم في المسابقات الأدبية، وما يتبع ذلك من فرز للنتائج وإعلان للفائزين على ترتيبهم في التميز؛ تأتي المرحلة الختامية التي تشهد توزيع الجوائز على المتنافسين وفقا لمراتبهم.
وقد احتفظت لنا المعاجم العربية بتأصيل لغوي بديع لدلالة تسمية “الجائزة”؛ إذْ يورد ابن قتيبة الدينوري -في ‘الشعر والشعراء‘ـ ما نصّه: “أصل الجائزة أن يُعطَى الرجل ما يجيزه ليذهب إلى وجهه، وكان الرجل إذا ورد ماءً قال لقيّمه (= راعيه): أجِزْني، أي أعطني ماء حتى أذهب لوجهي وأجوز عنك، ثم كثر حتى جُعلت ‘الجائزةُ‘ عطيةً”.
أما التأصيل التاريخي لتنظيم المسابقات ذات النفع العام على المجتمع ورصد الجوائز للفائزين لها؛ فيعود إلى العهد النبوي الذي كان فيه للألعاب الرياضية التنافسية حظٌّ كبيرٌ من الاهتمام الشعبي و”العناية الرسمية”، تشجيعا عليها لإعداد أفراد المجتمع إعدادا بدنيا يمنحهم القوة والصلابة، فكانت منافسات سباق الخيل التي أمر النبي ﷺ بتنظيمها وحضرها وأشرف على توزيع جوائزها.
فقد روى أبو داود (ت 275هـ/888م) والترمذي (ت 279هـ/892م) -من حديث أبي هريرة (ت 59هـ/680م)- عن النبي ﷺ أنه قال: “لا سَبَقَ (= جائزة الفوز) إلا في نَصْل (= مباراة الرماية)، أو خُفٍّ (= سباق الإبل)، أو حافِر (= سباق الخيل). كما روى الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م) -في ‘المُسْنَد‘- عن عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م) أنه قال: “سَبَّقَ (= نظّم سباقا) النبيُّ ﷺ بين الخيل وأعطى السابق” من أصحابها جائزة على سبقه!
ويقدّم لنا مؤرخ النُّظم السلطانية شهاب الدين القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- خلفية عن بدايات استخدام لفظة “الجوائز” في الإطار الخاص بالتكريم والتنافس بشكل عام، دون تقييده بمجالات الأدب والشعر والتأليف.
فيروي أنه “أوّل ما سُميّت العَطِيّاتُ جوائزَ في زمن عثمان (بن عفان ت 35هـ/656م)” حين شجّع أحدُ قدة جيوشه في بلاد فارس جنودَه على عبور وادٍ تغمره مياه السيل، فقال: “مَنْ عبَره فله ألف درهم! فعبره رجل ثم آخر حتّى جاز جميعُهم، فأعطاهم.. ألفا ألفا، فكان جملة ذلك أربعة آلاف ألف (= اليوم 5 ملايين دولار أميركي تقريبا)”!!
وقد أمضى الخليفةُ عثمان -حين بلغه خبر الواقعة- هذه السابقة ونتائجها وجوائزها؛ قائلا: “كلُّ ما كان في سبيل الله فهو جائز”!! وبذلك أصبح هذا القائد “أولَ مَنْ سَنَّ الجوائزَ”؛ طبقا لابن قتيبة الدِّينَوَري في كتابه ‘المعارف‘.
خبرات مصاحِبة
ثم إن هذا التقليد تجاوز مضامينه العامة ليتنزل أكثر في ميدان تشجيع الطاقات الفكرية والأدبية على التميز في الإنجاز والعطاء، بل وصار يطلق عليه اسم مطابق تماما لما نألفه اليوم في مصطلحاتنا الثقافية وهو تعبير “جوائز الدولة”، الذي نلاقيه حرفيا في كتب الإمام الذهبي أثناء تراجمه لعدد من العلماء.
وهكذا أصبحت الجوائز من بعد ذلك عنصرا رئيسا في تطبيق مبدأ تقدير المواهب وحفز المعنويات، وخاصة في المجال الأدبي؛ مكرّسة بذلك واقعها الذي بلَغ من سيطرته أننا صرنا أمام تعابير تصف مستويات الأدباء والشعراء، مثل ما قيل عن الشاعر البُحْتُري -فيما رواه إمام النقد الأدبي أبو القاسم الآمدي (ت 370هـ/980م) في كتابه ‘الموازنة‘- من أنه “أسقط في أيامه أكثر من خمسمئة شاعر وذهب بخيرهم (= مكافآتهم)، وانفرد بأخذ جوائز الخلفاء والملوك دونهم”!
وقد أسفرت حركيّة مجال الجوائز الأدبية عن بروز خبراء في مؤشرات سوقها على نحو قريب -في فكرته ودلالته- من سوق مراهنات المنافسات الرياضية اليوم. ومن القصص الدالة والمتعلقة بهذه الخبرة ما أورده الأصفهاني -في ‘الأغاني‘ـ قائلا: “أخبرني عيسى بن الحسين الورّاق (ت بعد 300هـ/912م) قال حدّثنا سليمان بن أيوب المدائنيّ (ت قبل 300هـ/912م) قال:
قال مروان بن أبي حفصة (ت 182هـ/798م): قَدِمتُ البصرةَ فأنشدتُ [شاعرَها] بشّاراً قصيدةً لي، واستنصحتُه فيها؛ فقال لي: ما أجودَها! تَقْدُمُ بغداد فتُعْطَى عليها عشرة آلاف درهم (= اليوم 12 ألف دولار أميركي تقريبا)؛ فجزعت من ذلك وقلت: قتلتَني! فقال: هو ما أقول لك؛ وقَدِمْتُ بغدادَ فأُعطِيتُ عليها عشرة آلاف درهم؛ ثم قَدِمْتُ عليه قَدْمَةً أخرى فأنشدتُه قصيدتي: «طَرَقَتْكَ زائرةً فَحَيِّ خيَالَها»…؛ فقال: تُعطَى عليها مئة ألف درهم، فقَدِمْتُ فأعْطِيتُ مئة ألف درهم”!!
ويعزز الأصفهاني -في ‘الأغاني‘- ذلك بما رواه عن الشاعر البحتري من قوله “قال لي أبو تمام (ت 231هـ/845م): بلغني أن بَنِي حُمَيْد [الطُّوسي الطائي بخراسان] أعطوكَ مالا جليلا! فبِمَ مدحتَهم؟ فأنشدْني شيئا منه، فأنشدتُه، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا، فقال لي: ظلموكَ ما وفّوْك حقك! والله لبيت منها خير مما أخذت”!!
بل إن مؤشرات بورصة الأدب شملت -قبل ذلك- ما يتعلق بتصنيف طبقات الشعراء والشخصيات الأدبية، ولعل ذلك كان عاملا مؤثِّرا في مسارات الجوائز ومتأثرا باختيارات لجان التحكيم. ومن ذلك قول المَرْزُبَاني في كتابه ‘الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء‘: “وإنما مروان (بن أبى حفصة ت 182هـ/798م) من أقران سَلْمٍ الخاسر (ت 186هـ/802م)، وقد تزاحما بالشعر في مجالس الخلفاء، وسُوّي بينهما في الصِّلة” أي الجوائز!!
أُطُر مؤسسية
ولم يمض وقت من اعتماد المنافسات الأدبية آليةً رسميةً في البلاطات وبعض المراكز، حتى أسفر ذلك عن بروز منهج يتمثل في تعيين أجهزة للإشراف على إدارة شأن هذه المنافسات؛ إذ يفيدنا الصولي (ت 335هـ/946م) -في كتابه ‘الأوراق‘ـ بأن الوزير العباسي يحيى بن خالد (البَرْمَكي 190هـ/806م) “جعل أبان بن عبد الحميد (اللاحقي الشاعر ت 200هـ/215م) على الشعراء يعرضون عليه أشعارهم، فما رضيه أثبته وما لم يرضه أسقطه”.
وهذا ما يحدثنا عنه الإمام ابن أبي نصْر الحُمَيدي الأندلسي (ت 488هـ/1095م) رافعا تنظيم تلك المسابقات إلى مستوى المَأْسَسَة الإدارية الرسمية؛ فيقول -في كتابه ‘جَذْوَة المُقْتبِس‘- إنه في عهد الوزير الأموي القوي المنصور ابن أبي عامر (ت 392هـ/1003م) “كان للشعراء.. “ديوان” (= جهاز/إدارة رسمية) يُرْزَقُون منه على مراتبهم، ولا يُخِلُّون بالخدمة بالشعر في مظانِّها”.
وذكر الحميدي أن ممن تولوا هذه الإدارة الكاتب “عبد الله بن محمد بن مسلمة (ت 437هـ/1046م)..؛ ففي ديوانه كان «زمام الشعراء» (= إدارة) في تلك الدولة، وعلى يديه كانت تخرج صِلاتُهم (= جوائزهم) ورسومهم، وعلى ترتيبه كانت تجري أمورهم”.
ويعطينا الحُمَيدي مثالا تطبيقيا لعمل هذه الإدارة أو النقابة الأدبية؛ فيقول إن الشاعر أحمد بن دَرَّاج القَسْطَلِي (ت 421هـ/1031م) اتهمه -في بداية مشواره الشعري- بعضُهم بأنه “مُنْتَحِلٌ سارق [لشعره] لا يَستحق أن يُثْبَتْ في ديوان العطاء؛ فاستحضره المنصور عشيـ[ـة] يوم الخميس لثلاث خلوْن من شوال سنة اثنتين وثمانين وثلاثمئة (382هـ/992م) واختبره واقترح عليه (= طالبه بالارتجال)، فبرز وسبق وزالت التهمة عنه، فوصله بمئة دينار وأجرى عليه الرزق (= الراتب)، وأثبته في جملة الشعراء”!!
وقد تواصل العمل بذلك التقليد في إدارة الشأن الثقافي قرنا كاملا على الأقل؛ كما يفيدنا به المراكشي -في ‘المُعْجِب‘- بقوله إن أمير أمراء الأندلس المُعتضِد بن عبّاد (ت 461هـ/1070م) حين استحسن قصائد الشاعر محمد بن عمار (ت 479هـ/1086م) “أمر أن يُكْتب في «ديوان الشعراء» فكان كذلك”، ثم آل به الأمر أن أصبح وزيرا في دولة بني عبّاد.
وقد سبق ذكر أن المعتمد بن عبّاد وجّه بتدوين اسم الشاعر سَلَام الباهلي في “ديوان الشعراء” بدولته.
وعلى المستوى الإداري؛ نقف على أنه كانت هناك مستندات صرف خاصة بالجوائز تتبع لبند منْحها، وهو ما يخبرنا عنه ابن السِّيد البَطَلْيَوْسي (ت 521هـ/1127م) بقوله -في كتابه ‘الاقتضاب‘- إن “الصَّكّ” يُطلق لغةً على “كُتُب الجوائز والصِّلات”، أي أوصالها المالية التي تدفع لمستحقيها من الفائزين.
ومن الملامح البديعة في إرثنا الحضاري المشجع للمواهب الأدبية أن جوائز الشعراء ومكافآتهم لم تكن دائما شأنا رسميا مرتبطا بالحكومات، بل وجد له حواضن أهلية ترعاه مما يؤكد الدعم الاجتماعي للمنافسات الأدبية؛ حتى إنه وُجدت في بعض أقطار العالم الإسلامي أوقاف تُصرف منها تلك الجوائز الأدبية، إلى جانب الصرف على بنود الجهاد وإعانات المحتاجين!
ومن أمثلة ذلك ما ذكره شيخ المؤرخين الجزائريين أبو القاسم سعد الله (ت 1435هـ/2013م) في كتابه ‘تاريخ الجزائر الثقافي‘؛ فقال: “أما الصرف من الأوقاف فله في زواوة (= شمال شرقي الجزائر) مجالات عديدة، ومنها شراء لوازم الجهاد مثل الذخيرة والأسلحة، ومنها المساعدات للحجاج لأداء فرضهم، وتقديم الصدقات للفقراء والمساكين، والعناية بالغرباء والمسافرين. وقد ذكرت بعض المصادر أن من بين ما تصرف فيه الأوقاف في زواوة منح الجوائز للشعراء والمغنين”!!
ضوابط ناظمة
ونلاحظ أنه خلال القرنين الرابع والخامس الهجرييْن/الـ10-11م كانت المسابقات من الظواهر الحياتية الطبيعية المنتشرة كثيرا، والتي يجري فيها حديث الرأي العام والمهتمين بها وبشؤونها؛ إذ نعاين صداها ذلك فيما دوّنه ابن طَبَاطَبَا (ت 322هـ/934م) -في كتابه ‘عيار الشعر‘ـ من معايير للمفاضلة بين الشعراء؛ فقال:
“والشعراء في عصرنا إنما يثابون على ما يُسْتَحْسَنُ من لطيف ما يوردونه من أشعارهم، وبديع ما يُغْرِبُون [به] من معانيهم، وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم، ومُضحك ما يوردونه من نوادرهم، وأنيق ما ينسجونه من وَشْي قولهم، دون حقائق ما يشتمل عليه من المدح والهجاء وسائر الفنون التي يصرفون القول فيها”.
وفي هذا الصدد يتحدث الحُصْري القيرواني (ت 453هـ/1061م) -في ‘زهر الآداب‘- عن معايير الفوز في هذه المنافسات فئات حاصدي الجوائز؛ فيقول: “فمنهم من اكتسى كلامُه شرفَ الاكتساب دون شرف الانْتِساب كالمكتسبين من الشعراء بالمدائح، المترشحين بها لأخْذِ الجوائز والمنائح، وهم الأكثرون من أهل هذه الصناعة..؛ ومنهم من أخذ بحبل الْجَوْدة من طَرَفَيْه، وجمع رداءَ الْحُسْنِ من حاشِيَتَيْه”.
وأمام الإقبال الواسع من الأدباء والشعراء على مهرجانات وملتقيات الأدب هذه منافسين ومشاركين؛ لجأت بعض الدول إلى تخصيص مواعيد دورية لهذه الفعاليات، وهو ما يكشف عن جانب من آليات إدارة هذه المنافسات؛ فالقاضي التَّنُوخي (ت 384هـ/995م) يفيدنا -في ‘نشوار المحاضرة‘- بأنه في صدر الدولة العباسية “إنما كانت الشعراء تدخل على الخلفاء في كل عام مرة”، فكانت تفتح أمامهم فرصة سنوية للتنافس ونيل الجوائز.
أما في الدولة الأموية بالأندلس فيبدو أن المدة كانت أقصر من ذلك بكثير، حتى إن تلك الملتقيات الأدبية صارت أسبوعية في عهد سيطرة العامريين على الدولة؛ فكان الوزير المثقف المنصور ابن أبي عامر “له مجلس في الأسبوع يجتمع إليه فيه الفضلاء للمناظرة فيُكْرمهم.. ويُجِيز الشعراء” بالجوائز القيمة؛ وفقا للذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘.
ويوضح لنا ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- علاقة المنافسات بهذه المؤتمرات من خلال عرض نموذج حيّ منها نُظِّم في تونس، وهو أنه “كان قد وصل إلى عبد الله بن محمد الكاتب (والي الفاطميين على تونس ت 377هـ/988م) بيتان قيلا في وصف النيل [بمصر]، فجمع شعراء إفريقية وأمرهم أن يقولوا في معناهما وقافيتهما”.
فعاليات موسمية
ولعل مما يشير إلى خلفية حضور هذه المسابقات القُطْرية في البرامج الخاصة بفعاليات الأدب، ما نقله ابن خلكان أيضا قائلا: “لما بلغ المُعِز (لدين الله الفاطمي ت 365هـ/976م) وفاته [الشاعر ابن هانئ الأندلسي ت 363هـ/975م] -وهو (= المعز) بمصر- تأسَّفَ عليه كثيرا، وقال: هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخِر به شعراءَ المشرق فلم يُقَدَّر لنا ذلك”!!
ومما يدل على تلاقي الشعراء في أفياء هذه الفعاليات قادمين من وجهات مختلفة، ما أورده المَقَّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) -في ‘نفح الطيب‘-عن أحدهم أنه قال: “كنت بمجلس القاضي ابن حَمْدِين (التغلبي ت 508هـ/1114م) وقد أنشده شعراء قرطبة وغيرها”.
وسجّلَ المؤرخون ظاهرة إقامة فعاليات الأدب وجوائزها في مواسم تتسم عادة بالفرح المجتمعي مثل الأعياد السنوية؛ فقد ذكر الشاعر المؤرخ عمارة اليمني (ت 569هـ/1174م) -في ‘تاريخ اليمن‘- من أخبار سلطان اليمن المعظّم محمّد بن سبأ (ت 548هـ/1153م)، قال: “ورأيته في يوم عيد.. والشعراء يتسابقون بالنشيد [أمامه]؛ فقال لي: قُلْ لهم -وارفع صوتَك- لا يتزاحمون! فلستُ أقوم حتى يفرغوا، وكانوا ثلاثين شاعرا، ثم أثابهم جميعا”!!
ومن حفلات قصائد العيد المشهودة ما ذكره المؤرخ المغربي الناصري السَّلاوي (ت 1315هـ/1898م) في كتابه ‘الاستقصا‘؛ قال: “وأعَدَّ الشعراءُ كلماتٍ أنشدوها يوم عيد الفطر بمشهد الملأ في مجلس السلطان، وكان من أسبقهم في ذلك الميدان شاعر الدولة أبو فارس عبد العزيز الملزوزي (ت 697هـ/1298م)..، أَتَى بقصيدة طويلة.. وأُنشِدت بمحضر السلطان والحاشية، فأمر لمنشئها بألف دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) وخِلعة، ولمنشدها بمئتيْ دينار” أيضا!!
ومن اللافت أنه كان للنساء الشواعر حضور في هذه المنافسات الشعرية الموسمية؛ فالقاضي التنوخي يخبرنا -في ‘نشوار المحاضرة‘- قائلا: “حضرتُ بغدادَ في مجلس الملك عضد الدولة (البويهي ت 372هـ/983م) في يوم عيد الفطر سنة سبع وستين وثلاثمئة (367هـ/978م) والشعراء ينشدونه التهاني، فحضرتْ عابدةُ الجُهَنية (ت 367هـ/978م).. فأنشدتْ قصيدةً لم أظْفَرْ منها بشيء”!
قوالب بديعة
وتنطوي المراحل التي تشهدها المسابقات على الإثارة والتشويق، وتقع فعاليات الاختتام وتتويج المتنافسين في العمق من ذلك متضمنةً أحيانا ما يمكن وصفه بأنه أشكال تكريمية سابقة لعصرها، مثل إقامة “لوحة شرف” أو “نُصْب تكريم” لتخليد أسماء وصور الشعراء الفائزين مقرونة بذكر بلدانهم ومناطقهم التي جاؤوا منها للمنافسة، وبجانبها توضع جائزة كل شاعر!!
وفي استعراض تجربة عربية لذلك وقعت في القرن السادس الهجري/الـ12م؛ نطالع نموذجا طريفا أورده المؤرخ المقريزي (ت 845هـم1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بقوله “إن الخليفة الآمر بأحكام الله (الفاطمي ت 524هـ/1130م) بنى على.. بئر دكّة الخركة منظرةً (= بيت عالٍ للتبرد والنزهة) من خشب مدهونة، فيها طاقات (= نوافذ) تُشرف على خضرة بركة الحبش، وصوّرَ فيها الشعراءَ: كل شاعر وبلده!
واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح وذِكْرِ الخِرْكاه (= بيت خشبي)، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رَفٌّ لطيف مُذْهَبٌ (= مطلي بالذهب)، فلما دخل [الخليفة] الآمر وقرأ الأشعار أمر أن يُحَطَّ على كل رفّ صرّة مختومة فيها خمسون دينارا (= اليوم 10 آلاف دولار أميركي تقريبا)، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرّته بيده، ففعلوا ذلك وأخذوا صررهم، وكانوا عدّة شعراء”!!
كما نعاين تفاصيل أخرى عن فعاليات التكريم للفائزين من خلال ما قدمه المظفّر بن الفضل (ت 656هـ/1258م) -في ‘نضرة الإغريض في نصرة القريض‘- مصوِّرا فعالية تكريم؛ إذ قال: “لم يزلْ [الأمير محمود] ابنُ نَصْرٍ (المرداسي ت 467هـ/1074م) صاحبُ حلبَ يراسِلُ ابنَ حَيّوس الدمشْقيَّ (الشاعر ت 473هـ/1080م) ويواصلُه بالصّلات والأعطِياتِ والمُلاطَفات حتى أقدمَهُ إليه وأوفدَه عليه!
فلما قاربَ حلبَ خرجَ في موكبِه وتلقّاهُ، وأكرمَه وحيّاهُ وأنزلَهُ دارَ ضيافَتِه، وبعد أيامٍ جلس في قلعة حلبَ جلوساً عامّاً وأذِنَ لنوّابِه وأمرائِهِ وأصحابِه ووزرائِهِ، فلما استقرّ الناسُ على مراتبِهم استحضرَهُ وأجلسَهُ بين يديهِ، فأنشده قصيدته التي يقولُ في أوّلها: قِفوا في القِلَى حيثُ انتَهَيْتُمْ تذَمُّما ** ولا تقتَفوا مَنْ جارَ لمّا تَحَكَّما!
فاستدعى [الأميرُ] بكيسٍ فيه ألفُ دينار (= اليوم 200 ألف دولار أميركي تقريبا) فصبّه عليه فالتقطَه الحاضرون، ثم استدعى بكيسٍ آخر فيه ألفُ دينار، وعشرون ثوباً، وخِلعة سَنيّة (= ثيابا فاخرة)، و[أعطاه] فَرَساً بِطَوْقِ ذَهَبٍ، وسِرْفسارِ (= لِجَام فرس) ذهَبٍ، فأعطاهُ [كلَّ ذلك]، وكتبَ له ضيعةً (= مزرعة) من أمّهاتِ القُرى بحلب؛ فهذه كانت جوائز الشعراء”!!
ألقاب عريقة
ونعاين في دهاليز الإرث الخاص بالمسابقات الأدبية العربية بعضَ الحالات التي عرفتها والتفاصيل التي اكتنفتها، ومن ذلك توقّف مسار المسابقة أحيانا أو عدم منح الجوائز لسبب مّا؛ إذ يروي الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1176م) -في ‘تاريخ دمشق‘ـ قائلا:
“كان الْخَلِيل بْن أَحْمَد (ت 170هـ/786م) صديقا لجَعْفَر بْن سُلَيْمَان الْهَاشِمِي (الأمير العباسي ت 174هـ/790م)، فجَاء يَوْمًا ليدْخل عَلَيْهِ فَوجدَ على بَابه شعراء قد أنشدوه وَقُبلت أشعارهم وتأخرت جوائزهم، فشكوا ذَلِك إِلَيْهِ وسألوه إذْكارَه (= تذكيره)، فَدخل إِلَيْهِ فأنشده:
لَا تقبلنّ الشعرَ ثُمَّ تعقّه ** فتنام وَالشعرَاء غير نيامِ
وَاعْلَم بِأَنَّهُم إِذا لم يُنصَفوا ** حكمُوا لأَنْفُسِهِمْ على الْحُكَّام
وَجِنَايَةُ الْجَانِي عَلَيْهِم تَنْقَضِي ** وعقابُهم يَبْقَى على الْأَيَّام”!
أما تقليد حجب الجوائز لعدم استيفاء الشروط فقد كانت من ضمن ما يقع أحيانا؛ فابن خلّكان يروي أنه في حلب “اجْتمع على بَاب الْأَمِير نصر (بن محمود المرداسي ت 468هـ/1075م) جمَاعَة من الشُّعَرَاء وامتدحوه، وتأخرت صِلَتُه (= جائزته) عَنْهُم، وَنزل بعد ذَلِك الْأَمِير نصر إِلَى دَار بولص النَّصْرَانِي (ت بعد 467هـ/1075م)، وَكَانَت لَهُ عَادَة بغشيان منزله وَعقد مجْلِس الْأنس عِنْده.
فجاءت الشُّعَرَاء -الَّذين تَأَخَّرت جوائزهم- إِلى بَاب بولص وفيهم أبو الحسن أحمد بن محمد بن الدُّوَيْدَة المعري (ت بعد 467هـ/1075م) الشاعر المعروف، فكتبوا ورقة فيها أبيات اتفقوا على نظمها.. وسيروا الورقة إليه..؛ فلما وقف عليهـ[ـا] الأمير نصر أطلق لهم مئة دينار، فقال: والله لو قالوا بمثل الذي أعطيته لابن حَيُّوس لأعطيتُهم مثله”!
وفي استعراض ترتيبات تنظيم ومخرجات مسابقات الأدب؛ نقف على العراقة التاريخية لظاهرة منح الألقاب التكريمية لذوي الإبداع في المجال العربي، وهو أسلوب بدأ منذ الشعر الجاهلي فيما يمكن التعبير عنه بلقب “شاعر الموسم”.
ويفيدنا بالدلالة شبه الصريحة لإطلاقهم هذا اللقب ما أورده صدر الدين ابن معصوم المدني (ت 1120هـ/1708م) -في ‘أنوار الربيع في أنواع البديع‘- من قول النابغة في سوق عكاظ للخنساء: “لولا أن هذا الأعمى أنشدني قبلك -يعني الأعشى- لفضّلتُكِ على شعراء هذا الموسم”! وفي العهد النبوي لُقِّب مثلا حسّان بـ«شاعر النبي» ﷺ؛ كما سبق القول.
أمراء الشعراء
كما يُحيل لقب “أمير الشعراء” إلى التصدر وكسب السبق في ميدان القصيد؛ وعن سوابق إطلاق هذا اللقب في تراثنا الأدبي وأثر حيازته في تشجيع الشعراء؛ يحدثنا البحتري بقول أبي تمام له وفقا لما رواه ابن خلكان: “أنت أمير الشعراء مِن بعدي! فكان قوله هذا أحبَّ إليّ من جميع ما حويته” من جوائز مالية!!
ويقدم لنا أبو منصور الثعالبي إطلاقين محدديْن للقب “أمير الشعراء” في الجاهلية والإسلام؛ فيقول -في ‘لباب الآداب‘- إن “امرؤ القيس بن حجر الكندي (ت 80ق.هـ/545م) هو «أمير الشعراء»” الجاهليين. وينقل -في ‘الإعجاز والإيجاز‘- أن الأديب المشهور أبا بكر الخوارزميّ (ت 383هـ/994م) كان يقول: “«أمير الشعراء» العصريين أبو الطيب (المتنبي ت 354هـ/965م)، وأمير شعره: قصيدته التي أولها: «مَن الجَآذرُ في زِيّ الأعاريب»؟! وأمير هذه القصيدة قوله:
أزورُهم وسوادُ الليلِ يشفع لي ** وأنْثَني وبياضُ الصبحِ يُغْري بي”!!
ويبدو أنه ظهر كذلك -في بعض الحقب- لقب تكرمي آخر أعلى في دلالته من “أمير الشعراء” وهو لقب: “ملِك الشعراء”! ولئن ساد إطلاقه أكثر في البيئات غير العربية بين شعراء الفرس والترك؛ فإنه وجد طريقه أحيانا إلى الأوساط الأدبية العربية كما نجده في ترجمة المؤرخ ابن العديم (ت 660هـ/1262م) -في ‘بغية الطلب‘- للشاعر سعد بن محمد الصيفي التميمي (ت 574هـ/1179م) المعروف بالحَيْصَ بَيْصَ. فقد ذكر أنه “قال الشعر في جميع الفنون فأجاد، واتفق الخاص والعام على تفضيله على شعراء وقته.. ولُقِّب بـ «مَلِك الشعراء»”!!
واستمرّ إنتاج الألقاب عبر حقب التاريخ اللاحقة وبصيغ تحيل إلى تخصيص شاعر بارع بلقب وطني يخلّد اسمه مقرونا باسم بلاده ليكون بذلك “شاعر الوطن”، وهو ما كان يدفع ناشئة الشباب للتفرغ للإبداع الأدبي اقتداء بأصحاب هذا اللقب، وطلبا لما حازوه من تميز ومكانة عند الناس، كما حصل للأديب الأندلسي ابن عبد ربه (مؤلِّف كتاب ‘العِقْد الفريد‘) الذي كان شعبه يلقبه “شاعر البلد”!!
ونجد قصة دالة عن هذا اللقب عند الحافظ الحُميدي في ترجمته للشاعر الأديب يحيى بن هُذَيْل الأندلسي (ت 386هـ/997م)؛ إذْ يروي عنه قوله إن “أول تعرضه للشعر إنما كان لأنه حضر جنازة أحمد بن محمد بن عبد ربه، قال: وأنا يومئذ في أوان الشبيبة؛ قال: فرأيتُ فيها من الجمع العظيم وتكاثُرِ الناس شيئا راعني! فقلتُ: لمَنْ هذه الجنازة؟ فقيل لي: لـ«شاعر البلد»! فوقع في نفسي الرغبة في الشعر” من يومها!!
ويتحدث المقّري عن أحد الشعراء عاش بعد تلك الواقعة بقرنين؛ فيقول عنه: “وهو من مشهوري شعراء الأندلس، ولمّا أنشد أميرَ المؤمنين عبد المؤمن بن علي (مؤسس دولة الموحدين ت 558هـ/1163م) بجبل الفتح (= جبل طارق) قولَه:
غَمِّضْ عن الشمس واستقْصِرْ مدى زُحَلِ ** وانظرْ إلى الجبل الراسي على جبل!
قال له [الأمير]: أنت «شاعر هذه الجزيرة» (= الأندلس)، لولا أنك بدأتنا بغمض وزحل والجبل”!
احتفاء مزدوج
لم يستأثر الشعر العربي وحده باقتناص الجوائز والعطايا في مسيرة الحضارة الإسلامية؛ فالأعمال النثرية وفنون التأليف كان لها حظها من الاحتفاء الواسع بها والذي تلاحقت نماذجه طوال قرون الإسلام وعلى امتداد رقعة جغرافيته؛ فكثيرا ما يقابلنا -في كتب التاريخ والتراجم- أن سلطانا أو وزيرا كبيرا كان يغدق الجوائز على العلماء كما يفعل مع الشعراء، وما ذلك إلا لأن الجوائز التشجيعية -كانت ولا تزال- أكبر مشجع ومُعين للكُتّاب والمؤلفين على الإبداع الأدبي والإنتاج العلمي!
وقد بدأ تقليد جوائز الأعمال النثرية مع استهلال عصور التأليف في الحضارة الإسلامية؛ فهذا أديب العربية الجاحظ (ت 255هـ/869م) ينال جوائز دولة تشجيعية عن ثلاثة من مؤلفاته العظيمة بما تبلغ قيمة مجموعه اليوم ما يساوي تقريبا ثلاثة ملايين دولار أميركي، أي بمعدل مليون دولار مكافأةً عن كل كتاب، وهو ما يعادل اليوم بالضبط قيمة “جائزة نوبل” للآداب!!
ولندع الجاحظ يحدثنا بنفسه عن ذلك -فيما نقله عنه الذهبي في ‘السِّيَر‘- بقوله: “أهديتُ كتاب ‘الحيوان‘ إلى محمد بن عبد الملك (الزيّات الوزير ت 233هـ/848م) فأعطاني خمسة آلاف دينار! وأهديت كتاب ‘البيان والتبيين‘ إلى ابن أبي دُؤاد (ت 240هـ/855م) فأعطاني خمسة آلاف دينار! وأهديت كتاب ‘الزرع والنخل‘ إلى إبراهيم بن العباس الصولي (كبير الكتّاب العباسيين ت 243هـ/857م) فأعطاني خمسة آلاف دينار! فانصرفت إلى البصرة ومعي ضَيْعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد”!!
وإذا كانت جوائز المؤلفين والرواة بدأت على شكل الجوائز الممنوحة من الدولة والمؤسسات تشجيعا وتقديرا؛ فإن تقويمها في إطار التنافس يظهر في مثل ما رواه ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- مُورِدا خطابَ تكريمٍ رسميا لعلماء متخصصين في مجال الرواية وعلوم الأدب مع قرض الشعر، وهو قول أحد موظفي بلاط الخليفة العباسي المهدي (ت 169هـ/787م) حيث “اجتمع.. عِدّةٌ من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها”:
“يا معشر مَنْ حضر من أهل العلم؛ إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وَصَلَ (= أعطاه جائزة) حمادا الشاعر (= حماد الراوية ت 155هـ/773م) بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها؛ ووصل المفضَّلَ (الضَّبِّي ت بعد 171هـ/788م) بخمسين ألفًا لصدقه وصحة روايته؛ فمن أراد أن يسمع شعرًا جيدا مُحْدَثًا فليسمعه من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضَّل”!!
وقد سبقت الحضارة الإسلامية إلى تقليد “جوائز الدولة” للكِتَاب والترجمة، ووصلت فيها إلى مستوى لم تصله حتى دول عالمنا اليوم رغم تفننها في تقدير المؤلَّفات وتكريم المؤلِّفين؛ فقد عرفت هذه الحضارة دفع جوائز كتب الإبداع العلمي بوزن مؤلفاتها ذهبا!!
مكافآت سخية
فالمؤرخ ابن أبي أصَيْبِعة (ت 686هـ/1270م) يذكر -في ‘عيون الأنباء‘ـ أنه عندما عزم الخليفة العباسي المأمون (ت 218هـ/833م) على ترجمة التراث اليوناني العلمي والفلسفي إلى العربية “أحضَرَ.. حُنَين ابن إسحق (ت 260هـ/874م) -وكان فتيَّ السنّ- وأمره بنقل (= ترجمة) ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى [اللسان] العربي، وإصلاح ما ينقله غيره؛ فامتثل أمرَه. ومما يحكى عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زِنَةَ ما ينقله من الكتب إلى العربي مِثْلًا بمِثْل”!!
ولذلك كان حنين يحتال للحصول على أكبر كمية من الذهب في جوائزه؛ فكان -وفقا لابن أبي أصَيْبِعة الذي قال إنه رأى أصول بعض ترجماته تلك- يتعمد “تعظيم حجم الكتاب وتكثير وزنه لأجل ما يقابل به من وزنه دراهم” فضية ودنانير ذهبية!!
ورغم ذلك؛ فإنه -في الشق اللصيق بجوائز الأدب- برزت تلك الملحوظة التي سجلها أبو حيان التوحيدي (ت بعد 400هـ/1010م) في ‘الإمتاع والمؤانسة‘، ومفادها أنه “إذا تتبّعت جوائز الشّعراء التي وصلت إليهم من الخلفاء وولاة العهود والأمراء والولاة في مقاماتهم المؤرّخة، ومجالسهم الفاخرة وأنديتهم المشهورة؛ وجدتَها خارجة عن الحصر بعيدة من الإحصاء، وإذا تتبّعت هذه الحال لأصحاب النّثر لم تجد شيئا من ذلك”!!
ويمكن القول إنه إذا كانت جوائز الكتاب الأدبي جزءا من إطار حضاري عام يهتم بمختلف المؤلفات؛ فإن مسيرتها تعكس شيئا كالذي كان يتم مع الشعراء من إحرازهم جوائز البلاطات المتعددة، وإثارتهم صدى في السوق الأدبي وعند الرأي العام.
ويدل على ذلك ما حدّث به ياقوت الحموي من أن “أبا الفرج [الأصفهاني] أهدى كتاب ‘الأغاني‘ إلى سيف الدولة ابن حمدان (ت 356هـ/967م) فأعطاه ألف دينار (= 200 ألف دولار أميركي تقريبا)، وبلغ ذلك الصاحبَ أبا القاسم بن عبّاد فقال: لقد قصّر سيف الدولة وإنه يستأهل أضعافها”!!
وفي إطار ما أحدثه صدى هذه الجائزة؛ يقول ابن الأبّار الأندلسي -في ‘الحُلَّة السِّيَرا‘- إن خليفة الأندلس الأموي الحَكَم المستنصر (ت 366هـ/977م) “بعث إلى أَبي الفرَج الْأَصْبَهَانِيّ/الأصفهاني الْقرشِي المرواني ألفَ دِينَار عَيْناً ذَهَبا، وخاطبه يلْتَمس مِنْهُ نُسْخَة من كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي الأغاني، وَمَا لأحد مثلُه”!!
دعم مؤسسي
وفي القرن السابع الهجري/الـ13م؛ نجد أن سلاطين الدولة الأيوبية بذلوا عناية كبيرة في الجمع بين تشجيع العلماء والشعراء؛ على نحو ما كان يتبعه الملك الأمجد الأيوبي (ت 627هـ/1230م) سلطان بعلبك، الذي يخبرنا المؤرخ ابن واصل الحموي (ت 697هـ/1298م) -في ‘مفرِّج الكروب في أخبار بني أيوب‘- بأنه كان “ملكا جليلا فاضلا متأدبا، يحب العلماء والفضلاء والشعراء وأهل الأدب، ويجيزهم بالجوائز الكثيرة، وكان يقول الشعر الجيد البديع.. ولم يكن في [سلاطين] بني أيوب أشعر منه”!!
وفي القرن نفسه؛ صار تخصيص الجوائز لحفظ كتب العلم سياسة تعليمية متَّبعة لدى السلطان الأيوبي المعظَّم عيسى ابن العادل (ت 624هـ/1227م)، الذي جمع التضلع في العلوم إلى حمل أعباء الملك وتدبير الدول؛ فكان عالِما محدِّثا ولغويا نحويا وفقيها حنفيا متبحرا في مذهبه “حتى تأهَّل للفتيا” فيه؛ طبقا للذهبي في ‘السِّيَر‘.
وكان مخْلِصا لمذهبه إلى حد “التعصب” له ورصد الجوائز المالية لمن يحفظ أمهات كتبه الفقهية؛ فالذهبي يقول إن السلطان المعظّم “كان يتعصب لمذهبه [الحنفي]، وقد جَعَلَ لمن عَرَض (= حفِظ).. ‘الجامعَ الكبير‘ [للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م)] مئتيْ دينار (= اليوم 40 ألف دولار أميركي تقريبا)” مكافأةً.
ويفيدنا المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- بأن هذا السلطان “نَفَقَ (= راجَ) العلمُ في سوقه، وقصده العلماء من الآفاق فأكرمهم وأجرى عليهم الجرايات (= الرواتب) الوافرة” عليهم.
ويذكر ابن خلّكان -في ‘وفيات الأعيان‘- أن المعظَّم “شَرَط لكل من يحفظ [كتاب] ‘المُفصَّل‘ للزمخشري (ت 539هـ/1144م) مئة دينار وخِلْعَةً (= ثيابا ثمينة)، فحفظه لهذا السبب جماعة” من الفقهاء! بينما ينسب إليه المحدِّث ابن قُطْلوبُغا (ت 879هـ/1474م) -في ‘تاج التراجم‘- أنه رصد “لمن يحفظ [كتاب] ‘الإيضاح‘ [في النحو لأبي علي الفارسي ت 377هـ/988م] ثلاثين دينارا، سوى الخِلَع” أي الثياب الفاخرة!!
ولم تكن الجوائز العينية هي الشكل الوحيد للتكريم الذي يناله المبدعون من الأدباء تقديرا لمكانتهم في المجتمع؛ بل إن تعيينهم في المناصب الرسمية العالية -بما فيها منصب الوزارة الذي تولاه عدد من كبار الأدباء مشرقا ومغربا- كان من أبرز صور التكريم والمكافأة التي استحقوها طوال العصور الإسلامية.
ومن نماذج ذلك تعيين الشاعر أبي تمام على رأس إدارة “بريد الموصل فأقام بها أكثر من سنة” حتى توفي ودُفن في مقابرها؛ طبقا للذهبي وابن خلّكان. ومعلوم ما كان لتلك الوظيفة من أهمية حساسة سياسيا وأمنيا بسبب اتصال جهاز “ديوان البريد” قديما بمؤسسات أمن الدولة وأجهزة استخباراتها.
ويترجم تاج الدين ابن السَّاعي (ت 674هـ/1275م) -في ‘الدر الثمين‘- للفقيه الأديب جعفر بن مكي بن علي بن سعيد الشافعي (ت 639هـ/1241م)؛ فيصفه بأنه كان من أهل “علم الأدب وقال الشعر، ورُتِّبَ خازنا بالخزانة (= المكتبة) الناصرية بالمدرسة النظامية [ببغداد]..، [ثم] جالس الإمام الناصر لدين الله (العباسي ت 622هـ/1225م) وجعله على ديوان البريد، ومتقدما على الشعراء في الإيراد..، وله كتاب في الموسيقى وديوان شعره. وقد رتبه الإمام المستنصر بالله [العباسي] حاجب باب المراتب” الذي هو أحد الأبواب الحساسة في دار الخلافة العباسية ببغداد!!