استقبل القراء في النصف الثاني من شهر سبتمبر 2025 م الترجمة العربية المنتظرة لكتاب “السباق إلى الجنة .. تاريخ إسلامي للحروب الصليبية”. صاغ المؤلف أ.د. بول م. كوب، كتابه باعتماد واسع على المظان العربية، وأنجز الترجمة الدكتور علاء مصري النهر بينما صدر الكتاب عن مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة.

 ينبع تميز الإصدار في أن زاوية النظر للموضوع ركزت على التجربة الإسلامية في سرد الحكاية، وغطت جغرافيا الصراع الممتدة من الأندلس وصقلية وإفريقية والشام، لتوثق تاريخ التفاعل والمواجهة بين العالمين الإسلامي والأوروبي بعيدا عن السرديات التقليدية.

 البنية العامة

 يضم الإصدار إهداء وتقديما للمؤلف أ.د. بول م. كوب ، أستاذ تاريخ الشرق الأدنى وحضاراته بجامعة بنسلفانيا الأمريكية مخصصا للترجمة العربية يوضح المنظور وأهمية التعريب، ثم تتبعها مقدمة علمية للدكتور علاء مصري النهر، المؤرخ والمترجم المتخصص، الحائز على المركز الثاني بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي عن ترجمته لكتاب «صلاح الدين وسقوط مملكة بيت المقدس» تبرز جهود الترجمة والإطار المنهجي للعمل وتحليله النقدي. وقد اهتمت الترجمة بضبط النص وتخريج مصادره وتقديم بعد نقدي متعمق يضيف للطبعة العربية قيمة أكاديمية متميزة.

محتويات كتاب “السباق إلى الجنة .. تاريخ إسلامي للحروب الصليبية”

 تقسم مادة الكتاب إلى استهلال بعنوان “مفترق طرق دمشق”، وتسعة فصول مرتبة تاريخيا، تليها خاتمة ثم ملحقات متنوعة مكونة من : اختصارات، مخطط ببليوغرافي، مصادر المترجم ومراجعه، كشاف فقهي وتاريخي، قوائم للخرائط والأشكال التوضيحية.

تبدأ الفصول من استعراض جذور الصدام، عبر تمثال صلاح الدين في دمشق كمدخل سردي يربط الماضي بالحاضر، وتفكيك الأسطورة المعاصرة لصلاح الدين عبر إعادة قراءة المصادر الأولى، ثم استعراض تتابع الأحداث من دار الإسلام، إلى البحر المتوسط كمسرح للصراع، ثم رواية التفتت السياسي، نشوء فكرة الجهاد، صعود الزنكيين، استراتيجية صلاح الدين، حملات الفرنجة والمماليك، وأخيرا صعود العثمانيين وانحسار المسلمين في الغرب.

رجل في منتصف العمر يرتدي نظارات وقميص بولو تحت سترة داكنة. تعبير وجهه واثق ومبتسم، والخلفية رمادية.
أ.د. بول م. كوب ، مؤلف كتاب “السباق إلى الجنة”

مفترق طرق دمشق

يفتتح كوب كتابه بتمثال صلاح الدين بدمشق، ليؤكد أن “السردين الشائعين، الانتصاري والبكائي، ليسا ملخصا صادقا لتلك التجربة”، حيث يقول الدكتور علاء مصري النهر في مقدمته : “فعملا بالمثل القائل “الإيناس قبل الإبساس” زين كوب كتابه باستهلال.. أتي فيه على ذكر صلاح الدين، الذي فاز فيه بالسهم الربيح؛ وهو واسطة العقد فالصدارة حقه أينما حل”.

يرفض الاستهلال الحصر الزمني التقليدي للحروب الصليبية ويعيد تعريف نقطة البداية، من الأندلس وصقلية عبر عقود قبل حملة كليرمونت، ليغدو العدوان الفرنجي ظاهرة أقدم وأوسع نطاقا، وليصبح موضوع الكتاب محاولة وافية لرواية التاريخ كما فهمه “المسلمون القروسطيون” أنفسهم.

دار الإسلام

 يفصل الفصل الأول الرؤى الإسلامية للعالم وللآخر في مرحلة ما قبل الغزو، ويعتمد على روايات الرحالة والجغرافيين ليعرض مفهوم “دار الإسلام”، وفروق الجهاد عن الحرب المقدسة، ومنزلة الشهيد، كما يوضح الدكتور النهر: “ينطلق بك مع رحلة الأسير هارون بن يحيى الإسرائيلي إلى القسطنطينية وروما… والمعجب حقا حديثه عن الفرق بين الجهاد والحرب المقدسة، ومنزلة الشهيد… إلى كلامه الرائق عن الأرض المقدسة”. ينشئ الفصل أرضية تاريخية لفهم إدراك المسلمين للصدام؛ فهي حضارة معقدة تملك وعيها الذاتي وقوتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتبنى على التبادل والمعرفة لا حصار الانغلاق أو رد الفعل السلبي.

 البحر المروع

 يحلل الفصل الثاني البحر المتوسط كمسرح صراع حضاري، ويبرز سقوط صقلية في يد النورمان علامة تغير استراتيجي ونفسي في تاريخ المسلمين، ويقتبس الدكتور النهر: “المصادر المبكرة ترى أن الحروب الصليبية في سورية وفلسطين ليست ظاهرة جديدة، بل هي آخر حلقات اعتداءات الفرنجية على دار الإسلام، وأولى هذه الغزوات هي ضياع صقلية”.

 يفسر كوب كيف ساهمت الانقسامات الطائفية والحرب الباردة السنية-الشيعية، إلى جانب الحروب الأندلسية، في التمهيد لغزو الممالك الصليبية، ليصبح الشرق امتدادا للأحداث في الغرب مسار المواجهة تتبع الكتاب في الفصول من الثالث إلى السابع سرد الحروب في المشرق، كاشفا عن تطور الرد الإسلامي من الفوضى والانقسام إلى المقاومة التي بلغت ذروتها مع صلاح الدين.

ركب الناس السيف

 يطرح الفصل الثالث مشاهد الفوضى والصراع السياسي الداخلي في بلاد الشام قبيل الحملة الأولى، وينسب نجاح الفرنج في بيت المقدس إلى شلل الأمراء المسلمين وانقسامهم، مصورا المشهد بعنوانه المستعار من المصادر الأولية: “ركب الناس السيف”، حيث يعلق الدكتور النهر: “يشوقنا بحديث أولي عن أوضاع بلاد الشام قبل مجيء الحملة الصليبية الأولى…”.

المجاهدة في أعداء الله

يفصل الفصل الرابع ردود الفعل الإسلامية الأولى غير الموحدة على الهجمات الفرنجية، مركزا على شيزر وبني منقذ كمثال حي على الاتجاهات المحلية للمهادنة والمقاومة، كما ينقل الدكتور النهر: “يبدأ الفصل بحديث عن قلعة شيزر وأصحابها… ثم يشرع في تبيين ردود أفعال المسلمين الأولى تجاه الفرنج…”. فلنذقهم من بأسنا يبرز الفصل الخامس ظهور حركة الجهاد المضاد على يد الزنكيين، ويوظف السرد الزمني والانتقال الجغرافي بين الشام والأندلس وصقلية لإبراز تزامن الأحداث، موضحا دور المرابطين والموحدين في حماية الغرب الإسلامي، ليرتبط مشروع الجهاد في الشرق بإستراتيجية استعادة مصر. يقول الدكتور النهر: “يتحدث عن الموحدين ودورهم في الحفاظ على الأندلس… وعن حملات نور الدين الثلاث على مصر…”.

الخيمة الساقطة

يركز الفصل السادس على عصر صلاح الدين ومعركة حطين، ويستخدم التعايش السلمي بين المسلمين والفرنج – مثل قصة زواج التاجر المسلم بإفرنجية – لإدخال طبقة من التعقيد تظهر استمرار التبادل الإنساني الثقافي رغم ذروة الصراع. يعقب الدكتور النهر: “يطيل الوقوف عند صلاح الدين، معنونا حديثه عنه ب(السيف القاطع)… ويضع حكاية تاجر مسلم تزوج إفرنجية ليدلل على وجود علائق سلمية وتجارية…”.

من كل فج عميق

 يصف الفصل السابع تدفق جحافل الحملة الصليبية الثالثة وتفاعل صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد، ويحلل السياسات الأيوبية بعد صلاح الدين، حيث أصبحت الدبلوماسية والتجارة أدوات استراتيجية، كما يشير الدكتور النهر لمحورية غزو مصر في التفكير الصليبي الاستردادي. تحولات القوة ونهاية العصر في فصوله الأخيرة، يرسم الكتاب لوحة جيوسياسية معقدة لنهاية حقبة الحروب الصليبية، حيث لم يكن هناك منتصر أو مهزوم بشكل مطلق، بل إعادة تشكيل كبرى لموازين القوى في الشرق والغرب.

 ذئاب وأسود

 يستعرض الفصل الثامن ظهور المغول كذئاب، والمماليك كأسود، ويبرز فن المماليك في استئصال الوجود الفرنجي وحملاتهم المنظمة التي اختتمت بسقوط عكا. يؤكد أن الصراع لم ينته بسقوط عكا، بل انتقل لصراع جديد في الجزر المتوسطية، ويقول الدكتور النهر: “المغول ذئاب، والمماليك أسود… استفتح الفصل بحديث مستفيض عن ظهور المغول وقضاء المماليك عليهم…”.

رجل في بدلة رسمية، مبتسم، يقف أمام خلفية غير واضحة. يظهر بمظهر واثق وجاد.
د.علاء مصري النهر، مترجم كتاب “السباق إلى الجنة”

دعوهم يكونون مادحينا

 نهاية العصر وتحولات الغرب والشرق في الفصل التاسع، يصنع كوب لوحة تاريخية ختامية بتصوير صعود العثمانيين في الشرق، وانحسار الإسلام في الغرب بفقدان غرناطة وصقلية، ليمنح نهاية الحقب طابعا جيوسياسيا لا انتصارا أحادي الجانب. يرصد الدكتور النهر في شرحه للفصل: “يقف أمام الدولة العثمانية ويربطها بصقلية وغرناطة… يبدأ بفتح القسطنطينية وينتهي بخسارتين: صقلية والأندلس”.

 خاتمة الكتاب

 توظف الخاتمة أسطورة تماثيل أنطاكية الصغيرة، وتطوي السرد بمنهجية نقدية أبرزها تحليل المترجم الدكتور علاء الذي يرى أن “فشل أوروبا العسكري دفعها إلى خوض معركة المعرفة والعلم”، وأن “اكتسابها العلوم من دار الإسلام كان بمثابة قضاء مستور وعقاب مستقبلي”؛ ليغدو ذلك تمهيدا لمواجهة العصر الحديث مع الاستعمار، مما يضفي على العمل بعدا روحانيا وتفسيرا تأريخيا يصل الماضي بالحاضر.

 خلاصة

يمثل كتاب “السباق إلى الجنة.. تاريخ إسلامي للحروب الصليبية” في نسخته العربية إضافة متميزة إلى مكتبة الدراسات التاريخية، إذ أعاد المؤلف كوب بناء السرد التاريخي للحروب الصليبية عبر منظور المصادر الإسلامية، كاشفا عن أبعاد سياسية وثقافية دقيقة. وزادت ترجمة الدكتور علاء مصري النهر من تميز العمل، مما سيثري الفهم ويفتح آفاقا جديدة أمام الباحثين والمهتمين.