لم يكن التحول من الجاهلية إلى الإسلام حدثا عاديا، كانتساب المرء إلى حزب أو طائفة، بل كان ولادة ثانية، ونشأةً جديدة هزت أعماق العربي، وجعلت من ماضيه وعوائده ظلمات بددها نور الهداية، إلا ما كان من مكارم أخلاق بُعث النبي ﷺ ليتممها. لذا كان تنبيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمن سيأتي بعده من المؤرخين وكُتاب السير بليغا لما قال:” لا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية”.
إن الدارس لأحداث السيرة النبوية، والأدوار المجيدة التي اضطلع بها الصحابة رضوان الله عليهم لنصرة التوحيد، والدفاع عن النبوة والرسالة، تستوقفه محطات وشخوص ومواقف لم تستوف حقها من الفهم واستلهام الدروس الحية. وقد يرجع السبب لغفلة عن تداعيات النقلة الهائلة التي أحدثتها الرسالة المحمدية على مستوى الفرد والجماعة، أو ربما انسياقا مع النهج المعتمد في كتابة السيرة النبوية منذ أمد طويل، والذي استوقفته المنعطفات الحاسمة في مسار الدعوة، فاستبعد دون أن يشعر وقائع وتفاصيل مفعمة بالدروس والعبر!
من الشخصيات التي لها حضور في السيرة النبوية وتحتاج إلى قراءة متجددة، وإضاءة كاشفة تبدد غبش التقييم المتسرع : الصحابية الجليلة نسيبة بنت كعب من بني مازن بن النجار، الملقبة بأم عمارة. امرأة من الأنصار حضرت بيعة العقبة الكبرى إلى جانب أسماء بنت عمرو، وعاينت لحظة البيعة التي اشترط فيها النبي ﷺ أن يحميه قومها مما يحمون منه أبناءهم ونساءهم؛ وكيف أن قومها أبدوا استعدادهم للتصدي لجبهة الشرك، وبذل الدماء والأموال في سبيل ما يؤمنون به.
حضرت أم عمارة هذا اللقاء التاريخي وهي امرأة حديثة عهد بالإسلام، ولاتزال الأدوار الاجتماعية التي حددها المجتمع الجاهلي للمرأة ثابتة وراسخة. فالرجل هو القيّم الطبيعي على البيت، والمرأة تَبعٌ له وعليها إطاعة أوامره. لذا فإن الغاية من خروجها يوم أحد كانت منسجمة مع صورة المرأة في المجتمع آنذاك، فهي خرجت لتنظر ما يصنع الناس، ومعها سِقاء فيه الماء. أي أن مشاركتها لن تتعدى سقاية المقاتلين وتتبع أطوار النزال، فما الذي جرى ؟
تقول أم عمارة:” لما انهزم المسلمون اِنحزْتُ إلى رسول الله ﷺ فجعلت أباشر القتال، وأذبُّ عن رسول الله بالسيف، وأرمي بالقوس، حتى خلُصت إليّ الجراح”.
هل كانت اندفاعة بالغة الحماس، أم استشعارا للمسؤولية أمام الشروط التي تضمنتها بيعة العقبة الثانية؟ شروط النصرة وافتداء النبي ﷺ وحمايته؟
إن الجواب يكمن في طبيعة الانقلاب الهائل الذي مس عقل العربي وكيانه، لمّا فارق منظومة الوثنية بكل عوائدها وتقاليدها، وأقبل على التوحيد بما يعنيه من كرامة، وإعادة توزيع للأدوار و المسؤوليات. وهو الانقلاب الذي عبّرت عنه أم عمارة بتحولها المفاجئ من سقاية الماء إلى تمتين الجبهة الدفاعية في لحظات عصيبة.
تراجع المسلمون فانكشف موضع رسول الله ﷺ. ولم يكن حوله ممن يدافع عنه سوى نفر أقل من أصابع اليد. فانبرت أم عمارة وزوجها وولداها لتلقي الطعنات وصد المشركين الذين همّوا بأذيته. إنه مشهد يُنبئ عن ارتقاء الوشيجة الأسرية إلى وضع أسمى، تهتز فيه الأدوار المعتادة حماية للعقيدة والرسالة. فالزوج والزوجة يقاتلان، والأبناء يدعمون صمود الأم فيربطون جراحها لوقف النزيف. ويبلغ المشهد ذروته الملحمية حين يُبدي النبي ﷺ تعجبه من شجاعتها قائلا: ما التفت يمينا أو شمالا يوم أحد إلا وأنا أراها تقاتل دوني.. لَمقامُ نسيبة بنت كعب يوم أحد خير من مقام فلان وفلان”. فهل يقال بعد هذا أن الإسلام ظلم المرأة وحطّ من مكانتها؟
جرت العادة أن توصف المرأة بالرقة وغلبة العاطفة. واجتهد تيار الرومانسية في الروايات والأعمال الفنية على تثبيت صورة الكائن اللطيف في الأذهان. ولم يَسلم الخطاب الدعوي بدوره من ترسيخ هذا الفهم، عملا بحديث الرفق بالقوارير، رغم أن الرفق لا يعني بالضرورة تكريس الضعف والهشاشة. لذا كان موقف النبي ﷺ من اقتحام أم عمارة لصفوف القتال دليلا على أن من حق المرأة أن تفجر عطاءها، وتُبرز تضحيتها دون اعتداد بالأدوار المحددة سلفا، فخط العقيدة لا يحتمل التمييز بين الجنسين!
وقفت أم عمارة تقاتل بينما الناس يمرون منهزمين، ولم يكن معها ترس تحمي به نفسها من ضربات السيوف. فرأى النبي ﷺ رجلا مُوَليا معه ترس فقال: يا صاحب الترس، ألقِ ترسك إلى من يقاتل! فأخذته المازنية.
نعم.. ألقِ ترسك إلى من يقاتل، لأن قوة المؤمن في قلبه، وصنع الملاحم ليس مهمة ذكورية خالصة، فكم من ملحمة أحرزت فيها النساء قصب السبق، وألهب إيمانهن وحماستهن قلوب الرجال.
ويتلقى الابن ضربة بالسيف في عضده اليسرى، فتُقبل أم عمارة لتربط جراحه، والنبي ﷺ واقف ينظر إليهما، ثم تقول: انهض يا بني فضَاربِ القوم! فجعل النبي يقول: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة! وهنا درس بليغ في التوازن المطلوب بين العاطفة ونصرة العقيدة، حيث تُخمَد جذوة الأمومة في سبيل الله ورسوله، فلا تتحرج الأم من إلقاء فلذة كبدها في أتون المعارك. وحاجتنا اليوم إلى هذا الدرس مؤكدة، في ظل ما نعاينه من احتضان مفرط للأبناء، وحرص زائد جعل بعض الأسر تستعين بقوى “خارجية” لتربية الصغار!
ويُقبل الابن في مشهد آخر ليعصب جرح أمه، والنبي ﷺ يردد متبسما: بارك الله عليكم من أهل بيت! رحمكم الله أهل البيت! وتستثمر أم عمارة لحظة التكريم النبوي فتقول: ادع الله أن نرافقك في الجنة، فيقول ﷺ: اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة. وبذلك تضيف أم عمارة إلى جدول أعمال الأسرة بندا ساميا يتضمن الحرص على اجتماع الشمل الأسري في جنات النعيم !
فتحت أم عمارة باب الجهاد النسائي لتخط بدمها صفحة مشرقة تؤكد الولادة الثانية، وتتيح للمرأة سبل المشاركة في الحياة العامة. فكانت بدايةُ النموذج الإسلامي لتحرير المرأة عملية على أرض المعارك، لا مجرد بيانات وخطب يُكذبها واقع الحال. يقول الدكتور محمد عمارة رحمه الله في تعقيبه على بيعة رسول الله ﷺ للنساء:” فكل ما تستطيعه المرأة وتطيقه فطرتها وأنوثتها من العمل العام، بابُه مفتوح أمامها، طالما لم يؤد ذلك إلى طمس للفطرة، أو مخالفة لثابت الدين. وهي في هذه الضوابط ،الموضوعة على المشاركة في العمل العام، تستوي مع الرجال الذين لا يجوز أن تطمس مشاركتهم في العمل العام فطرة الذكورة والرجولة، ولا أن تخالف ثواب الدين.”[التحرير الإسلامي للمرأة.ص33].
لم يكن حضور أم عمارة في بيعة العقبة مجرد تمثيلية للنساء في حدث بالغ الأهمية، وإنما تأكيدا على دورهن في بناء الأمة، الذي هو امتداد طبيعي للبناء الأسري. وحين يتطلب المنعطف الحاسم قرارا مصيريا، فلا شك أن التضحية بالوشيجة الأسرية ورابطة القرابة، لصالح الدين ونصرة العقيدة هو الاختيار الأمثل، سواء لمن هاجروا، أولمن آووا ونصروا.. لا فرق ! لذا كانت مواقف أم عمارة تجاوبا مع هذا التصور وتلك القناعة، لذا حين جاءها نعي ابنها حبيب، الذي بعثه النبي ﷺ رسولا إلى مسيلمة، فقتله الكذاب شر قتلة، لم تزد على أن قالت: “من أجل مثل هذا الموقف أعددته، وعند الله احتسبته. لقد بايع الرسول ﷺ ليلة العقبة صغيرا، ووفّى له اليوم كبيرا.”
واستمرارا في ترسيخ النموذج الفريد للمرأة المسلمة، وتأكيد أن إعلاء كلمة الله غاية يستوي في السعي إليها الرجال والنساء، فقد حرصت على حضور المشاهد مع رسول الله ﷺ. واجتهدت يوم اليمامة أن تصل إلى مسيلمة لولا أن يدها قُطعت وأثخنتها الجراح، فعادت إلى المدينة بيد واحدة وابن وحيد، وسجل حافل بالمكرمات.