استفتح الإمام ابن عاشور رحمه الله تفسيره لهذه الآية- [الأنعام: 106] – بتحديد موقعها في السياق، وعلاقتها بما قبلها – جرياً على عادته – توطئة لتفسيرها، فقال : ” عطف على قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، يزيد معنى الإعراض المأمور به بياناً، ويحقق ما قلناه أن ليس المقصود من الإعراض ترك الدعوة، بل المقصود الإغضاء عن سبابهم وبذيء أقوالهم، مع الدوام على متابعة الدعوة بالقرآن؛ فإن النهي عن سب أصنامهم يؤذن بالاسترسال على دعوتهم، وإبطال معتقداتهم، مع تجنب المسلمين سب ما يدعونهم من دون الله”.
وبعد أن بين أن السب: “كلام يدل على تحقير أحد أو نسبته إلى نقيصة أو معرّة، بالباطل أو بالحق، وهو مرادف الشتم”، نفى أن يكون منه “النسبة إلى خطأ في الرأي أو العمل، ولا النسبة إلى ضلال في الدين إن كان صدر من مخالف في الدين”.
كما نفى أن يكون المخاطب بهذا النهي الرسول ﷺ؛ “لأن الرسول لم يكن فحّاشاً ولا سبّاباً؛ لأن خُلقه العظيم حائل بينه وبين ذلك، ولأنه يدعوهم بما ينزل عليه من القرآن”، وإنما المخاطب هنا هم المسلمون؛ لأنه “لغيرتهم على الإسلام ربما تجاوزوا الحد ففرطت منهم فرطات سبّوا فيها أصنام المشركين”. واستشهد على ذلك بما روى الطبري عن قتادة قال «كان المسلمون يسبّون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله أن يستسبوا لربهم»، وهذا – كما يقول ابن عاشور – “أصح ما رُوي في سبب نزول هذه الآية وأوفقه بنظم الآية”، وردّ الروايات الأخرى؛ لأنها لا تصح سنداً أو لا تصلح لأن تعتبر سبباً لنزول الآية.
ثم ناقش ما استشكله الفخر الرازي في هذا الصدد، إذ قال: “هاهنا إشكالان هما: أن الناس اتفقوا على أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة، فكيف يصح أن يقال: إن سبب نزول هذه الآية كذا، وأن الكفار كانوا مقرين بالله تعالى، وكانوا يقولون: عبدنا الأصنام لتكون شفعاء لنا عند الله، فكيف يعقل إقدام الكفار على شتم الله تعالى. اهـ.”. فقال ابن عاشور: “يدفع الإشكال الأول أن سبب النزول ليس يلزم أن يكون مقارناً للنزول؛ فإن السبب قد يتقدم زمانه، ثم يشار إليه في الآية النازلة، فتكون الآية جواباً عن أقوالهم…
ويدفع الإشكال الثاني أن المشركين قالوا لئن لم تنته عن سب آلهتنا لنهجون إلهك، ومعناه أنهم ينكرون أن الله هو إلهه، ولذلك أنكروا الرحمان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60]، فهم ينكرون أن الله أمره بذم آلهتهم؛ لأنهم يزعمون أن آلهتهم مقربون عند الله، وإنما يزعمون أن شيطاناً يأمر النبي ﷺ بسب الأصنام، ألا ترى إلى قول امرأة منهم لما فتر الوحي في ابتداء البعثة: ما أرى شيطانه إلا ودّعه، وكان ذلك سبب نزول سورة الضحى.
وردّ تأويل الفخر “بأن بعضهم كان لا يثبت وجود الله وهم الدهريون، أو أن المراد أنهم يشتمون الرسول- عليه الصلاة والسلام- فأجرى الله شتم الرسول مجرى شتم الله كما في قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله [الفتح: 10] » اهـ”، حيث يرى ابن عاشور: “أن في هذا التأويل بعداً لا داعي إليه”.
والوجه في تفسير الآية عنده “أنه ليس المراد بالسب المنهي عنه فيها ما جاء في القرآن من إثبات نقائص آلهتهم مما يدل على انتفاء إلهيتها، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} في سورة الأعراف [179]، وأما ما عداه من نحو قوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] فليس من الشتم ولا من السب؛ لأن ذلك من طريق الاحتجاج، وليس تصدياً للشتم، فالمراد في الآية ما يصدر من بعض المسلمين من كلمات الذم والتعيير لآلهة المشركين…”.
ووجه نهي المسلمين عن سب أصنام الكافرين – عند ابن عاشور – “هو أن السب لا تترتب عليه مصلحة دينية؛ لأن المقصود من الدعوة هو الاستدلال على إبطال الشرك، وإظهار استحالة أن تكون الأصنام شركاء لله تعالى، فذلك هو الذي يتميز به الحق عن الباطل، وينهض به المحق، ولا يستطيعه المبطل، فأما السب فإنه مقدور للمحق وللمبطل، فيظهر بمظهر التساوي بينهما”.
بل – كما يقول ابن عاشور – “ربما استطاع المبطل بوقاحته وفحشه ما لا يستطيعه المحق، فيلوح للناس أنه تغلّب على المحق”، ثم “إن سب آلهتهم لما كان يحمي غيظهم ويزيد تصلبهم قد عاد منافياً لمراد الله من الدعوة، فقد قال لرسوله- عليه الصلاة والسلام- {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وقال لموسى وهارون- عليهما السلام- {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}، فصار السب عائقاً من المقصود من البعثة، فتمحض هذا السب للمفسدة، ولم يكن مشوباً بمصلحة…”.
ونوّه ابن عاشور إلى أن “حكم هذه الآية محكم غير منسوخ”، واستشهد بقول القرطبي: “قال العلماء: حكمها باق في هذه الأمة على كل حال، فمتى كان الكافر في منعة وخيف أنه إن سب المسلمون أصنامه أو أمور شريعته أن يسب هو الإسلام أو النبي – عليه الصلاة والسلام- أو الله عز وجل لم يحل للمسلم أن يسب صلبانهم ولا كنائسهم؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية. اهـ، أي على زيادة الكفر”.
وأكّد ابن عاشور على أنه “ليس من السب إبطال ما يخالف الإسلام من عقائدهم في مقام المجادلة، ولكن السب أن نباشرهم في غير مقام المناظرة بذلك، ونظير هذا ما قاله علماؤنا فيما يصدر من أهل الذمة من سب الله تعالى أو سب النبي ﷺ بأنهم إن صدر منهم ما هو من أصول كفرهم فلا يُعد سباً، وإن تجاوزوا ذلك عُد سباً، ويعبر عنها الفقهاء بقولهم: «ما به كفر وغير ما به كفر»”.
وبعد أن أشار إلى أن هذه الآية حجة على إثبات أصل من أصول الفقه – وهو سد الذرائع – عند القائلين به، وقال: “قال علماؤنا: هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي انفرد بها مالك- رضي الله عنه- وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته، وخفيت على الشافعي وأبي حنيفة- رضي الله عنهما- مع تبحرهما في الشريعة، وهو كل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور .اهـ”، استطرد ابن عاشور في بيان معنى سد الذرائع وأنواعها.
ثم عاد لتفسير الآية، وبين أن {عَدْواً} “مصدر بمعنى العدوان والظلم، وهو منصوب على المفعولية المطلقة لـ (يَسُبُّوا) لأن (العدو) هنا صفة للسب، فصح أن يحل محله في المفعولية المطلقة بياناً لنوعه”.
وعلق على هذا الوصف بقوله: “ووصف سبهم بأنه (عدو) تعريض بأن سب المسلمين أصنام المشركين ليس من الاعتداء، وجعل ذلك السب (عدواً)، سواء كان مراداً به الله، أم كان مراداً به من يأمر النبي ﷺ بما جاء به؛ لأن الذي أمر النبي ﷺ بما جاء به هو – في نفس الأمر – الله تعالى، فصادفوا الاعتداء على جلاله”.
ثم بين أن قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} “حال من ضمير {فَيَسُبُّوا}، أي عن جهالة، فهم لجهلهم بالله لا يزعهم وازع عن سبه، ويسبونه غير عالمين بأنهم يسبون الله؛ لأنهم يسبون من أمر محمداً ﷺ بما جاء به، فيصادف سبهم سب الله تعالى؛ لأنه الذي أمره بما جاء به”.
ويجوز عنده “أن يكون {بِغَيْرِ عِلْمٍ} صفة لـ {عَدْواً} كاشفة؛ لأن ذلك (العدو) لا يكون إلا عن غير علم بعظم الجرم الذي اقترفوه، أو عن علم بذلك لكن حالة إقدامهم عليه تشبه حالة عدم العلم بوخامة عاقبته”.