كيف يمكن لنا أن نستعيد بهجة الحياة الأسرية التي افتقدناها في خضم الإحباط والانشغال الذي يطغى على حياتنا؟ كيف نصل إلى تقدير قيمة هذه الأسرة التي ننتمي إليها، بل وقيمة الحياة ذاتها ؟ الحل كما يراه “ريتشارد كارلسون” مؤلف سلسلة كتب “لا تهتم بصغائر الأمور” يتمثل في محاولة تدريب أفراد الأسرة على كيفية التعامل مع الصغائر في الحياة العائلية من خلال وضع الأمور في نصابها الصحيح؛ لتصبح الحياة أكثر سلاسة وأقل توترًا، فالواقع الحديث قد أصاب العلاقات الأسرية ببعض الأوبئة الخطيرة؛ الأمر الذي يبدو واضحًا في ارتفاع معدلات الطلاق، وما يترتب عليه من سلبيات استشرت في جسد المجتمع.
ومن خلال مائة من النصائح، تسير اتجاهات المؤلف الوقائية والعلاجية في ثلاثة خطوط عريضة متوازية ومتقاطعة، من شأنها إحداث التغير الإيجابي المنشود لكل منا..
هذه الخطوط تنحصر في إطار التغيير الشخصي، ثم تنطلق إلى فن التعامل مع الآخرين، وصنع المناخ الإيجابي بالمنزل.
ابدأ بنفسك
لا شك أن أيًّا من جهود الإصلاح يجب أن تبدأ من الذات، فكل منا بداخله ما يحتاج للتغيير، ومن المساحات الهامة التي يجب مخاطبتها “الغضب” أو ثورة النفس.
إننا نلتقي بالعديد من الأشخاص المتميزين في الحياة، وبالرغم مما يبدو عليهم من سكينة وتعاطف، فإنهم جميعًا يقرون بالانفعال والتوتر الذي يشوب سلوكياتهم في بعض الأحيان. ينبغي أولا ً أن نقرّ جميعًا أننا بشر، وأن نتناسى ثورات الغضب التي انتابتنا مسبقًا، ولا ندع التفكير الانهزامي يهوي بنا إلى أغوار الوقوف الطويل أمام هذه المشكلة.
ثانيًا: يجب أن نأخذ على أنفسنا العهد بالتسامح، والعفو، وكظم الغضب، وتقبل بعض الأمور التي اعتادت أن تثير ثورتنا، والانسحاب السلمي الهادئ إذا اقتضى الأمر، فعندما نبدأ بمسامحة النفس على الغضب، سيكون من السهل أن نتبادل التسامح مع أفراد أسرتنا.
ولكن ما الذي قد يدفعنا ذاتيًّا للغضب بشأن صغائر الأمور؟
ينجرف الكثيرون للقيام بأمور معتادة؛ بسبب احتياجهم أو اقتداء بالآخرين أو بسبب أن هذا المسلك قد يبدو هو الأمر الصائب، فقد يحمل الوالدان أنجالهم على القيام بأنشطة أو ارتداء ملابس معينة لمجرد تقليد من حولهم، أو قد يجبرونهم على دراسة ما قد يعتقدون أنه الأنسب لهم. النصيحة هنا أن تحيا حياتك طبقًا لما يمليه عليك قلبك، وأن تختار أسلوب الحياة الذي يناسبك ويناسب أسرتك، وأن تتخذ القرارات الهامة التي تتماشى معك ومع قيمك، وأن تكون في هذا كله واثقًا بفطرتك، متجردًا من الضغوط.
ولا تنس أن تتساءل دائمًا: ما هي الطريقة التي أحب أن تكون حياتي عليها؟ هل أنجز الأمور بأسلوبي أم لأني دأبت على إنجازها بهذه الصورة؟ واستفت قلبك ولو أفتوك، واترك الأفكار تأتي إليك من حيث لا تدري:
- كف عن ترديد الشكوى، ولا تجعل من نفسك شهيدًا.
- كن رقيبًا على نفسك دون أن تنصب لها المشانق.
- حقّق موازنة بين التطلع للأفضل ووضع حد للرغبات الشرهة لتحقيق الرضا.
- خصِّص وقتًا للفراغ في مفكرتك، التزم به للوصول للتوازن النفسي.
إلا أن توجيه القلب لا يعني إبطال الأحكام العقلية، ففي كل منزل أجراس تحذير لها القدرة على الإنذار بحدوث الفوضى والأزمات، لكن المشكلة تكمن في تجاهلنا لهذه الأجراس، والانغماس في تيار الحياة حتى يقع الخطر، وتتحقق السيادة للفوضى. وقد تتمثل هذه الأجراس في ارتباك الوقت أو المناقشات الساخنة أو التدافع المحموم بين أفراد المنزل. هنا علينا إعادة التوجيه.
ولتفكر دائمًا: هل هناك مشاكل متكررة الحدوث، أو ذات تأثير عظيم؟ هل هناك علامات تسبق هذه المشكلات؟ تأكد أنك إذا نجحت في تكوين قاعدة بيانات لهذه المشكلات وسابقاتها، فإنك ستنجح في كبح جماح الفوضى العارمة، وتقلل من خسائر الأزمات. ويتطلب هذا الأمر أن تتعلم التركيز؛ لأن هذا التركيز يمكنه أن يحقق لك التوازن والتآلف والهدوء في مواجهة الأزمات واتخاذ القرارات الصائبة. ويمكنك التدرب على التركيز من خلال توجيه اهتمامك باللحظة الحالية إلى أكبر قدر ممكن، دون مبالغة في الاهتمام بالماضي أو الحلم بالمستقبل.
علاج “الذات” الذي يطرحه المؤلف يبدأ بإحداث تغيرات ذاتية جذرية مثل ضرورة الوفاء بالوعود، والتنازل عن بعض التوقعات، والتقبل للتغيرات، مرورًا بترسيخ بعض العادات الوسيطة مثل تجنب الذهاب للنوم في حالة الغضب، وأداء التمرينات الرياضية، والاهتمام بالمشاعر، والحفاظ على الصحة، وينتهي بإضفاء بعض اللمسات الرقيقة على السلوك، مثل اختلاس وقت للسكون، ووضع طقوس خاصة بك للاسترخاء، واللجوء إلى المرح.
ومثلما ننصحك بأن تتذكر بأن لكل شيء نهاية، فلكل شيء بداية، وعليك أن تبدأ بنفسك الآن.
المودة والرحمة
تتكون كل أسرة من مجموعة من الأفراد، تختلف درجة التقائهم واختلافهم في الطباع، والطموحات، والقدرات. وإن كان الانتماء لأسرة أمرا مميزا، فيه من المتعة والحب ما لا يمكن لسواه أن يحققهما، فإن هذه العلاقة قد تشوبها غيوم التوتر التي قد تنتهي بتدمير هذا الكيان المقدس تمامًا. والغريب أن مصدر كل هذه القلاقل غالبًا ما ينحصر في بعض الصغائر التي يمكن حسمها بدءاً بعلاقات أفراد الأسرة الواحدة، وامتدادًا إلى الأصهار والجيران، وكل من يقع في هذا الإطار المحتوم.
الآن تأكد أنك إذا رسّخت الأسس الناجحة للتعامل، فلن تلبث أن تجني ثمارها الأبدية. ولنبدأ بأكثر المشكلات شيوعًا، وهي مشكلة الافتقار إلى التقدير بين أفراد الأسرة الواحدة.
والتقدير هنا لا يعني أن تكون مسؤولاً مسؤولية مطلقة عن منح أفراد أسرتك السعادة، بل على العكس، إنه يعني أبسط الأشياء، كلمة شكر، عرفان بالجميل…
وجدير بالذكر أن هذا التقدير البسيط يزيد من الرصيد الذي تملكه في بنك من حولك، وتجعلهم يتدافعون لتقديرك، وبذل المزيد لإرضائك:
- تعلم فن الإنصات للآخرين تغنم احترامهم، واحرص على أن تكون لغتك واضحة لهم، يكسوها الود والحب.
- لست وحدك الذي تعاني من المشكلات، فأفراد أسرتك أيضًا لديهم مشكلاتهم.
- العطاء المتبادل والمشترك داخل وخارج المنزل أفضل السبل لربط الكيان الأسري.
والآن هل تعلم أفراد أسرتك جميعًا، قبل أن تجيب بالإيجاب، انظر هل أضفت الكائنين القديمين الجديدين: الشجار والملل؟
فشجار الأطفال جزء لا يتجزأ من وجودهم، وقبوله هو أكثر الحلول فعالية لمواجهته؛ فمقاومة الأشياء تجعلها تبدو أسوأ مما هي عليه وتشجع من حدوثها، بينما يشكل التسامح معها الطريق لتحقيق السكينة، وإرساء القدوة الحسنة لدى الأطفال.
ولا يختلف الملل كثيرًا عن الشجار، فتولد الملل لدى الأطفال أمر يرتبط بحيويتهم المتفجرة، ويرتبط أيضًا بكثرة الأنشطة المتاحة لديهم، فكلما زادت هذه الأنشطة زادت توقعاتهم في التجديد المستمر، وهو ما يثير الشكوى والتذمر لديهم. وأفضل الحلول المطروحة لمعالجته هو أن ترحب بالملل لدى أطفالك، مثل أن ترد على ضجرهم قائلاً: “وماذا في ذلك؟”.
ولهذا الأسلوب فائدتان، الأولى: أن الأطفال سيتوقفون عن الشكوى بعد أن ينزوي لديهم الاعتقاد بأنك المسؤول عن تسليتهم باستمرار.
الفائدة الثانية تتمثل في: حثِّهم على ابتكار وسائل خاصة لتسلية أنفسهم دون الاعتماد على الغير.
ولكن ماذا عن مرحلة المراهقة؟ في السؤال تكمن الإجابة، المراهقة ما هي إلا مرحلة: إنها رحلة انتقال، فلماذا إذن ننسى دائمًا أننا مررنا جميعًا بهذه المرحلة، شأنها شأن مراحل الطفولة والشباب؟
إننا جميعا نعلم أن ثقة الآخرين وإيمانهم بنا يشكلان أقوى الدوافع لأدائنا أفضل النتائج.
ومن هذا المنطلق فإن مصادقة الأفراد المراهقين في الأسرة، ومنحهم المسؤوليات والحقوق جنبًا إلى جنب مع مشاعر الثقة والطمأنينة، كفيل بأن يعبر بسفينة المراهقة إلى بر السلامة، وأن يتجاوز أخطار وصراعات هذه الرحلة.
ولا يقتصر الاختلاف على أفراد الأسرة الواحدة وراء نفس الجدران، فقد يكون الأقارب والأصهار منبعًا لشيء من التصدعات في العلاقات الأسرية.
الأمر الذي يجب التسليم به هو وجود التباين بين العائلات فيما يتعلق بالعادات، والمعتقدات، والنظم، والأساليب، فإذا أذعن الإنسان لحتمية هذا الاختلاف، لا شك أنه سيتقبل الآراء الأخرى، وأن علاقته بذوي الأرحام والأصهار ستنجو من فخ الشقاق.
ولو تذكر المرء الجهد الذي قد بذله أصهاره ليحظى هو بشريك حياته، وكيف ينسب إليهم الفضل في نشأة شريك حياته، وبالتالي نشأة أولاده فيما بعد؛ لا شك أنه سيشعر بالدين والامتنان، ولا جزاء للإحسان إلا الإحسان.
تخيل الحياة بدون أفراد أسرتك، تأكد عندها أنك ستدرك كم يُعَدّ وجودهم ثمينًا لك؛ لذا عليك دائمًا أن تتقارب معهم، وأن تحافظ على خصوصية حياتهم، تقبل انتقاداتهم، تناسَ إساءاتهم، اغمرهم بالحب والتراحم. عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به، وسترى الفارق بنفسك.
انظر أين تحيا
“إن بيت الإنسان أشبه بالحديقة، التي تترعرع فيها الورود والأزهار حينما تتوفر لها الظروف المناسبة” ريتشارد كارلسون.
بالرغم من اختلاف ما يطلق عليه “مقومات المناخ الإيجابي” من منزل لآخر، باختلاف مكونات قاطني هذا المنزل، فإن هناك أساسين جوهريين لتشييد هذا المناخ، وهما: الأساس المعنوي والأساس المادي. والآن انظر لمنزلك: من منا لا يتذمر من وجود مشكلة في أعمال السباكة، أو عطل بأحد الأجهزة الكهربائية، أو حاجة أحد ألواح الزجاج للتغيير؟ إننا دائمًا ما نردد أن هذه الأعمال لا نهاية لها، وهو ما قد يصيبنا بالضجر والإحباط في أحيان كثيرة. والحل ببساطة يمكن أن ينبعث من تغيير منظورنا إلى هذا المنزل، فهذا المنزل خاص بنا، والعمل فيه لا بد وأن يظل مستمرًّا ليظل هذا الإنجاز جميلاً. كما أن أداء الأشياء في حينها سيوفر كثيرًا من المال والجهد إذا تفاقمت هذه المشكلة الصغيرة.
بهذه النظرة الراضية والحميمة نحو الأشياء يمكن الحفاظ على الكيان المادي والمعنوي للمنزل.
ومن سبل الوقاية التي يمكن اتباعها الابتعاد عن أسباب “التخمة المنزلية”؛ لأن هذه التخمة من شأنها زيادة أعراض الاكتئاب والعصبية أمام أتفه الأسباب. وتحدث التخمة المنزلية مهما اختلفت مساحات المنازل نتيجة لبعض العادات السيئة، مثل: الإصرار على الاحتفاظ بأشياء غير ضرورية لحين الحاجة لها، أو من باب التآلف مع هذه الأشياء.
والحل هنا أن تصرّ على قاعدة التخلص من أي شيء قديم مقابل إدخال أي شيء جديد للمنزل، وعدم شراء أشياء لا مكان لها بالمنزل.
ومن الفوائد غير المباشرة لهذه القاعدة أنك تعلِّم أطفالك منح الآخرين ما قد لا يحتاجون إليه، كما أنك قد تحقق بعض الفوائد الاقتصادية من جرَّاء التخلص من الأشياء الزائدة.
والأساس المعنوي للمناخ الإيجابي يقوم على وجود الحب داخل المنزل، فهذا الأمر من شأنه وأد الخلافات قبل ولادتها، وهو بدوره يؤدي إلى وجود مجموعة أخرى من النماذج الحميدة كالاحترام المتبادل، والحرص على مصلحة الآخرين، وبذل التضحيات والتنازلات.
ويمكن تحقيق الأمر ببساطة بأن يتوقف الجميع لبرهة، ويتساءل كل منهم، ما المناخ المثالي الذي أتمنى العيش به؟ ما الذي يمكن أن أحققه في هذا المناخ؟ ما الذي يفتقده منزلي للوصول إلى هذه الدرجة من المثالية؟ ما الذي يجب عليّ القيام به؟ وماذا أنتظر من الآخرين؟
قد يستغرق هذا الأمر وقتًا طويلاً لإنجازه، ربما قد يصل لسنوات؛ لذا عليك أن تذكّر نفسك دائمًا بأن الحصاد لا يأتي إلا بالجهد والصبر. وتذكر أن للتركيب المادي للمنزل تأثيرا كبيرا على البناء المعنوي لأفراده، فمساحة المنزل، وطريقة تنظيم الأثاث داخله، والألوان المنتقاة، والإضاءة، جميعها يكون لها انعكاس على الحالة المزاجية لمن هم داخل المنزل.
احرص أيضًا على أن تسهم أركان منزلك في التحدث بلغة الحب التي تسود هذا المنزل. فيمكنك الاحتفاظ بما يذكرك دائمًا بحب شريك حياتك لك، أو بعض الصور في مناسبات خاصة، أو الاحتفاظ بالأعمال الفنية لأطفالك، أو أشياء تدعو للمرح أو الضحك، أو بعض الحكم أو الأدعية التي تبعث على السكينة والهدوء النفسي.
لقد وجد “كارلسون” أن الصغائر التي تواجهنا بالمنزل أمر حتمي لا يمكن تجنبه، إلا أن التعامل مع هذه الصغائر فن يمكن لنا جميعًا التدرب عليه والإجادة فيه. ووراء نصائحه المائة يقف ما يطلق عليه “البساطة الاختيارية”، والتوازن أو الاعتدال والرضا الذاتي.
وإذا أصبحت هذه العناصر معيارًا لقياس واختيار الأشياء، فمن الممكن لك أن تتمتع بحياة أفضل، وأن تجعل من منزلك ملاذًا من ضوضاء الحياة، ومركزًا لتصدير العطاء للمجتمع.