أن تمتلك طفلا موهوبا أو طالبا نجيبا؛ يعني أنك تملكت كنزا من الإنجازات والقدرات إن أحسنت استثماره وتوجيهه، فيما يعود على نفسه وبيئته وأمته بالنفع.

من هو النجيب؟

النجيب أو الموهوب: شخص ذو إنجاز وقدرات عالية مقارنة بغيره ممن هم في مثل عمره، وخبراتهم وبيئتهم، يظهر قدرة فكرية وإبداعية، أو فنية ومهارات قيادية مع التفوق في بعض الجوانب الأكاديمية، والطريق الأمثل لاكتشاف المعلم لمثل هذه النوعية من الأبناء والطلاب يكمن خلف تساؤلاتهم.

كثيرا ما تفصح أسئلة أولئك النجباء عن معدن نفيس من التميز، فالنجيب يسأل الأسئلة التي لا يسألها غيره في الغالب، وينظر للإجابات من زاوية تغيب عن أقرانه، له حب شديد للاستطلاع والبحث، ولا يكاد يسلم بما يسمع، بل يستفهم عن الإجابات المطروحة، إنه جيد التخمين.

يؤكد الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – أن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله؛ كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المظلم، وكم من شعوب رسفت دهرا في قيود الهوان، حتى قيض الله تعالى لها القائد الذي نفخ فيها من روحه روح الحرية، فتحولت بعد ركود إلى إعصار يجتاح الطغاة ويدك معاقلهم [1].

أهمية الأسئلة في صناعة النجباء

السؤال وسيلة تربوية تكشف عن كثير من ملامح شخصيات المتربين، ولا أظن أننا بالغنا حين وصفنا النجباء بأنهم خلف تساؤلاتهم، إذ هي مؤشر يختصر على المعلم والوالدين مراحل من التنقيب والبحث عن تلك المواهب، قال ابن شهاب الزهري: العلم خزانة ومفاتيحها السؤال، وقيل للأصمعي: بم نلت ما نلت؟ قال: بكثرة سؤالي، وتلقفي الحكمة الشرود [2].

وحسن السؤال سبب في تعلم العلم النافع؛ لذا أمر الله تعالى به الجاهل؛ فقال: ﴿فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون﴾ [النحل: 43]، وحتى نلقي الضوء على أهمية تلك الأسئلة في اكتشاف النجباء والموهوبين، سنختار نماذج من تساؤلات الصحابة رضي الله عنهم التي أبرزت معالم من تميزهم، بما يعزز أهمية الأسئلة في حياة النجيب.

تساؤلات نجباء الصحابة

  • ابن عباس رضي الله عنهما: شخصية فذة قلما تجد له نظيرا في اتقاد العزيمة، وطلاقة التعبير، وحدة الفكر، وبعد النظر، ركن رئيس في تكوين شخصيته وصقلها كانت الأسئلة التي يطرحها على رسول الله ، يقول عن نفسه؛ لما سئل: “بم أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول”[3]، وعنه رضي الله تعالى عنهما، قال: لما توفي رسول الله ، قلت لرجل من الأنصار: هلم نسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه، فإنهم اليوم كثير، فقال: واعجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يحتاجون إليك!؟ وفي الناس من أصحاب النبي علية الصلاة والسلام، فترك ذلك، وأقبلت على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل؛ فآتيه وهو قائل، فأتوسد على ردائي على بابه، فتسفي الريح علي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله، ألا أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسألك، قال: فبقي الرجل حتى رآني وقد اجتمع الناس علي، فقال: هذا الفتى أعقل مني؛ (أخرجه البخاري).
  • عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه: رجل القرآن، من شهد له القاصي والداني وشهد له رسول الله صلى الله عليه بكفاءته وقدرته في قراءة القرآن الكريم، كانت الأسئلة جزءا من تكوينه القرآني والعلمي، وأحد الأدوات التي فجرت ذلك الإبداع لدى ابن مسعود رضي الله عنه، يقول: سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله؛ [متفق عليه]، ويبدو أن التساؤل سلوك اعتاد عليه ابن مسعود في طريقته للتحصيل، فيسأل عن أكبر الذنوب وأعظمها عند الله تعالى، ويستمر سؤاله عما بعده، كما في الحديث، سألت النبي : أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم، ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك؛ (متفق عليه).
  • معاذ بن جبل رضي الله عنه: ربيب العلم، وركنه الركين، شهد له النبي بحسن انتقاء أسئلته التي هي بوابة العلم والتعلم، يقول: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار، قال: “لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم، وتحج البيت” (رواه الترمذي وأحمد).

هذه الأسئلة مثلت منهج تعلم لصحابة النبي ، فعائشة رضي الله عنها على سبيل المثال كانت لا تسمع شيئا لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، سمعت منه قوله: “من حوسب عذب”، قالت: أو ليس يقول الله تعالى: ﴿فسوف يحاسب حسابا يسيرا﴾ [الانشقاق: 8]، فقال: “ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب عذب”. رواه البخاري ومسلم، وعرف عنها استثمارها للأحداث والمواقف في توجيه الأسئلة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة، ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: “قولي: اللهم إنك عفو كريم، تحب العفو فاعف عني”. (رواه الترمذي).

هذه الأسئلة وإن كانت في ظاهرها استكثارا من خير، أو سؤالا عن فضل، إلا أنها تحمل إشارات في نباهة وتفطن نجباء الصحابة رضي الله عنهم لمثل هذا النوع من الأسئلة بعيدا عن أسئلة العامة، فالسؤال عن أركان الإسلام أو الإيمان سؤال معتاد؛ لكن أن تسأل أي الإسلام خير، فتلك علامة نباهة ونجابة، وهذا مؤشر لا ينبغي للمربي إغفاله في استثمار موهبة النجيب، وحسن توجيهها.

وسائل توجيه المعلم لتساؤلات النجباء

أسئلة النجباء التي يفترقون بها عن غيرهم، إما: طلب استيضاح، أو استكشاف غامض، أو التنقيب عن جديد، أو الربط بين صاحب السؤال والسؤال وعاقبة أمر السائل، والنجيب غالبا لا يترك المعلومة تمر دون تبرير، ولا توضيح، وحتى يحسن استثمار النجيب المختبئ خلف تساؤلاته يجدر بالمعلم أن يسلك عددا من الوسائل من شأنها حسن صناعة النجيب، ومن ذلك:

  • استثارة التفكير: ولكم أثار رسول الله تفكير صحابته من خلال أسئلته التي يضعها عليهم، يقول مثلا: “إن من الشجر شجرة، لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم. فحدثوني ما هي؟”، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر: وقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: “هي النخلة”، رواه البخاري.
  • طلب إبداء الرأي، وترك مساحة للتعبير: عن كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن رسول الله ؛ أنه قال: “لعلك آذاك هوامك؟” قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: “احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة”. رواه البخاري، “وقد جاء الجواب موجزا على التخيير حسب ظروف الرجل المالية. والسؤال هنا جملة خبرية، ملقاة بطريقة الاستفهام، دلالة على الرقة في الملاحظة. ويأتي السؤال أشبه باللغز، في دعوة للتفكير، والتنشيط الفكري”[4].
  • التساؤلات النوعية: كيف؟ لماذا؟ ماذا؟ متى؟ من؟ أين؟ وغيرها، ثم تأخذ بالحوار والنقاش معه وتكوين الرأي حول ذلك. لقد تكرر هذا الأسلوب كثيرا منه مع صحابته كوسيلة تربوية تستثير التفكير، وتطلق البيان، وتفصح عن معدن الموهوب: كما في حديث “ما تعدون الصرعة فيكم؟، وحديث: “أتدرون من المفلس؟. وحوار الشاب الذي استأذن رسول الله في الزنا، “إنه هنا يمارس دورا تربويا، يتجاوز به الإطار التقليدي للعالم الأستاذ، إلى دور المربي، فهي دعوة ورسالة سامية تعنى بتثقيف العقول، وتهذيب النفوس، وإرشاد السلوك”[5].

محاذير في التعامل مع أسئلة النجباء

حين نحذر من أخطاء في التعامل مع النجباء والموهوبين؛ فإنا نخشى أن توأد موهبة، أو يغتال عزم كان سيعود بالعطاء والنفع على الأمة، لذا فإن بعض التجاوزات في حق أولئك الموهوبين ينبغي ألا يقفز عليها، أو يتساهل فيها لا سيما من القائمين على مؤسساتنا التربوية والتعليمية، ولا ينبغي أن يغتفر في حق مرب لا يجيد التعامل مع هذه الشريحة فيبرر له تصرفه بما ينفر هذه الفئة التي هي مكنز لمن وفق لحسن توجيهها وإدارتها، إننا نكون قد جنينا على النجباء والموهوبين حين:

  • نقفز على أسئلتهم ونتجاهلها، إنهم بذكائهم وموهبتهم يدركون أننا حين نقفز على أسئلتهم إنما نصغر من موهبتهم، أو لا نتعرف بها، أو نصل بهم إلى أن يعتقدوا أنهم في مكان لا يقدرون فيه، ولا يلتفت لموهبتهم.
  • نجيب إجابات سطحية لا تلبي ذكاءهم، ولا تشفي غليلهم في البحث عن المعلومة، إنك قد لا تكون محل أمان لهم، ولا اطمئنان حين يبحثون عن الإجابات في مرات قادمة، لذا أجب بما تعلم؛ وإلا فاطلب المهلة للبحث وتقديم إجابات مقنعة مدعمة بالشواهد والدليل.
  • نظهر التبرم من كثرة أسئلتهم، أو طبيعتها، وإن بدت لك أيها المعلم سذاجتها أو الملل الذي تجده حين تجاري الموهوب في كثرة أسئلته، لا سيما إن كان بصحبتك عدد آخر من الطلاب، اطلب منه أن تجيب عن أسئلته بعد انتهاء الحديث، أو حين انفضاض المجلس، أعره اهتماما، وامدح صنيعه أمام زملائه، واهتم بالإجابة على أسئلته، ولا تسخر منه؛ حتى لا تطفئ جذوة ذلك الحماس الذي تراه في شخصيته وينعكس على أسئلته.
  • نسرع في نقد أفكارهم لحظة ميلادها، أو نتعذر بالوقت والزمن، (لقد تأخرت قليلا، لقد قررنا، واتفقنا على ما ينبغي القيام به). وغيرها من العبارات المحبطة. فالمربي الناجح من يوقن أن الأفكار لا تعترف بالزمن، ولا ينبغي أن تقيدها الخطط.
  • نسأل أسئلة مميتة لأفكارهم: مثل: هل فكرتك مضمونة النجاح؟، أنت المسؤول عن النتائج، وغيرها من الأسئلة التي تجعلهم في مواجهة الضغوط لتقبل أفكارهم.

خاتمة

المعلم حجر الزاوية في أي بناء تعليمي سليم، وعليه الاعتماد في تحقيق الأهداف التربوية والتعليمية. وتقع على عاتقه مسؤولية عظيمة في تربية النشء وفي توجيههم التوجيه السليم، وتنمية مواهبهم، والمربي الناجح هو الذي يشجع من تحته على التعلم الذاتي، وكيفية استخدام المصادر المختلفة للمعرفة والتعلم، ولا يسخر من أفكار طلابه، أو إنتاجهم مهما كان متواضعا. وسيواجه المعلم فئات من الطلاب لديهم أفكار إبداعية لكن يمنعهم الخوف أو الخجل من طرحها وهنا لابد من إزاحة الستار عن هذه الأفكار وتشجيع الطلاب على طرحها ومناقشتها، ففي كنفكم أيها المربون وعلى أعينكم تصنع المواهب، فأحسنوا استثمارها.