خلت السنة الإلهية في هداية البشر باصطفاء بعضهم للقيام بمهمات الإرشاد والتعليم والتزكية والارتقاء من ضلالات الجاهليات المتتابعة إلى استقامة الصراط المرسوم من الله رب العالمين.

والناظر في تاريخ الأنبياء والرسل يلحظ ذلك النجاح والنصر المبين للرسالات، فقد  نسي الخلق أو تجافى أكثرهم عن تعاليم الفلاسفة، وعكفوا بالذكر والتمجيد للرسل والأنبياء، لما في النفس من انجذاب للفطرة الأولى، فطرة التدين والتوحيد، والتعلّق بالخلود الذي بشّر به المرسلون.

ولأجل تيسير هذه المهمات الدالة على لطف الله بعباده، تعدّد الرسل، وتباينت شرائعهم، وتوزعهم في معمور الأرض: ﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير﴾ [فاطر، 24] والشواهد على ذلك تربو عن العدّ الحصر. فقد كانت البعثات مختلفة، وباللسان المتداول ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ [النساء،165]، ويتوارد مؤرخو الأديان على أن الكتب المقدسة كتبت بلغات مختلفة بعضها أصيل بلسانه كالعبرية، والآرامية، والعربية، وبعضها مترجم إلى لغات أخرى كالسريانية، واللاتينية.

إن المستفاد من الإرسال باللسان الخاص، وهو المتداول المعروف في نظمه وشعوره وإيحاءاته لدى المرسل إليهم، هو تقريب الدعوة للمُتلقين، من أجل سد منافذ النكوص، وإقامة الحجة، وإيضاح المحجة، فلا يبقى عذر لمعتذر، ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم﴾ [إبراهيم، 4]

وإذا كان الأمر معقولا في الرسالات السالفة الخاصة، فكيف يكون البيان في الرسالة الخاتمة التي بُعث بها محمد للأحمر والأسود، وما أثر ذلك على لسان القرآن الخاتم، وهو اللسان العربي المبين؟

إن العربية  قمينة بأداء البلاغ بالترجمة عنها لسائر اللغات بما فيها من خصائص بيانية عظيمة، وبما حوته من حقول دلالية كثيرة، وجذور متكثرة تتوالد منها آلاف الألفاظ الوافية بالبيان.

كما أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تعتبر دستورا خالدا للدعاة في تفّهم الواقع الديني والأدبي للأقوام المدعوة، ويكفي أن نستذكر النجاح الباهر للفتح الإسلامي في استيعاب شعوب وثقافات عديدة، في معجزة الدعوة التي فتح بها الصحابة ربع العالم القديم في ربع قرن من الزمان.

ولأجل ما سبق واقتفاء لمداليل تفهّم لسان المدعوين، فإنه يتوجب على الدعاة اليوم ما يأتي:

أ – المعرفة بالواقع الديني:

ففي السيرة نقرأ تلك الدعوة لتفهم لسان الآخرين وميراثهم لتسريع الدخول إلى القلوب والأفئدة، ففي حديث معاذ بن جبل المُرسل إلى اليمن جاءت وصية المصطفى له:” إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب [البخاري، 1458]

كما أن معرفة الرسول عليه الصلاة والسلام بالتاريخ الديني والفِرقي المعاصر له كان جليا بيّنا كما في حديث عدي بن حاتم الطائي الذي بيّن النبي انتمائه الفرقي لإحدى الطوائف المسيحية في حديث” ألم تكن ركوسيا”، وكمعرفته عليه السلام بالواقع الديني المضطرب في الإمبراطورية البيزنطية عندما خاطب هرقل:” فإن توليت فعليك إثم الأريسيين”[البخاري، 7].  وهو ما يحيل إلى وجوب فحص الفرق والطوائف والأديان والنحل في عالم اليوم فحصا دقيقا يسهل على الدعاة أمر النفاذ والامتداد.

ب- المعرفة بالواقع اللغوي والأدبي:

فالأدب مجلى الناس، وهو الصورة الصادقة لحياتهم وتعبيرهم ومعيشتهم، والنبي أفصح عربي، وكان عالما بلهجات العرب، فهو ابن مكة التي تفد إليها مختلف القبائل في الحج والعمرة، وقد كان عارفا بلهجات اليمن، وفي القرآن عديد القراءات المخرّجة على لهجات العرب، بل ورد في بعض الأحاديث معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بلغات أجنبية كالفارسية والحبشية [ البخاري، 2905].

لقد ضرب الأنبياء المثل السامق في التدوال الحجاجي والإقناع والمناظرة لكمالهم اللغوي وقدراتهم العقلية، والقرآن معجزة بيانية عالية مستوعبة يمكن أن  تُترجم لكل اللغات، وحديثه عليه الصلاة والسلام في السَنَن العالي في  الإيجاز والإعجاز والبيان. ولهذا يتوجب على الدعاة معرفة هذه اللغات والدخول من أبواب أدبها، وضرورة تقمّص لغة العصر والمحل والبلد والجنس، فلكل عصر مصطلحاته، وهو مما يرشدنا إلى استعمال اللغة العصرية وتجاوز الأساليب القديمة في السجع أو الوحشي أو المتروك، ومعالجة القضايا الآنية بلغة عصرية آسرة مقبولة مأنوسة، كما هو المتداول في الوسائل الإعلامية الناجحة والصحافة الراقية.

ج – معرفة العادات والأعراف:

وذلك بمراعاتها والتجاوب مع جميلها، والتمهّل مع سيئها، والتدرج في محو الدنس منها أمر مُراد لمقاصد الشارع الذي لا يضيق بعادات الناس ما لم تُخالف نصا قطعيا، ويظهر ذلك في عادات الأفراح والأقراح، والمطعوم والملبوس، فالنبي  عليه الصلاة والسلام لبس في مكة لباس قومه، وفي المدينة لبس الأزار، وفي تبوك لبس جبة شامية أو رومية، وأكل من جبنهم، ولم يترّب على أكل الضب، ولم يستنكف الصحابة عن أكل حلال الأقوام الأخرين،  وبتؤدة وروية انمحت العادات الباطلة.

في كتاب الشيخ محمد الغزالي”مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه” لفتات رائعة لتيسير الدعوة، فممّا ندب إليه ضرورة الانتقاء الفقهي لبعض القضايا تنزّلا مع العادات الراسخة عند الشعوب الأخرى، ولذلك أوصى الدعاة في كوريا وبلاد الشرق الأقصى أن يتقلدوا مذهب مالك في كراهة الكلاب، لأنها محور طعامهم وبها كثير شؤونهم، بدلا من تقلّد التحريم الذي قال به الأحناف.

ونبه الشيخ الغزالي إلى التفريق عدم فرض تقاليد العرب على الأغيار، لأنها ليست الإسلام، وكم نعى على التّمذهب والتعصب لقول الشارح وترك نص الشارع ومقاصده ومراميه. وقال: إن التمادي في هذا المسلك الضيق العطن لا يُكسب الإسلام أرضا جديدة، وإنما يُفقده أرضه نفسها.

ويذكر الشيخ القرضاوي  أن بعض الفقهاء في أندونسيا أضاعوا قبيلة كاملة بسبب تشدّدهم في سنّة الختان على الرغم من وجود مذاهب ترى سنيتها فقط، والأمر ذاته في فهم بعض الثقافات الأموسية في إفريقيا وصنهاجة الجنوب، والذي يوجب على الفقيه التنزّل في بعض الآراء الفقهية والعدول عنها إلى غيرها تيسيرا للتدين، وتحبيبا للناس في الإسلام، وقطع الطريق على قوافل المنصرين.

د – معرفة روح العصر ومشاكله:

وهو الملحظ الذي غفل عنه الكثيرون، فنتيجة الارتهان إلى الحالات المثالية التي تأسرنا بصفائها وخاصة أجيال السلف الصالح، التي يكثر الوعظ بها دون مراعاة للشروط الاجتماعية التي كان عليها هؤلاء الذين وجدوا على الخير أعونا، وهو ما لا يتيّسر في هذا الزمن الموّار بفتن الشهوات والشبهات، وفي المقارنة تصغر الأقدار، فينكص كثير من المصعدين في حبل التدين نتيجة التصور الساكن باستحالة الوصول إلى القمم والربى التي تبوئها السابقون، والحل أن يراعي الدعاة روح العصر، ويقدّروا شروطه القاسية، فالقابض اليوم على دينه كالقابض على الجمر، والأولى إرشاد الناس وخاصة الشباب منهم إلى الالتزام بالمأمورات وترك الكبائر، وهو الحد الأدنى الذي يصح به الوصف بالإسلام.

ومما نستفيده من  مقاصد اللسان الخاص موضوع تنوع التخصص الدعوي للأنبياء في علاج أدواء أقوامهم ومشاكل عصرهم، إذ عالج هود وصالح الجبروت والاعتداد بالقوة الجسمانية، وكان وعظ شعيب مع الجشع الاقتصادي، ولوط تعانى مع الانحراف السلوكي، وقاوم موسى الاستبداد السياسي، وعيسى الانحراف النفسي والتحايل الفقهي، ومن بعدهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي قلب طبائع العرب وصيرّهم أمة حية جديدة بعد موات.

بهذا وغيره من فهم مداليل اللسان اللغوي، والمتداول الأدبي، والروح الشائعة يمكن للدعوة الإسلامية أن تقطع أشواطها في تؤدة وزحف مكين حتى يظهر دين الله تعالى، وهو ظاهر بوعد الصادق الأمين.