لنتوقف للحظة عند عتبة بيوتنا ونتأمل مشهدا بات جزءا من نسيج حياتنا اليومية في الخليج، مشهد متكرر تتداخل فيه مشاعر الفخر بمزيج من قلق؛ أب أو أم يقفان مسحورين بطفلهما الصغير وهو يتحدث إليهم بلغة إنجليزية متقنة، وبلكنةٍ تكاد تكون أصيلة، فيخيل إليهم أن هذا هو الاستثمار الأمثل في مستقبل أبنائهم.
لكن في اللحظة التالية تظهر صورة أخرى، تخاطب فيها الجدة حفيدها بكلمة تراثية دافئة، أو يشرع الجد في سرد حكاية عن مآثر الأجداد و”قصص الأولين”، فإذا بالصغير ينظر إليهما بعيني الحيرة والاغتراب!
ويتبادر السؤال: هل ثمة توازن مفقود في تنميتنا للأبناء؟ هل النمو العقلي والمعرفي ينفصل عن انتماء القلب والهوية؟
وهنا يجب أن نتذكر حقيقة محورية وبسيطة، أن الخلل يتسلل حين نهمل جذور الثقافة لصالح لغة جديدة، فتنمية عقول أبنائنا مع إهمال قلوبهم وهويتهم، يحدث شرخا واختلالا في التوازن النفسي سنعاني منه مستقبلا.
ينبغي علينا طرح تساؤل حقيقي؛ هل سعينا لتقوية “لغة العقل” والعلوم والوظيفة لدى الأبناء أضعف دون قصد “لغة القلب”؟ وعندما تكتسي الإنجليزية عباءة التواصل اليومي في المنزل، هل نحن نبني لهم جسرًا نحو العالم، أم أننا دون قصد نجعل من بيوتنا أول محطة اغتراب في حياتهم؟
القضية ليست رفضا لتعلم اللغات، وإنما هي دعوة لوقفة تأمل وتقدير للأثر الثقافي العميق للسان الأم؛ فالانغلاق لا يخدم أحدا، والانفتاح المشروط هو المطلوب.
البيت كساحة للترجمة
إن من أكبر الأخطاء الشائعة التي نقع فيها اعتبار اللغة أداة محايدة، بينما الحقيقة أنها ” وعاء الروح ” والشفرة التي تختزن حرارة العاطفة، ونبض الذكريات، وروح النكات القديمة وذاكرة طفولتنا. عندما يقرر أحد الوالدين استخدام الإنجليزية – بحسن نية – في كل الحوارات مع الطفل، فإنهما يضعانه، ويضعان أنفسهما، في حالة “ترجمة” دائمة.
الأم تريد أن تعبر عن حبها العميق، فتبحث في قاموسها الذهني عن مقابل لكلمة “يا بعد عمري” أو “يا ضناي” أو ” بعد كبدي” ، فتخرج كلمة “My dear” أو “Sweetheart” وهذه الكلمات قد تؤدي المعنى، ولكنها تفقد شحنتها العاطفية وعمق دلالاتها الثقافية الكاملة. والطفل إن أراد التعبير عن ألم أو لحظة فرح عفوية، قد يجد الكلمات العربية التي يسمعها من أقرانه في الشارع أو من أقاربه هي الأقرب لوجدانه، لكنه يضطر لترجمتها إلى “لغة البيت الرسمية “!!
هذا المجهود المستمر في “ترجمة المشاعر” يخلق مسافة خفية، تجعل علاقة الأبناء بآبائهم أقل عفوية وأكثر تصنعا، وشتان بين تعلم لغة المنطق وتذوق لغة الوجدان والانتماء.
فجوة الجيلين وغربة الأجداد
الأثر يتجاوز دائرة الأسرة الصغيرة ليطال علاقة الطفل بأجداده؛ أولئك الذين يُعدّون كنز الحكمة وتجسيد الذاكرة الجماعية، يصبحون فجأة عاجزين عن التواصل الحقيقي مع أحفادهم.
. يتمنى الجد أن يروي قصة من تاريخ الخليج أو ينشد بيت شعر يختصر حكمة السنين، وتحلم الجدة بأن تعلم حفيدتها أصول الضيافة أو أسماء النباتات المحلية مثل ” الأيراوة والفقع والحميض والخبيز”، لكن حاجز اللغة يقف سدا منيعا من تحقيق ذلك التواصل الروحي والثقافي. ليس الأمر مجرد كلمات، بل فقدان رابط إنساني وروحي يحول العلاقات الطبيعية بين الأجيال إلى ابتسامات باهتة ومجاملات سطحية يعتريها الجمود، ويحرم الصغار من ميراث لا يعوض، لا يمكن لأي مدرسة أجنبية أن تقدمه.
الطريق إلى التوازن
تنشئة الأبناء مسؤولية تبدأ من البيت قبل المدرسة. والحل لا يكمن في منع الإنجليزية، بل في إعادة كل لغة إلى مكانها الصحيح وموضعها الطبيعي.
هذه 3 خطوات ستساعدنا في استعادة توازننا اللغوي مع أبنائنا :
- اجعل العربية لغة القلب والبيت: يجب أن يكون هناك قرار واعٍ وحاسم من الأب والأم بأن اللغة العربية، بلهجتنا الخليجية الدافئة، هي لغة البيت. لغة المشاعر، والنقاشات، والقصص قبل النوم، وحتى التأنيب. لتكن الإنجليزية لغة المهارة التي يتعلمونها في المدرسة، ولتكن العربية لغة الهوية التي يتنفسونها في البيت.
- كن أنت القدوة: تحدث معهم بالعربية. اقرأ لهم قصصًا عربية. علّمهم الشعر والأدب العربي، فلغتنا سامية وبعدها الثقافي عميق. شاهد معهم برامج عربية هادفة. إذا رأى الطفل أن لغته الأم هي لغة “ثانوية” حتى في نظر والديه، فلماذا سيحترمها هو؟
- أغرقهم في جمال ثقافتهم: لا تكتفِ باللغة، بل قدم لهم المحتوى. خذهم إلى الأماكن التراثية، عرفهم على الأكلات الشعبية، علّمهم معنى “القهوة” و”إقلاط الضيف”. اجعل ثقافتهم جزءًا حيًا ومحبوبًا من حياتهم اليومية.
خاتمة
ليس الهدف أن نخرج جيلا يتقن الإنجليزية فقط، بل أن نغرس فيهم القدرة على الإحساس بلغتهم الأم، والتعبير بطلاقة عن أفكارهم وهويتهم والانطلاق إلى العالم من جذر صلب. أما إذا حوّلنا بيوتنا إلى أراضٍ غريبة، خالية من عبق اللغة الأم، فقد نُهدي أبناءنا غربة تبدأ من عتبة بابهم.
