الإنسان هو مصدر الحضارة وصانعها، فلا حضارة بدون الإنسان. فهي تنمو وتزدهر بوجوده وتفاعله معها، وتخبو وتضمحل في حال تراجعه أو قصوره. فهو الذي يبنيها ويعمرها، وفي ذات الوقت يمكنه أن يهددها ويدمرها. الحضارة ليست كيانًا منفصلاً عن الإنسان، بل هي مرآة تعكس حركته عبر الزمن. إن الإنسان هو من يشكل هذه الصورة التي تُعرف بالحضارة، وهو أيضًا من يعصف بها.
يربط فيلسوف الحضارة الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، بين تخلف المسلمين وانهيار حضارتهم وظهور ما أسماه «الإنسان النصف» في المجتمع الإسلامي. يصف مالك بن نبي هذا النوع من الإنسان بأنه شخص يطارد حقوقه دون أن يقوم بالإيفاء بالمسؤوليات المترتبة عليه. تتجلى هذه الظاهرة في نماذج عديدة، مثل الطالب الذي يذهب إلى الجامعة لا لاكتساب المزيد من المعرفة، بل لجمع الملخصات وإعداد المواد المطلوبة للامتحان، دون اكتراث بفهم المواد الدراسية والاستزادة من علم نافع. وكذلك الموظف الذي يقضي ساعات عمله بشكل عشوائي، دون أن يبدع أو يبتكر، وكل ما يشغله هو قضاء الوقت ليعود إلى حياته ويحصل على راتبه.
هذا «الإنسان النصف» لا يلتزم بواجباته كطالب، ولا يحقق الأداء المطلوب كموظف، ولا يسهم في الإبداع أو الإنجاز في مجاله، ومع ذلك يطالب بإلحاح بحقوقه دون أن يقوم بأدنى واجباته.
إنسان النصف هو تجسيد لأولئك الأشخاص الذين يأخذون بجانب واحد فقط من معادلة الحقوق والواجبات. يركزون بشكل رئيس على تحقيق مصالحهم الشخصية، متجاهلين متطلبات واحتياجات الجماعة. فهو الفرد الذي يضع مصلحته الشخصية في صدارة اهتماماته، حتى وإن كان ذلك على حساب المصلحة الجماعية. يبالغ في التركيز على نفسه ومصالحه الخاصة، ويجعلها المحرك الأساس لأفعاله، دون الاكتراث بتعارضها مع مصالح الآخرين. لذا، تصبح القيم مثل: العطاء والتضحية والكرم والسخاء مفاهيم بعيدة عن واقعه. إن إحساسه المفرط بالخصوصية يجعله يعتقد أن الفردانية هي السبيل الوحيد لتحقيق النجاح والمنفعة بعيدًا عن الجماعة.
عندما تزداد المطالبة بالحقوق قبل الوفاء بالواجبات واستيفاء حقوق الآخرين، يتلاشى الإحساس بالواجب ويضعف الدافع لفعل الخير. ذلك لأن حقك هو واجب على الآخرين، وواجبك هو حق للآخرين. فإذا انتظر كل فرد استيفاء حقوقه قبل أداء واجباته، ستضيع الحقوق. لكن إذا التزم كل شخص بأداء واجبه، ستتحقق الحقوق الأخرى بشكل تلقائي، مما يحقق توازنًا بين الحقوق والواجبات. يقول الأستاذ عباس العقاد: «عليك بالواجب ودع الحقوق تسعى إليك بغير عناء».
إن الإنسان الذي يقصر في أداء واجباته ويتخاذل في إنجازها لا يحق له المطالبة بأي حقوق. ومن تطغى عليه أنانيته ويضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة الجماعة، لا يجوز له المطالبة بأي حقوق. إن الإلحاح في طلب الحقوق دون الوفاء بالواجبات أو التقصير في أدائها يعكس دناءة النفس وخستها، وإذا استشرى هذا السلوك في المجتمع وأصبح شائعا، فإنه يصبح مؤشراً على انحدار الحضارة وسقوطها.