(كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَیۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ وَفَجَّرۡنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهَرࣰا) [سورة الكهف 33]
راعى البيان المعجز الحكيم الحمل على اللفظ لا المعنى فلم يرد (آتتا أكلهما، ولم تظلما..) فكلتا مفرد في اللفظ مثنى في المعنى، ويجوز في هذا المقام مراعاة اللفظ أو المعنى.
كلانا غني عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا
والجواز ظاهر في الخيارات الأسلوبية في استعمال البيان البشري، وهو في البيان العالي المحكم مقصود دون غيره؛ ذلك أن المقام مقام إعطاء لحق الإثمار من الجنتين دون نقص أو إقلال؛ وهذا يناسبه الإفراد على وجه التحقيق للحق من كل من هو مطلوب منه ذلك، على وجه الاستحقاق والإفراد.
فكل جنة آتت أكلها إثمارا وعطاء، من كل شجرة منها بل كل ثمرة فيها!
وتأمل الذوق البياني المدهش للعقول والألباب، والمؤثر في أعماق النفوس، ببيانه الخلاب، اذ استعمل لفظ الظلم فقال: “وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ” ولو قصد النقص بلفظه ومعناه لاستعمله بمقاله فكان: ولم تنقص منه شيئا، فقد قصد النقص وزيادة؛ لدلالة نفسية وإيحاء، ذلك أن الجنتين لم تظلما وصاحبهما ظلم!
لم يظلم الجماد من جنان وبساتين وأشجار وثمار، وظلم الإنسان ذو العقل والقلب والإحساس!
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُۥ وَهُوَ ظَالِمࣱ لِّنَفۡسِهِۦ قَالَ مَاۤ أَظُنُّ أَن تَبِیدَ هَـٰذِهِۦۤ أَبَدࣰا) [الكهف: 35]
فقابل النعمة بالكفر والجحود، وقابل وفاء الحق من الجنتين بالإثمار بالظلم والكفر والإنكار!
فكان أقسى من الجمادات بل أظل من سائر الكائنات!
هذا هو البيان المحكم الذي يكشف عن دقائق المعاني وخطرات النفوس ويبث نبض الحياة في التعبير بالكلمات!