كثرت التحليلات عن أحداث الفتن التي تموج في سوريا واليمن وغيرها من بلاد المسلمين في صورة التغريدات والمدونات والمنشورات، وتلاحظ في أغلبها أغلوطات في تفسير هذه الأحداث، بعضهم يدعي أن مصائبنا بسبب ذنوبنا، وأن الله عاقب المسلمين لكثرة التلبس بالذنوب والبدعة! والبعض يزعم أن خروج هؤلاء على حكامهم لا يختلف عن بدعة الخوارج!

وهناك مجموعة أخرى في صف أبناء مناطق الحروب تتأوه من الجروح، وتتضجر من أقدار الله ولسان حالهم: أين الله مما نزل بهم؟! على نحو مقولة البعض: يا ربي أيش كان ذنبى حتى فعلت بي هذا؟

ثم تأتي تقارير مختلفة تثبت أن نسبة الإلحاد بين أبناء المسلمين تزداد يوما بعد يوم، والله المستعان! بل يتذمر الآخرون بقولهم لماذا كانت الغلبة والدائرة والتمكين للكفار علينا، ونحن عباده المؤمنين؟

كلمات تعبر عن المشاعر، ثم عن مشكلتنا في أصل الإيمان بقضاء الله وقدره!  وقد علمنا أن الإيمان بالقضاء هو نظام التوحيد كما قال ابن عباس، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر فقد تم توحيده، ومن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيده[1]! ويصدّق ذلك وضع العبد وتصرفه قولا وفعلا عند حلول الفتن والمصائب، يقول الله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) /العنكبوت: 2 -3/، وآيات من قبيل هذه كثيرة.

أما الشباب أصحاب الشماتة فإنهم أخطأوا حين احتجوا بالقدر ونسوا أن “رحمة الله سبقت غضبه”، وأن النظر إلى المصائب العامة يختلف عن الابتلاءات الخاصة بالأفراد، وأن المصائب تكون عقوبة أحيانا للذنوب وليست لزاما، كما تكون ابتلاء لرفعة الدرجات، بل تقع أحيانا بإرادة خالصة من الله لأهل الاستقامة لتثبيتهم، وأتوا الجهل من قبل تعليل أسرار المصائب التي وقعت بالمسلمين لسبب مواقعتهم البدع والذنوب، ناسين أن هذا السبب – وإن وجد- لا يسلم أحد منه، فلِم الجزم والتألي على الله؟!

وأخطأ البائس الذي عالج مشكلته بالقنوط والتضجر واليأس إلى حد الإعراض والتشكيك في قدر الله، وهذا بلاغ من الجهل! وكان الأولى الحذر من هذه الحالة لانطباقها على المنافقين والكفار، يقول الله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ* أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) /الروم: 36 – 37/.

فقد حذرت الآية المؤمنين من القنوط للمصائب النادرة التي وقعت لهم، لأن فعل ذلك يعارض أصل الإيمان، والقنوط من أوصاف الكفار لانعدام الإيمان بالله.. لذلك دلهم على التوبة، والتأمل في حالة الرزق والرفاهة، فإن المؤمنين كما لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء، فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق، فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى. التحرير والتنوير 21/101.

ولمعالجة هذا الأمر الشائك الذي تحير منه عادة العامة، وكثر فيه اللغط في مجالس الناس ومحافلهم نضع أمامنا بعض الأصول النافعة في كتب علماء السنة كما نظّر لها ابن القيم وغيره.

1-  المصائب في حياة المخلوق أمر كوني قدري، يتساوى فيها الصالح والطالح، والمؤمن وغيره، الصغير والكبير حتى المجانين والبهائم الذين سقط في حقهم التكليف والمسؤولية فإنهم يصابون بأشياء من الحروب والطعان والزلازل والأمراض والفتن .. مما يبرهن على أن أفعال الله في هذا الكون بإرادته المطلقة، فإنه يفعل بما يريد وكيف يريد دون ملامة، فقد أحسن حين قال: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) /الأنبياء: 23/.

2-طبيعة حياة الإنسان المدنية تستوجب قوة الدفاع، فكما احتاج الإنسان بفطرته إلى الغذاء لبقاء نوعه احتاج بطباعه إلى سلاح للدفاع عن نفسه وفق العوامل المختلفة التي ركبت في الإنسان، فالعامل العدواني يغلب أحيانا فيعتدي على غيره، ويحتاج الآخر إلى مدافعة عدوانه بالمثل، وهكذا، وهذا يشير إلى وجود الصراع بين الخير والشر بكل معانيهما، ومصداق ذلك قوله تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) /البقرة: 251/، ونحوه في سياق آخر في سورة الحج.

فالحروب – وإن كانت مصيبة – فيها القوة الغالبة والخاسرة فإنها ظاهرة اجتماعية يسلط الله البعض على الآخر، ويجعل أهل الحق أحيانا فتنة لأهل الباطل، والعكس مشاهد، وهنا تظهر حكمة الجهاد.  ولكن الله ذو فضل كبير على الناس جميعا، حيث يسلط على الظالم من يهلكه، ويدحر أهل الباطل بجند الحق، فإذا ظهر ظالم آخر، أرسل الله له في الوقت المناسب من يخلص الناس منه، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب، ويؤيد أعوانه في اللحظة الحاسمة التي يريدها. التفسير المنير: 2/430.

وهنا يكمن لنا معنى آخر في بعض المصائب التي تنزل بصورة الحروب أنها قدرية كونية نتيجة المدافعة بين القوى المتقاتلة، لكن النصرة والتمكين يكون لأهل الحق دائما، وهذا يوصلنا بالأصل الثالث.

3-حظ المؤمنين في النصرة بقدر حظهم في الإيمان، ثبت عدد من الآيات وعد الله فيها النصرة والتمكين والغلبة لأهل الإيمان، نحو قوله تعالى: (إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) /غافر: 51/، لكن هذا النصيب من النصرة والولاية التي تكفل الله بها للمؤمنين يكون لهم على قدر إيمانهم، ويصاب منهم على قدر إيمانهم، وهذا يجيب إشكال: لماذا تأخرت علينا النصرة، ولماذا تضعفنا قوة الكافرين الكاسرة؟ وهنا يظهر سبب ما يأتينا من المصائب.

إلى جانب الأثر الإيماني تأتي الأسباب المادية الداعمة له، فإن الشارع مثلا أمرنا بالتهيئة والاستعداد المستمر، ولم يدعنا إلى التوكل فقط، وإن كل شأن هزم فيه المسلمون سيما في هذا العصر فهو نقص يجب تداركه، يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) /الأنفال: 60/.

وهذه الآية تدل على الاحتراس لأن قوله: (ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا) يفيد توهينا لشأن المشركين، فتعقيبه بالأمر بالاستعداد لهم: لئلا يحسب المسلمون أن المشركين قد صاروا في مكنتهم، ويلزم من ذلك الاحتراس أن الاستعداد لهم هو سبب جعل الله إياهم لا يعجزون الله ورسوله، لأن الله هيأ أسباب استئصالهم ظاهرها وباطنها. التحرير والتنوير: 10/54

وأي تخلف في أي الجانبين المادي والإيماني فإنه يؤثر على استحقاقنا لنصرة الله، فليس مجرد الذنب الذي يستوجب المصائب، ولكن الأمر أكبر من ذلك.

4 –أن حال المؤمنين في مصائبهم تختلف تماما عن حال الكفار، فإن المؤمنين يعاملون مصائبهم بالرضا عن الله والاحتساب، فإن فاتهم الرضا فمعوَّلهم على الصبر وعلى الاحتساب، وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء، فإنهم كلما شاهدوا الأجر هان عليهم تحمل المشاق والبلاء، والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب، وإن صبروا فكصبر البهائم (وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) /النساء: 104/. إغاثة اللهفان: 2/188

 وبهذا يزول إشكال الذين استيأسوا من النصرة أو استبطؤوها بتحليلات متكلفة، فإن المصائب تقع على الجميع بقدر محتوم من الله تعالى الخالق، بإرادته المطلقة، والأمة ما لم تقم بالإعداد المناسب فإن نتائج هذه المصائب يدوي أثرها وتزعزع القلوب الضعيفة، وأن الأمة وإن أصيبت فذلك خير لها حتى تعيد النظر في أمرها، ولا تجوز الشماتة أو التذمر، ولكن المطلوب مدافعة القدر بالقدر.


[1]  أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 2/ 422، والفريابي في القدر ص 143