من المعلوم في تاريخ الفِكر الإنساني أن حقبة الأنوار تَعَدُّ حقبة اعتزاز بالذّات، وحقبة وعي الإنسان الغربي بنفسه، من أنه قادر على إدارة شأنه الذَّاتي والخارجي بكل ثقة وإتقان، ولاحاجة له، إلى أيّة مُنطلقات معرفية تتعالى على العقل الإنساني، أو تنفلت من دائرته التّفسيرية، وتعد العبارة الكانطية الشهيرة “أجرؤ على استخدام فكرك الخاص”، شهادة ميلاد وإشهاد على أن الإنسانية بلغت مرحلة النّضج، في مسيرتها نحو الأفضل والأسعد.
إن عبارة الفيلسوف الألماني كانط، ونصه الشَّهير حول : ما الأنوار؟، تعبير عن صيغة من الصيغ التي يُدَبّر بها الإنسان الحداثي ذاته؛ لتتلو بعد هذه الخُطاطة، قيمُ أخرى، في طليعتها؛ الغائية الإنسانية، والإستقلال، والكونية، باعتبارها مُحدّدات أنطولوجية لقيم التنوير الفلسفي ونظريات التقدّم الحضاري، فالغائية الإنسانية تعني سلوكا أخلاقيا تجاه الإنسان أثناء التَّواصل الإجتماعي معه، بوصفه غاية في حد ذاته، وليس وسيلة إلى غاية أخرى، قد تكون نفعية، فلا يمكن للشَّيء أن يعوّض قيمة الإنسان مهما كان مأتاه، أما الاستقلال، فيعني زوال التَّفسيرات الغيْبية من دائرة الفهم للوجود الطَّبيعي والإنساني، فالاستقلال هنا توجُّه أفُقي بالعَين نحو المستقبل، وليس توجُّه بالعين شَطْرَ الرُّؤى العمودية الغيبية، كأن يستمد منها الإنسان المدد أو العون. إن الإستقلال ملخّصا، هو فعل الإنسان في العالم، دون مرجعيات متعالية، في حين أنَّ الكونية نوع من الإحتفال السَّعيد بنهاية أفكار العنصرية، والتراتب بين الإجناس البشرية بناء على صفات فيزيزلزجية أو انتماءات ثقافية خاصة، فالكوني هو اشتراك في نمط من الوجود، تتساوي فيه الإنسانية، في الإنتساب إلى معيار الذَّاتية والانتماء إلى صورة جديدة، يعود فيها الإنسان إلى ذاته من حيث هو كائن عاقل.
وتلازم مع هذه القيم التأسيسية الثلاث لحقبة الأنوار: الغائية الإنسانية، والاستقلالية، والكونية، تمجيد فلسفي وفني، تم بموجبه قسمة التاريخ الثقافي للإنسان، إلى حقبة ما قبل الأنوار، وهي حقبة الظَّلام والتخلّف والهمجية، وحقبة الأنوار وما يتلوها، بما هي حقبة النّهضة والتقدُّم والحرية؛ ولم يصبح من دور للفكر، سوى صياغة هذه الحركة التاريخية في منظومة فلسفية، تعكس هذا الفعل التنويري الجديد وتُعَبّرُ عنه، ولا عجب أن يجعل ” هيجل “، من دور الفلسفة، أن تعبرّ عن زمنها في الفكر، ووسيلتها في ذلك هي المفاهيم، فالفلسفة هي زَمَنُها مُلَخَّصُ في الفكر، مادام الزمن هو زمن صناعة الحداثة، التي تقطع مع الموروث وتنخرط في الزّمني المفتوح.
إلا أنّ هذا التمتُّع السَّعيد بالصّيغة التّنويرية كفلسفة راسمة لمضمون وشكل فعل الإنسان في العالم، وإن رفع الإنسانية من مرحلة الشُّغل الذي يُلبّي الحاجات البيولوجية للكائن، إلى مرحلة الصُّنع الذي يرتقي رتبة فوقها، لكي ينتج الأدوات الصناعية، ليس من أجل استهلاكها، وإنّما من أجل استعمالها، إلا أن الأنوار التي رَبىَّ عليها الإنسان تفكيره وسلوكه، وبذل لأجلها الجهد الكثير، لَدَغَتُهُ في مسيرته الحضارية، ودفعت به إلى أن يتخذ من هذه القيم متاريس عنيفة؛ في يد إنسان مفصول عن أيّة أسس أخلاقية هادية، ومحصور في أخلاقيات منفعية محدودة.
إن الأنوار التي من مُثُلُهاَ : الغائية الإنسانية، قد فعلت الفعل الشنيع، بأن أدخلت إلى حياة الإنسانية، حربين عالميتين، كانت نتيجتهما القاتلة على الإنسانية،80 مليون قتيل، وتم فعل هذا، بأدوات التنوير نفسها، التي أضحت تمارس القتل المُعَقْلَنْ، بكل الوسائل الصناعية الجديدة التي أنجتها ” جرأة الإنسان على أن يستخدم فكره دون سند موجّه”، وأن يعبد العلم كقيمة في حدّ ذاته، العلم الذي زوده بمستحدثات القتل الصناعي، وفقدت الغائية الإنسانية صورتها المشرقة، وأضحت ذات منظر كئيب، لأن الإلزام في المرة الأولى كان يأتي من الإله، وعندما شرّع كانط للإلزام من الذّات، أصبح إلزاما من دون إلتزام، يُشرّعُ لذاته، ويُبرّر ذاته أيضا.أي أنّه بلغة “نيتشه” أصبح إنسانا مُفرِطا في إنسانيته.
أما الكونية، فقد استيقظت على إرادة عنيفة في استعباد الجنس البشري، تحت مشروعية التَّعقيل والتّحضير، ونقل المدنية إلى الآخر الصامت، والجالس دوما في قاعة الدّرس أو في السجن؛ وأصبحت الكونية قيمة جوفاء، أو صنما من أصنام العصر الحديث، مُفرغ ُمن دم الحياة وروح التآخي، أضحت الكونية وسيلة عنيفة، لإجبار الآخر على أن يكون وفق ما تتخيّله الذّات : طفوليا، غير ناضج، وعبدا. بينما الإستقلالية الإنسانية، وإن وثقت في الإنسان كمبدأ وكنوع، إلاّ أنها أفرغت العالم من معانيه و أسراره. إن الإنسان الذي شيّع جنازة الإله وأحل نفسه محله، لم يقدّم في الجهة المقابلة، الأمن الوجودي للإنسانية الحائرة، بأن أفرغ حياته من مضامين الإنسانية: كعشق التَّعالي، وحب القداسة، والعيش في وفاق مع الإله، فأضحى إنسان التنوير يترنّح فوق حبل البهلوان، لا يقدر على المواصلة، ولا يقدر على الوقوف، ولا حتى على الرجوع إلى مكانه، ولم يبقى في يديه، سوى وصايا أخلاقية تم إفراغها من أخلاق التّعالي، علما أنها اي هذه الوصايا الأخلاقيةمُسْتَخْرَجةُ من الأخلاق المتبقية من الموروث الدّيني، فالشَّمس قد غربت، إلا َّ أنّ الدفء الموجود في اللّيل هو من آثار شمس النّهار.
إن لدغة الأنوار، تعكس حاجة الإنسان مجددا، إلى عصر تنوير جديد، أو إلى فلسفة إنسانية اخرى، لا تتعالى فيها الروح على الطبيعة، ولا الطبيعة على الرُّوح أو الضّمير، وإنّما للوجود المتزامن لكليهما، فالإنسان من دون أخلاق وفضائل، ما هو إلاَّ حيوان ذكي، يستخدم ذكاءه في غزو الطبيعة وغزو الإنسان؛ ومنه، فالإنسانية التنويرية الجديدة، هي إنسانية الثنائية القطبية : الطبيعة و الضّمير؛ في منهج تركيبي متوازن ومتجدّد، والشاهد على مشروعية هذه التنويرية الجديدة، الثنائية القطب، أن حركة التاريخ تطالعنا، بأنَّ أيّة حضارة تدخل الفعل التاريخي، فإنّها تسجّل دخولها بوفرة روحية، وفقر مادي، لكنها تخرج من التاريخ، مسجّلة هذا الخروج، بوفرة مادية، وخراب أخلاقي.
وهذه الفلسفة ثنائية القطب، هي العلاج لهذا التنازع والتّعارص بين الرؤى الفكرية، فلا يمكن لناقص الكمال، أن يكون معيارا للكمال، وأقصد أن لا يصبح الإعتماد على الإنسان وحده، فهو اليوم أصبح، يُشْبه السفينة التي توشك على الغرق، لكنها غير قادرة على أن ترسو اعتمادا على ذاتها فقط، إنها في امتساس الحاجة، إلى مكان ترسو عليه، كي تتوازن، وتستكمل مسيرتها، وسفينة الأنوار التي لدغت الإنسان، جعلته يفقد توازنه، وقوته الذّاتية، لأنه اعتمد على الطبيعة وحدها، و ظنَّ أنّه مستغن عن الضّمير، أو أنّه اعتمد على المادة وحدها، معرضا عن الروح، فكانت النتيجة، أنّه نزع لباسه الروحي، وتَعدَّى حُدوده، فحُرم من الرّحمة والحفظ، وإنه ليبدو أنَّ المسلك الآمن هو أن يلبس من جديد لباس الضّمير أو الروح، لأنه خير له في حياته الأولى وحياته الثانية.