في ظل عالم يموج بالصراعات والنزاعات وتتزايد فيه التحديات الإنسانية والأخلاقية، وفي عالم يزداد اضطرابا، هل يمكن للدبلوماسية النبوية أن تكون البوصلة الأخلاقية التي تعيد توجيه السياسات نحو سلام عادل؟

للإجابة على هذا السؤال، ومن قلب الدوحة، عُقد مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب”، بحضور ومشاركة نخبة من العلماء والباحثين المتخصصين لصياغة فهم معاصر للسيرة النبوية كمنهج عملي للعلاقات الدولية وإدارة الصراعات – من وثيقة المدينة إلى صلح الحديبية وفتح مكة- بمنظورٍ قانوني ومقاصدي ودبلوماسي.

هذا الحدث يمنح صُناع القرار والباحثين إطارا تطبيقيا يوازن بين العدالة والرحمة، ويقدّم الدبلوماسية النبوية كأداة فعّالة لمكافحة التطرف وبناء الثقة وترسيخ التعاون بين الدول والمجتمعات.
ليس التاريخ مجرد سرد لأحداث مضت، بل هو مرآةٌ نستنطقها لفهم الحاضر وصناعة المستقبل. ومن هذا المنطلق، جاء مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” ليُعيد قراءة السيرة النبوية لا كمجرد ذكرى تُحتفى بها، بل كمنهاج حيّ، كبوصلة أخلاقية ودبلوماسية قادرة على توجيه عالم يائس إلى شواطئ السلام العادل والرحمة الشاملة. فهل نحن مستعدون لسماع هذا الصوت؟ وهل نملك الجرأة على اتخاذه دليلا في زمن اختلطت فيه المفاهيم وانقلبت فيه المعايير؟

الهدي النبوي في السلم والحرب

شهدت الدوحة يوم الأربعاء، 24 سبتمبر 2025، تنظيم مؤتمر السيرة النبوية السنوي الذي ينظمه مركز محمد بن حمد آل ثاني لإسهامات المسلمين في الحضارة، التابع لكلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة.

صورة مقال مؤتمر "الهدي النبوي في السلم والحرب" .. الدبلوماسية النبوية كبوصلة أخلاقية
مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب”

حمل المؤتمر هذا العام شعارا ذا أهمية استثنائية وهو الهدي النبوي في السلم والحرب”، ليسلط الضوء على الثراء التشريعي والأخلاقي في سيرة النبي محمد ، ويقدمها كنموذج عملي وحيوي يمكن استلهامه لمواجهة أزمات عالمنا المعاصر.

يسعى المؤتمر على مدار يومين كاملين إلى استكشاف كيفية تعامل النهج النبوي مع قضايا السلم والحرب، بدءًا من إرساء قواعد السلام ومنع النزاعات، وصولا إلى وضع التشريعات المنظمة للعلاقات الدولية وإدارة الصراعات وآثارها. وقد أكد المشاركون على أن هذا الموضوع يكتسب أهمية قصوى في وقتنا الحاضر، حيث يقدم المؤتمر تذكيرا للقادة والمجتمعات بالقيم الإنسانية العليا التي أرستها السيرة النبوية، باعتبارها منارة لتحقيق العدل وتعزيز السلم الدولي

مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” جمع نخبة من العلماء والباحثين من مختلف أنحاء العالم لمناقشة واحد من أكثر الموضوعات إلحاحًا في عصرنا، وتقديم السيرة النبوية العطرة ليس فقط كحدث تاريخي، بل كمنهاج حيوي قادر على تقديم حلول ورؤى لأزمات العالم المعاصر.

شهد اليوم الأول زخما فكريا كبيرا، حيث تم تفكيك المفهوم النبوي للسلم والحرب عبر ثلاث جلسات علمية متخصصة، سبقتها كلمات افتتاحية وضعت الإطار العام لهذا الحوار العالمي المهم.

عائشة المناعي: سيرة النبي نموذجا فريدا في القيادة

افتتح المؤتمر بتلاوة آيات من الذكر الحكيم بصوت الشيخ هيثم الدخين، إمام مسجد المدينة التعليمية. تلتها الكلمة الافتتاحية من الدكتورة عائشة يوسف المناعي، رئيس المؤتمر ومدير المركز. الدكتورة عائشة المناعي أكدت في كلمتها أن اختيار هذا الموضوع لم يكن ترفا فكريا، بل هو “استجابة لحاجة عملية وعلمية وأخلاقية ماسّة” في ظل ما يشهده العالم من حروب وصراعات.

 جانب من الحضور لمؤتمر "الهدي النبوي في السلم والحرب"
جانب من الحضور لمؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب”

وأوضحت أن سيرة النبي محمد تقدم نموذجا فريدا في القيادة القائمة على العدل والرحمة والحكمة، وأن العودة لهذا النموذج تفتح آفاقا جديدة نحو السلام والمصالحة في عالمنا.

رجب شنتورك:استجابة حيوية للتحديات

بعد ذلك، ألقى الدكتور رجب شنتورك، عميد كلية الدراسات الإسلامية، كلمته الرئيسية التي وصف فيها المؤتمر بأنه “استجابة حيوية للتحديات الأخلاقية والإنسانية المتزايدة”. وأشار إلى أن النموذج النبوي يبرز “منارة للحكمة والأمل” في زمن تتزايد فيه مآسي الحروب ومظاهر الظلم. وشدد على أن المؤتمر يهدف إلى تفعيل السيرة النبوية “كهدي حيّ” قادر على إثراء الفكر المعاصر وصياغة السياسات، واصفاً هذا المنهج بـ “التجديد المؤصل”.

السلم والحرب في التطبيق النبوي

أدارت الدكتورة عائشة المناعي هذه الجلسة التأسيسية التي غاصت في صلب الممارسة النبوية.

افتتح النقاش الدكتور رضوان السيد، عميد كلية الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، بورقته المعنونة “سياسات رسول الله في السلم والحرب: بين القرآن وكتب السيرة النبوية”. ركز الدكتور السيد على العلاقة بين النص القرآني كمصدر تأسيسي والسرد التاريخي في كتب السيرة كتطبيق عملي. وبيّن كيف أن القرآن وضع المبادئ الكبرى للسلم كأصل والحرب كاستثناء دفاعي، بينما قدمت السيرة تفاصيل التطبيق العملي لهذه المبادئ في سياقات مختلفة، مما يتطلب من الباحثين فهماً عميقاً لكلا المصدرين للوصول إلى رؤية متكاملة.

تلاه الدكتور صفوت مصطفى خليلوفيتش من جامعة زينيكا، الذي قدم ورقة بعنوان “مفهوم السلم والحرب في الإسلام على ضوء السيرة النبوية: وثيقة المدينة وغزواته نموذجًا”. حلل الدكتور خليلوفيتش “وثيقة المدينة” كأول دستور مدني يؤسس لمجتمع متعدد الأديان قائم على المواطنة والعدل والأمن المشترك، معتبراً إياها تجسيداً عملياً لمفهوم السلم الاجتماعي.

وفي المقابل، استعرض الغزوات النبوية ليس كحروب توسعية، بل كأعمال دفاعية ضرورية لحماية هذه الدولة الوليدة وردع العدوان، مؤكداً أنها كانت محكومة بضوابط أخلاقية صارمة.

الدكتور محمد منير من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد
الدكتور محمد منير من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد

ثم قدمت الدكتورة شيخة عبد الله المطوع، الباحثة في علوم الحديث، ورقتها “النموذج النبوي في إدارة السلم بين صلح الحديبية وفتح مكة”. قدمت الدكتورة دراسة تحليلية مقارنة لهذين الحدثين المفصليين، موضحة كيف أن “صلح الحديبية” يمثل قمة الحنكة الدبلوماسية وتغليب السلام طويل الأمد على النصر العسكري القصير، بينما جاء “فتح مكة” تتويجاً لهذا النهج السلمي، حيث تم الفتح بأقل قدر من العنف، وتجلى فيه العفو والصفح في أسمى صوره.

واختتم الجلسة الدكتور قيم ناوكي ياماموتو من جامعة مرمرة بورقة جاءت بعنوان “السيف أم القلم؟ إرث الهدي النبوي في السياسة والواجب الفكري”. وأثار الدكتور ياماموتو نقاشاً حول الصورة النمطية للإسلام، مؤكداً أن الإرث النبوي لم يكن قائماً على القوة العسكرية (السيف) بقدر ما كان قائماً على القوة الفكرية والإقناعية والدبلوماسية (القلم). ودعا إلى ضرورة إبراز هذا الجانب الفكري في السياسة النبوية لمواجهة الإسلاموفوبيا وتقديم صورة أكثر دقة عن الحضارة الإسلامية.

العلاقات الدولية في ضوء الهدي النبوي

في الجلسة الثانية التي أدارها الدكتور محمد الجمال، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية، انتقل المؤتمر إلى فضاء العلاقات الدولية.

بدأ الدكتور محمد منير من الجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد، بطرح سؤال جوهري في ورقته “طبيعة العلاقات بين الدول المسلمة وغير المسلمة: صراع أم سلام؟”. فند الدكتور منير فكرة حتمية الصراع، مؤكداً أن الأصل في العلاقات الدولية في الإسلام هو السلم والتعاون والتعاهد، وأن حالة الحرب هي الاستثناء الذي تفرضه ظروف العدوان. واستعرض الأدلة من السيرة والقرآن التي تؤسس لعلاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل والوفاء بالعهود.

ثم قدم الدكتور معروف أدم باوا من جامعة قطر، ورقة بعنوان “أصول العلاقات الدولية في الهدي النبوي”. غاص الدكتور باوا في استنباط المبادئ التأسيسية التي حكمت سياسة النبي الخارجية، مثل مبدأ السيادة، واحترام المواثيق، وإرسال الرسل والسفراء، والاعتراف بالآخر المختلف. وأوضح أن هذه الأصول تشكل أساساً متيناً يمكن البناء عليه لتطوير نظرية إسلامية معاصرة في العلاقات الدولية.

رجل يرتدي بدلة رسمية يتحدث في مؤتمر حول التنمية المستدامة والسلام. خلفية الصورة تتضمن لوحة عرض وجهاز عرض.
الدكتور معروف أدم باوا من جامعة قطر

وقدم سعادة السفير عليار عبد العزيز، الدبلوماسي السريلانكي المخضرم، رؤية من زاوية الممارسة الدبلوماسية في ورقته “العلاقات الدولية في ضوء الهدي النبوي”. ربط السفير بين المبادئ النبوية وممارسات الدبلوماسية الحديثة، مشيراً إلى أن مفاهيم مثل الوساطة، والمفاوضات، وبناء الثقة، التي تعتبر من أدوات الدبلوماسية المعاصرة، لها جذور عميقة في الممارسة النبوية، مما يجعل السيرة النبوية مصدرا للإلهام للدبلوماسيين اليوم.

واختتم الجلسة الدكتور صلاح عاشور من جامعة الأزهر، بورقة “ملامح من السبيكة الدبلوماسية للنبي في تعايشه مع مجتمع المدينة”. ركز الدكتور عاشور على العبقرية الدبلوماسية الداخلية للنبي في إدارة مجتمع المدينة المتنوع، معتبراً أن نجاحه في بناء جبهة داخلية متماسكة كان هو الأساس الذي انطلق منه لبناء علاقات خارجية ناجحة.

قراءات تشريعية للهدي النبوي في السلم والحرب

أدار الدكتور عبد العظيم أبو زيد، الأستاذ بكلية الدراسات الإسلامية، الجلسة الثالثة ذات الطابع القانوني والتشريعي. حيث قدم الدكتور عبد الحنان تاغو من المجلس الأعلى لعلماء الفلبين، ورقة بعنوان “السلم والحرب في التطبيق النبوي: قراءة في المنهج النبوي في التعامل مع الواقع وتحقيق المقاصد”.

ركز الدكتور تاغو على البعد المقاصدي في التشريعات النبوية، موضحاً أن جميع القرارات والأحكام المتعلقة بالسلم والحرب كانت تهدف إلى تحقيق مقاصد عليا كحفظ النفس والدين والعقل والمال والنسل، وأن فهم هذا البعد المقاصدي ضروري لتطبيق الهدي النبوي في واقعنا المعاصر.

تلاه الدكتور عبد الله بن حميد علي من كلية الزيتونة، الذي قدم ورقة مؤثرة بعنوان “المحبة والسلام كأساس للهدي النبوي في السلم والحرب”. انطلق الدكتور من فكرة أن المحبة والسلام ليستا مجرد غياب للحرب، بل هما قيمة تأسيسية في الإسلام. وأوضح كيف أن كل التشريعات، حتى تلك المتعلقة بالحرب، كانت تهدف في نهايتها إلى إرساء سلام عادل قائم على المحبة والرحمة.

وقدم الدكتور منير الكمنتر، رئيس مشيخة جامع الزيتونة، ورقة بعنوان “الهدي النبوي في السلم والحرب”، حيث استعرض بشكل شامل المبادئ العامة التي أرساها النبي في هذا الباب، مؤكداً على شمولية النموذج النبوي وقدرته على مخاطبة كل زمان ومكان.

رجال يرتدون العمائم يجلسون في صفوف خلال مؤتمر، مع التركيز على التفاعل والاهتمام. تتواجد مجموعة من الحضور في الخلفية.
جانب حضور جلسات مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب”

واختتم اليوم الأول بورقة فريدة من الدكتور محمد مدثر علي من كلية الدراسات الإسلامية، بعنوان “التجسس في السلم والحرب: مقاربات قانونية وأخلاقية من الهدي النبوي والتقاليد الهندوسية”. قدم الدكتور علي دراسة مقارنة نادرة، حيث حلل القواعد الأخلاقية التي وضعها النبي لممارسة التجسس (جمع المعلومات)، وقارنها بما ورد في التقاليد الهندوسية القديمة، مبرزاً نقاط الالتقاء والاختلاف، ومؤكداً على السبق الأخلاقي في الهدي النبوي الذي قيد هذه الممارسة بقيود صارمة تمنع الغدر والخيانة.

رحلة فكرية في جوانب الهدي النبوي

كان اليوم الأول من المؤتمر رحلة فكرية عميقة أبحرت في مختلف جوانب الهدي النبوي في السلم والحرب، من الممارسة العملية إلى العلاقات الدولية والتشريعات القانونية. وقد أجمعت المداخلات على أن السيرة النبوية تقدم إطاراً أخلاقياً وتشريعياً متكاملا ومتوازنا، لا يزال قادراً على إلهام البشرية وتقديم حلول حقيقية لعالم يبحث عن السلام والعدل.

مؤتمر “الهدي النبوي في السلم والحرب” جاء ليؤكد أن السيرة النبوية ليست مجرد أحداث تروى، بل هي نبع لا ينضب من الحكمة، ومنهج عملي للحياة والسياسة والدبلوماسية. في زمن تختزل فيه العلاقات الدولية إلى معادلات قوة وحسابات مصالح، يذكرنا الهدي النبوي بأن العدل أساس الملك، وأن الرحمة سِمة القيادة الحقيقية، وأن السلام ليس ضعفا بل أسمى درجات القوة.