لا يكاد ينصرم هذا العام (2017م) إلا وتكون المئوية الأولى لأشأم وعد في التاريخ المعاصر قد انقضت.وعدُ من لا يملك لمن لا يستحق.وعدٌ من بريطانيا العظمى إلى شذّاذ الآفاق كي يغتصبوا أرضًا ليست لهم، لا بحكم التاريخ، ولا الجغرافيا، ولا الشرائع والأديان.

وعدٌ سعى له الصهاينة بكل ما أوتوه من وسائل، وبذلوا لتحقيقه الغالي والنفيس.فتمخض عن ذلك وعد مشؤوم من بلفور جاء فيه:”عزيزي اللورد روتشيلد يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي.وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية.

على أن يُفهم جليًّا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر.وسأكون ممتنًّا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح”.

هذا نص الرسالة التي أرسلها آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى بتاريخ 2 نوفمبر 1917م إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد يشير فيها إلى تأييد الحكومة البريطانية لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.

حلم العودة المزعوم إلى أرض المعاد ظل يراود اليهود قرونًا متطاولة منذ أن شتت شملهم الرومان وخرّبوا هيكلهم، ولا تكون العودة إلا بعد عودة مسيحهم المنتظر؛ حيث إنهم لم يؤمنوا بسيدنا عيسى المسيح، واعتبروه كذابًا، وسعوا في قتله.

ولكن هناك من أراد تعجيل العودة وعدم انتظار عودة مسيحهم، وقد حملت الحركة الصهيونية على عاتقها هذا الأمر، فأخذت تخطط لذلك وكتب هرتزل كتابه: الدولة اليهودية، فبشّر بالعودة والاستيطان واختار بعض الأماكن مثل: أوغندا وفلسطين، فاختاروا أرض الميعاد للهجرة إليها، وقد حاول تسويق فكرته عند السلطان عبد الحميد -رحمه الله- فلم يجد منه إلا كل إعراض.

ويرى البعض أن مساعدة الغرب للتخلص من اليهود يعود إلى البروتستانتية التي نادت بالعقيدة الاسترجاعية التي تعني ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، والذي يعتبر شرطًا لتحقيق الخلاص وعودة المسيح.والبروتستانتية المذهب الرسمي لبريطانيا وأمريكا؛ لذا فهما أكبر داعمين لإسرائيل والصهيونية.فكان الوعد من من بريطانيا، والرعاية من أمريكا.

وقد حلل الدكتور المسيري كيفية التلاقي بين الصهيونية والغرب بقوله: “يمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي المنبوذ هو الحلقة التي تربط بين العداء لليهودية والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة.

وتنطلق صهيونية غير اليهود من فكرة أن الفولك أو (الشعب العضوي اليهودي) لا مكان له حقًّا في العالم الغربي (وهذه هي نفسها دعوى أعداء اليهود)، ولكن يمكن الاستفادة منه كأداة يمكن توظيفها لصالح الغرب في مشروعاته المختلفة التي أصبح من أهمها -مع مرور الوقت- المشروع الاستيطاني في فلسطين.

ويستند نموذج الشعب العضوي المنبوذ إلى عنصرين أساسيين في الحضارة الغربية:

1- موقف الحضارة الغربية المسيحية من اليهود

ويمكن القول بأن نموذج الشعب العضوي يعود إلى فكرة الشعب الشاهد، أي: اليهود بوصفهم أقلية دينية رفضت المسيح، وتقف في ذُلِّها وخضوعها وتَدنِّيها شاهدًا على صدق العقيدة المسيحية وعلى عظمة الكنيسة.

ولذا، دافعت الكنيسة الكاثوليكية عن بقاء اليهود كجماعة مستقلة، وحمتهم ضد الهجمات الشعبية؛ حتى يقوموا بدورهم في الشهادة.

ثم تحوَّلت هذه الفكرة إلى العقيدة الاسترجاعية أو الألفية في الفكر البروتستانتي، وهي عقيدة تُحوِّل اليهود إلى أداة من أدوات الخلاص؛ إذ إنه لا يمكن أن يتم الخلاص النهائي إلا بعودة اليهود.

2- الأمر الآخر الذي يعود إليه نموذج الشعب العضوي المنبوذ

هو الدور الذي لعبه اليهود في المجتمع الغربي كجماعة وظيفية وسيطة تشتغل بالتجارة والربا والنشاطات المالية.

ويمكن القول بأن الشعب العضوي المنبوذ -في كثير من الأحوال- هو الجماعة الوظيفية التي فَقَدت وظيفتها.

ويُلاحَظ أن كلا الأمرين يضع اليهود على هامش التاريخ الغربي لا في صميمه، كما يجعلهم مجرد أداة إما للخلاص النهائي أو للربح”.

وكما تلاقت الصهيونية مع البروتستانتية فقد تلاقت كذلك مع العلمانية؛ إذ “أخذت الفكرة الصهيونية تتغلغل في الفكر الغربي: الديني والعلماني، حتى أصبحت الإطار المرجعي الأساسي الذي يتم إدراك اليهود من خلاله، وأصبحت فلسطين مرتبطة في الذهن الغربي باليهود.

ومع تزايد معدلات العلمنة في المجتمع الغربي، لم تختف الفكرة بل تم ترشيدها، واستُبعدت منها العناصر الغيبية مثل: الشعب الشاهد والعقيدة الاسترجاعية، واكتسبت شكلاً علمانيًّا، وأصبحت جزءًا من المشروع الاستعماري الغربي”.

فكان ذلك الوعد الصادر من الامبراطورية العظمى بريطانيا متعطفة على اليهود، رغم أن الغرب هو الذي أذاق اليهود سوء العذاب، لكنهم عاشوا في ظل الممالك الإسلامية كاملي الحقوق لا يُظلمون ولا تُبخس حقوقهم.

ولا ننسى أن نابليون كان قد وعد اليهود بوطن لهم في الأرض المقدسة، وذلك في حملته على مصر، فالأمر ليس جديدًا، فهو قديم متجدد، كل مستعمر يريد من يقوم له بالأعمال القذرة، ويضمن له سطوته على المنطقة، مع ما يضمنه لليهود من الحماية والدفاع وترجيح كفته دائمًا في الصراعات، وجدنا ذلك من نابليون الفرنسي، وآرثر الإنجليزي، وها نحن نراه الآن من أمريكا وريثة بريطانيا العظمى.

وبعد مائة سنة من الوعد، أصبحت إسرائيل حقيقة لا يمكن تجاوزها، وأصبحت تسيطر على أراض شاسعة في عدة دول عربية، وتعربد متى شاءت دون رقيب أو حسيب.

تملأ الدنيا صراخًا وعويلاً على ما حدث لها في أوروبا النازية، ثم فاقت بجرائمها في الشعوب العربية ما حدث لها في الزمن الماضي القريب.

وتلك الأنظمة التي اجتمعت على وقف احتلال الصهاينة لفلسطين، هي اليوم لا تراها عدوًا، وترى مصلحتها في مصالحتها، وتحارب من يحاربها.

إنها الآن تتحين الفرص لإعلان تأييدها للكيان الصهيوني الغاصب، وتسلك ما أمكنها من مسالك لمحاربة كل فصيل أو دولة أو أفراد يقاومون هذا الكيان المغتصب.

وعدٌ جرّ على الأمة ويلات.وعدٌ تحقق وتمكّن وأرهب وسيطر.فهل في الأجل القريب المنظور يبدأ العد التنازلي لزوال الكيان، وعودة اللاجئين، والصلاة في المسجد الأقصى؟ أم أن الطريق طويلة، والجهود المبذولة لا ترقى لتسريع الزوال؟