يغلب على خطاب الدعاة والعلماء والكتاب حين الحديث عن الهجرة النبوية الخطاب الجماعي أو خطاب الأمة، وبيان الدروس العبر من تلك الهجرة المباركة، وهو لا شك ملمح ذو أهمية بالغة، لكننا – في الوقت نفسه- بحاجة إلى الاستفادة من الهجرة النبوية في حياة كل فرد منا، فماذا تعني الهجرة في حياتي وحياتك وحياة كل فرد؟ ولماذا كانت الهجرة؟ وهل يمكن أن تتكرر تلك الهجرة مع ما ورد من حديث النبي – ﷺ- : ” لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية”؟
إن الأحداث في تاريخ الأمم والشعوب، عامة وفي حياة أنبياء الله- عليهم الصلاة والسلام – خاصة، وفي حياة النبي محمد بن عبد الله – ﷺ- على وجه الخصوص، لا تتوقف عند الحدث التاريخي الذي ينتهي بانتهاء أفعاله وزمنه، بل هو نموذج حضاري متكرر، يبقى جوهره وتتغير أشخاصه وأوقاته، ولكن تتشابه سياقاته على وجه العموم.
سبب الهجرة:
ولقد كان سبب الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة اضطهاد المشركين للرسول – ﷺ- وأصحابه، فلقد قتلوا منهم عشرات وآذوا المئات، بل انتهى المطاف إلى محاولة اغتيال الرسول ﷺ، وانتهت بنهب ثروات المسلمين ومصادرة أموالهم وبيوتهم، وبيعها لصالح المشركين المغتصبين، وهذا يعني تهديد مقاصد الشريعة في حياة المسلمين، فهم لا يأمنون على أنفسهم، ولا على أموالهم، ولا على دينهم، ففي ظل التعذيب والاضطهاد من أولئك الطغاة الظلمة، والزج بالمسلمين في أماكن التعذيب والاضطهاد حتى الموت، ومحاولة إجبار البعض على الردة عن الإسلام وتعاليمه، كان لابد أن يكون هناك مخرج من تلك المعادلة الصعبة، إلى معادلة أكثر إنصافا، ولكن كان فيها بعض التضحيات، فكانت الهجرة التي عبر النبي ﷺ أنها ( هجرة إلى الله ورسوله)، بمعنى أنها لم تكن هجرة لأجل التجارة والكسب، أو توسيع العلاقات الدولية، أو هجرة لأجل التنزه، بل كانت هجرة دينية؛ فرارا إلى الله تعالى، وفرارا من بطش الظالمين.
أهم دروس الهجرة بالنسبة للمسلم:
حفظ الدين:
أول دروس الهجرة بالنسبة للمسلم هو ( حفظ الدين) الذي هو أول وأهم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن يقدم حفظ الدين على الأوطان والأموال والتجارة وكل شيء في حياة، فضلا عن أن يخشى المسلم على دينه ونفسه وعرضه وماله، ولهذا جاءت الآيات تحث المسلمين على حفظ الدين أولا، فإذا ضاقت بالمسلم أرضه الذي يحيا عليها، فأرض الله واسعة، وحين تتعارض مصالح الدين مع مصالح الوطن الظالم أهله، قدمت مصالح الدين، ووجبت الهجرة والسفر والخروج فرارا بأعز ما يملك المرء، وهو دينه، إلا من كان ضعيفا لا يستطيع، ثم في السفر حفظ للدين والنفس وسعة في الرزق،
كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 97 – 100].
لاشك أن الإنسان- بفطرته- يحب وطنه الذي نشأ فيه، ففيه أيام طفولته وصباه وشبابه، وفيه أهله وجيرانه، وفيه درس وتعلم، وفيه رحلاته وتنزهاته، وفيه الذكريات الجميلة التي لا يمكن نسيانها، لكن ماذا إذا ضاق هذا الوطن عن أن يحافظ المرء على دينه وتطبيق شعائر الله تعالى، فلا معنى هنا للبقاء، بل يجب عليه أن يفر بدينه إلى الله تعالى، كما قال عن إبراهيم – عليه السلام-: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99].
وحين تتعارض مصالح الدين مع مصالح الأهل والعشيرة والمال؛ قدم الدين على كل شيء، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].
وعلة ذلك أن الله تعالى لن يسأل المرء لماذا تركت وطنك؟ أو لماذا لم تسكن أرض كذا، فكلها أرض الله تعالى، وإنما جعلت أرض الله؛ ليعبد فيها سبحانه، وأي أرض تلفظ طاعة الله، فلا معنى للسكن فيها.
إن الحكمة ألا يبقى الإنسان في الفتنة والظلم، بل عليه أن يسعى إلى التخلص منها، وألا يعرض دينه ولا نفسه للأذى، بل يبحث عما يحفظ دينه، ويصون نفسه وعرضه.
البيئة الصالحة:
كما أن من أهم دروس الهجرة على مستوى المسلم أن يجد لنفسه بيئة صالحة؛ تحفظ عليه دينه، وتصون عرضه، ويجد فيها راحته، ويعيش بين إخوة له في الدين ثم في الوطن، تسودهم المحبة والاحترام والتقدير، ويأمن فيها على كل ما يملك، ولهذا كانت الهجرة لأجل إيجاد بيئة صالحة للحياة، تقوم أسسها أولا على تقوى من الله ورضوان، ولهذا كان النهي عن تعريض الإنسان نفسه للهلاك بمخالطة الظالمين؛ فإن من جاور الظالمين؛ خشي عليه أن يكون ظالما، أو أن يتطبع بطبعهم، أو يتسلل إلى نفسه حب الظلم، أو الركون إليه، أو السكوت عنه.
ولهذا كان من أهم عوامل التوبة إلى الله تعالى أن يغير الإنسان بيئة الفساد والمعصية إلى بيئة الإصلاح والطاعة، ففي الحديث المتفق عليه عند الشيخين؛ البخاري ومسلم ، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدْرِي رضي الله عنه أنَّ النبي ﷺ قال: (كان فيمن كان قبلكم رجل قَتَلَ تِسْعةً وتِسْعين نفسًا، فسأَل عن أَعلمِ أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على راهِبٍ فأتاه، فقال: إنه قَتَل تِسعةً وتسعِينَ نَفْسًا، فَهلْ له مِنْ توْبَةٍ؟ فقال: لا، فقتلَهُ فكمَّلَ بِهِ مائةً، ثمَّ سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من تَوْبة؟ فقالَ: نعم، ومنْ يحُول بيْنه وبيْنَ التوْبة؟ انْطَلِقْ إِلَى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أُناسًا يعْبدون الله تعالى فاعْبُدِ الله معهم، ولا ترجعْ إِلى أَرْضِكَ؛ فإِنها أرضُ سُوءٍ، فانطَلَق حتَّى إِذا نَصَف الطَّريقُ، أَتَاهُ الموتُ فاختَصمتْ فيه مَلائكة الرَّحْمة وملائكةُ العَذابِ، فقالتْ ملائكةُ الرَّحْمة: جاء تائِبًا مُقْبلًا بِقلبه إلى اللَّه تعالى، وقالَتْ ملائكة العذاب: إنه لمْ يَعْمل خيرًا قطُّ، فأَتَاهُمْ مَلكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم؛ أَي: حَكمًا، فقال: قيسوا ما بينَ الأَرْضَينِ، فإِلَى أَيَّتِهما كَان أَدْنى فهْو لَهُ، فقاسُوا فوَجَدُوه أَدْنى إِلَى الأرض التي أَرَادَ فَقبَضَتْهُ مَلائكَةُ الرحمة).
فكانت نجاته – بعد مماته- نيته في مجاورة الصالحين، وكانت النصيحة من العالم أن يهجر بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة، وهو ملمح تربوي يتعلمه المسلم ليس في هجرة الأوطان التي يفتن فيها المرء عن دينه وفي نفسه فحسب، بل في وطنه الذي يعيش فيه، عليه أن يبحث عن بيئة صالحة؛ تعينه على طاعة الله تعالى.
ومن البيئة الصالحة اختيار ( الصاحب الصالح)، وقد قيل: الصاحب ساحب، فعلى المسلم أن يبحث له عن أصدقاء صالحين، يعين بعضهم بعضا على طاعة الله ونوائب الدهر، ولهذا ورد في الحديث المتفق عليه عند الشيخين – أيضا- أن النبي ﷺ قال: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً”، فالصديق الصالح إنسان نافع، والصديق السيئ إنسان ضار.
ولهذا حرص النبي ﷺ على توجيه المسلم أن يتخير الصديق الصالح دوما، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ“( رواه الترمذي وهو حديث حسن.
وفي سنن أبي داود بإسناد حسن، يقول النبي ﷺ: “لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ“(
ويعلمنا الله سبحانه وتعالى أن نصبر أنفسنا في صحبة البيئة الصالحة، وألا ندع أهواءنا تسوقونا إلى ما فيه هلاكنا، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28]
وقد جاء النهي صريحا في البقاء في بيئة المعصية، بل وجب الفرار منها، كما قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } [النساء: 140]، كما ورد نهي النبي ﷺ عن أن يجلس المرء في مكان يشرب فيه الخمر، ولو لم يكن شاربه، فقد أخرج الإمام أحمد عن عمر والترمذي عن جابر أن رسول الله ﷺ قال: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر. ويقاس عليه كل مكان فيه معصية لله ورسوله، فلا يجوز للإنسان الجلوس فيه ومشاركته، ولو لم يكن يفعل ذلك الحرام، ذلك أن الإنسان مع دوام الجلوس و المخالطة؛ سيتأثر بذلك، فإما أن يشاركه مرتكبا الحرام، وإما أن يهون الحرام في نفسه؛ فلا ينكره، وإما أن يراه الناس جالسا؛ فيدل بفعله على قبول الحرام.
ولهذا لم يكن الاستضعاف مانعا من عذاب الله تعالى يوم القيامة، كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [النساء: 97].
ثم إن الهجرة في معناها هي فرار من الحالة السيئة إلى الحالة الأحسن، وهي هجرة من الضيق إلى السعة، وهي هجرة من الأذى إلى الراحة، وهي هجرة الحرية التي وهبنا الله تعالى إياها، حرية العبادة، وحرية الفكر، وحرية التصرف، وهي في المقام الأول هجرة إلى الله، فحيثما كنت مع الله، فابق، وإلا فهاجر إلى بلد تعبد الله فيه.