في مقالته الهامة بعنوان “هل انغلق باب الاجتهاد في الدراسات الإسلامية في الغرب: رؤية عامة”، والتي نشرها مركز نماء للبحوث والدراسات بتاريخ 7 سبتمبر 2025، يطرح الأستاذ الدكتور عباس بويا سؤالاً جوهرياً يتجاوز حدود الفقه التقليدي. يتناول المقال، الذي شارك في ترجمته كل من المؤلف نفسه والدكتور مصطفى حجازي، مفهوم الاجتهاد كرمز للانفتاح الفكري والتجدد المنهجي، مطبقا إياه على حقل الدراسات الإسلامية في ألمانيا.
الاجتهاد من ضرورة فقهية إلى منهج معرفي
ينطلق الأستاذ الدكتور عباس بويا في مقاله من فكرة التأصيل التاريخي لمفهوم الاجتهاد، مستشهداً بمقولة الإمام عبيد الله العنبري في القرن الثامن الميلادي: “كل مجتهد مصيب”. تطور هذا المفهوم عبر التاريخ الإسلامي ليصبح إطاراً نظرياً يؤسس للتعددية داخل الشريعة، كما أكد الشهرستاني وابن خلدون على أن الاجتهاد والقياس واجبانِ للاعتبار لأن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية.
هذه الضرورة العملية جعلت الاجتهاد مرادفاً للحيوية والازدهار المعرفي، بينما أصبح “إغلاق باب الاجتهاد” رمزاً للركود والجمود. من هذا المنطلق، يطبق الكاتب هذا المفهوم على الدراسات الاستشراقية لاستكشاف مدى انفتاحها أو انغلاقها الفكري.
تحولات الاستشراق الألماني
شهدت المراحل المبكرة للاستشراق الألماني دوافع متنوعة، بدأت بنزعة جدلية لاهوتية مرتبطة بالحروب الصليبية والفتوحات العثمانية لكن مع ظهور عصر التنوير برزت محاولات لدراسة النصوص الإسلامية بموضوعية أكبر.
تعتبر محاولة يوهان ياكوب رايسكه رائدة لتأسيس “الفيلولوجيا العربية” كتخصص أكاديمي مستقل حيث ترك أثرا على الدراسات اللاحقة بالرغم من المقاومة التي واجهها، كما ينسب إلى الفرنسي سيلفستر دي ساسي لقب “الأب الروحي” للدراسات الاستشراقية الحديثة.
هيمن المنهج التاريخي-النقدي على دراسات القرن التاسع عشر، وأثمر ذلك خروج أعمال تأسيسية مثل “تاريخ الخلفاء” لجوستاف فايل و”تاريخ القرآن” لتيودور نولدكه. وفي مطلع القرن العشرين، ظهر توجه جديد نحو العلوم الاجتماعية وفلسفة الحضارات على يد كارل هاينريش بيكر.
هيمنة الفيلولوجيا
شكل استيلاء النازيين على السلطة عام 1933 نكبة كبرى للتخصص حيث فقد الحقل عدداً هائلاً من الباحثين البارزين بسبب أصولهم اليهودية أو توجهاتهم الليبرالية. أما من بقي فقد انصاع للسياسة النازية، مما أدى إلى تقوقع الدراسات الإسلامية في أبحاث فيلولوجية وتاريخية “آمنة” سياسياً.
استمرت هذه الهيمنة للفيلولوجيا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ساد اعتقاد أن الكفاءة اللغوية هي الشرط الأوحد للبحث في الإسلام.
ويعتقد الأستاذ الدكتور عباس بويا أن هذا التصور قاصر، فاللغة أداة ضرورية، لكنها لا يجب أن تكون الإطار الحصري الذي يمنع الانفتاح على نظريات ومناهج العلوم الأخرى.
صدمة إدوراد سعيد والانقسام المنهجي
أحدث كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد هزة عنيفة في الأوساط الأكاديمية الغربية. استثنى سعيد الاستشراق الألماني من نقده المباشر، مرجعاً ذلك إلى إرثه الفيلولوجي الضخم وضعف الوجود الاستعماري الألماني المباشر.
يرفض الكاتب هذا الاستثناء، مؤكداً أن الاستشراق الألماني كان مرتبطاً بالنزعات الاستعمارية. أثارت “الصدمة” جدلاً حاداً أدى إلى استقطاب بين مدرستين:
- المدرسة الفيلولوجية المحافظة تصر على أن مهمتها تقتصر على التحليل النقدي للنصوص، وترفض تطبيق مناهج العلوم الاجتماعية.
- المدرسة المنفتحة تدعو إلى الانفتاح على نتائج ومناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، وترى في ذلك إثراءً للتخصص.
إعادة تعريف مكانة الإسلام في أوروبا
انتقد الأستاذ الدكتور عباس بويا في مقاله إحدى أعمق المسلمات في العقلية الاستشراقية الألمانية وهي افتراض أن الإسلام و”المسلمين يمثلون موضوعا دخيلا أو أجنبيا. مع وجود ما بين 15 و16 مليون مسلم في الاتحاد الأوروبي، منهم حوالي 3.5 مليون في ألمانيا، مما يعني أن الإسلام أضحى جزءاً لا يتجزأ من نسيج المجتمع الأوروبي.
واستشهد الدكتور عباس بويا بتحليل سوسيولوجي لـ رينيه راينشاغن يميز بين:
- الدخيل: المجهول الذي لا يمكن مقارنته بالذات، والذي تقوم العلاقة معه على أساس هرمي من السيطرة.
- الآخر: المختلف الذي تربطه بالذات علاقة أفقية قائمة على المساواة والاعتراف المتبادل.
تحديات جديدة ومسؤوليات معاصرة
شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 نقطة تحول جذرية قفزت بالدراسات الإسلامية من هامش الاهتمام الأكاديمي إلى صدارة النقاش العام ولم تعد قضايا الإسلام شأناً خارجياً، بل تحولت إلى قضايا داخلية مثل : الاندماج، دروس التربية الإسلامية في المدارس، الجدل حول الحجاب، والعلاقة بين الشريعة والقانون الألماني.
ورأى الكاتب أنه لم يعد مقبولا من المتخصصين التنصل من مسؤولياتهم والتذرع بـ”الحياد العلمي”. فهم، بحكم تكوينهم المزدوج، مؤهلون لتقديم رؤى نقدية ومتوازنة في النقاشات المحتدمة.
نحو اجتهاد معاصر
يؤكد الدكتور عباس بويا أن باب الاجتهاد المعاصر في الدراسات الإسلامية يجب أن يبقى مفتوحا إلا أنه يتطلب شجاعة الانفتاح وبثلاثة مستويات:
- منهجيا عبر تجاوز هيمنة الفيلولوجيا والانفتاح على العلوم الأخرى.
- واقعيا عبر الاعتراف بأن الإسلام لم يعد “دخيلاً” بل جزء من الذات الأوروبية.
- سياسيا عبر المشاركة المسؤولة في القضايا المجتمعية المعاصرة.
فكلما ازدادت الدراسات الإسلامية تسامحا وانفتاحا على الحقائق الجديدة، كما يدعو هابرماس، كلما انفتحت أبواب الاجتهاد فيها، لتصبح حقلا معرفياً حيويا ومؤثرا ومستجيبا لتحديات العصر.